ميراث الهُوية لدى المصريين:
تُعرّفُ الهُويّة بأنها "وصف للمكونات الإنسانيةمجتمعة داخل الشخص، وهذه المكونات تشمل العقيدة والحالة الوجدانية والبعد الثقافي والرصيد المعرفي مجتمعين، لتحديد كيف تكون ردود الأفعال أو الاستجابة للمؤثر الخارجي"، هذا من الناحية الاجتماعية. وجاء الاشتقاق اللُغوي للمصطلح من الضمير "هو"، أما اصطلاحًا، فتُعرفُ الهُوية بأنها "مجموعة من السمات والخصائص التي تضع الفرد في إطار يميزه عن الغير، وقد تكون هذه المُميّزات مشتركة بين جماعة من الناس سواء ضمن المجتمع، أو الّدولة".
ويتسع وصف الهُوية في تّعريفاتأُخرى لتشمل كل ما هو مشترك بين أفراد مَجموعة محدّدة، أو شريحة اجتماعية، وقد ذهب البعض في تعريف الهوية إلى أبعد من ذلك، فهناك نظرية "الأبعاد الأربعة"التي أوجدها جمال حمدان، وتفترض تقسيم الهوية إلى أبعاد معنوية مكتسبة تتمثل في البعد الثقافي، والديني، والحضاري، والجغرافي.
البطاقة الشخصية لنجيب محفوظ:
هو نجيب محفوظ بن عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا، وقد أطلق والده الاسم المركّب تقديراً للدكتور نجيب باشا محفوظ، وهو الذي استقبل قدومه للدنيا لدى ولادته وكان ذلك في الحادي عشر من شهر ديسمبر 1911م، وهو أول روائي عربي مُنح جائزة نوبل في الأدب، وبدأ حياته الأدبية في العقد الثالث من عمره، وواصل المُضي فيها حتى حلول عام 2004، وتمركزت رواياته حول مصر والأحداث التي جرت فيها.
نشأ نجيب محفوظ في حي الجمالية بالقاهرة، ونال شهادة الفلسفة من جامعة القاهرة عام 1936 م، وبعدها شرع في التحضير لرسالة الماجستير حول الجمال في الفلسفة الإسلامية، إلّا أنه عدل عن قراره وتقدّم للدرجة العلمية في مجال الأدب.
عمل سكرتيرًا برلمانيًا في وزارة الأوقاف عام 1938 ولسبع سنوات، وفي عام 1954م، أصبح مديرًا لمؤسسة القرض الحسن في وزارة الأوقاف، وانتقل بعدها ليعمل مديرًا في مكتب وزير الإرشاد، وقد أصبح فيما بعد مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية في وزارة الثقافة، ومع حلول عام 1960م، تمكن من استلام منصب المدير العام لمؤسسة دعم السينما، وبعدها في المؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون كمستشار، وفي الفترة المحصورة ما بين 1966 وحتى عام 1971م، شغل آخر منصب حكوميّ في المؤسسة العامة للسينما، فتولى حينها رئاسة مجلس إدارتها.
ولع نجيب محفوظ بالهُوية المصرية:
بدأ نجيب محفوظ مشروعه التوثيقي للهُوية المصرية عبر الرواية بعد أن اكتمل لديه اليقين بضرورة إحياء الهوية المصرية التي رأى أنها أقدم من الهوية الثقافية الإسلامية، حيث كانت مصر قد مرت بظروف مختلفة بدأت بثورة 1919م، التي نادت باستقلال البلاد عن الاحتلال البريطاني، ثم حصلت على الاستقلال عام 1923م، وكتبت مصر الدستور، وصارت فيها حياة نيابية، وعرفت الشكل الديمقراطي في السياسة، والليبرالي في الحياة العامة، فبحث نجيب محفوظ عن الهُوية المصرية الأصيلة.
تراءى لنجيب محفوظ أن يكتب تاريخ مصر في أعمال روائيةانطلاقا من كون مصر دولة قديمة في الوجود الإنساني ولا يمكن طمث هويتها بالرغم من تعدد صبغات التاريخ بألوان مختلفةيونانية، ورومانية وعربية وشركسية وتركيةوأوروبية، فمصر في سجل التاريخ فرعونية الهُوية، وتلك هي الميزة التي تتفرد بها، فصاغ أعماله الروائية العظيمة "عبث الأقدار" و"رادوبيس" و "كفاح شعب طيبة".
لم يغفل نجيب محفوظ المكون العقائدي في الهوية المصرية، وهو المكون الذي تأطر فيه المصريون حتى يومنا هذا، سواء في مصر الإسلامية، أو مصر القبطية.
ظلنجيب محفوظ حائرًا بين الفلسفة والأدب، وأعدَّ رسالة في فلسفة الجمال في الإسلام، وقد تبين جليًا أن الهُوية المصرية في ظنه تأثرت بالناحية الإسلامية، ومع ذلك، اختار طريق الأدب الروائي وكانت الرواية وسيلته للتعبير الثقافي عن هوية مصر، ومن ثم جاءت كتاباته الروائية تاريخية فرعونية.
نجيب محفوظ ومعترك السينما التوثيقية:
بعيدًا عن التعريف الاصطلاحي لمفهوم السينما الوثائقية، لا ينكر أي أكاديمي أن الأدب الروائي لنجيب محفوظ تميز بأنه أحد روافد كتابة تاريخ المصريين عبر السينما؛مخاطبا الأديب الراحل جمال الغيطاني في أواخر الثمانينيات، قال نجيب محفوظ "السينما دخلت حياتي من الخارج، لم أكن أعرف عنها شيئًا، نعم كنت أحب أن أشاهد سينما، لكن كيف يعد هذا الفيلم؟ لا أدري، كل ما أعرفه أن هذا الفيلم لـ رودلف فالنتينو، لـ ماري بيكفورد، لا أعرف أن هناك كاتب سيناريو أو غيره". كانت هذه الومضة بداية انخراط نجيب محفوظ في الكتابة للسينما.
في منتصف أربعينيات القرن الفائت، خرج إلى النور أول أفلام نجيب محفوظ، وهو "مغامرات عنتر وعبلة"، وتم تصنيف نجيب محفوظ آنذاك كأول أديب عربي يكتب للسينما، وتوالت الأعمال فيما بعد في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وشهدت ميلاد أفلامه:"المنتقم"، و"لك يوم يا ظالم"، و"ريا وسكينة"، و"فتوات الحسينية"، و"شباب امرأة" وحتى "أنا حرة" و"إحنا التلامذة".
في نهاية الخمسينيات، توقف إنتاج نجيب محفوظ السينمائي، وكان السبب توليه منصب مدير الرقابة في فترة عُرفت بـ "سنوات اليأس الأدبي"، فكان محفوظ موظفًا يستيقظ صباحًا، يؤدي عمله الروتيني، يتناول خمسة فناجين قهوة، ولا يزور مفكرتهسوى بضع ساعات في اليوم حتى يخلد إلى النوم في الثانية عشرة منتصف الليل.
في بداية السبعينيات عاد نجيب محفوظ إلى السينما، وعندما حصل على جائزة «نوبل» عام 1988، وهو أول عربي يحصل على هذه الجائزة في الأدب، كان رصيده 59 فيلمًا سواء في شكل قصة، رواية، أو أفلام كتب لها القصة والمعالجة السينمائية أو السيناريو، وحظي نجيب محفوظ برصيد أفضل سبعة عشر فيلمًا ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، كما احتل المرتبة الثانية ضمن أفضل كاتب سيناريو سينمائي.
هناك الكثير ليقال في حق نجيب محفوظ حول علاقته بالسينما المصرية التي جعلت السينما تحاكي رواياته وليس العكس، وينسب إلى الرجل استحداث مصطلح "المصداقية السينمائية" التي رسخها أدب نجيب محفوظ في التعبير السينمائي، وخير شاهديَن على هذه المصداقية هما فيلما "خان الخليلي" و"بداية ونهاية" من إخراج صلاح أبوسيف، كأصدق الأعمال السينمائية التي نُقلت إلى أعتاب العالمية.
في المجمل، يرى النقَاد أن روايات نجيب محفوظ كانت صيدًا ثمينًا لصناع السينما، ساهمت في تشكيل الوعي الشعبي عند المجتمع المصري، والغريب أن نجيب محفوظ لم يكن قانعًابأعماله السينمائية، ونُقل عنه أن السينما لم تكن تُشكل له إغراءات مالية.
نجيب محفوظ ذاكرة الشخصية المصرية:
يتباين تعريف ومفهوم "الشخصية" بين العلوم الإنسانية، فتعريف الشخصية في علم الاجتماع ليس مطابقا للتعريف في علم النفس، ولعل أدق التعريفات التي تحظى بالقبول من العلوم الإنسانية على اختلافها هو أنها "تنظيم داخلي يتوسط المسافة بين المؤثر الخارجي والاستجابة الداخلية"، وهنا تجد أن لفظ الشخصية ينصَبّ على كائن حي يتمتع برصيد معرفي وإدراكي يستخدم الخبرة والثقافة في إتيان رد الفعل الذاتي كاستجابة لمؤثر خارجي.
عندما يتحدث المثقفون وكتاب التاريخ، بل وقراؤه، تجدهم يستدعون نجيب محفوظ كصائغ محترف في وصف الشخصية المصرية.
عندما تربّع نجيب محفوظ على عرش الأدب الروائي المجسد للشخصية المصرية في أربعينيات القرن الماضي كان كمن يمسك بعصا موسى التي أكلت ما قبلها، لا بمنطق الإقصاء ولا التدمير ولا الإخفاء، ولكن بتغيير نكهة تعاطي التاريخ والأحداث، فلم تكن أوصاف الحياة معروفة ضمن الإنتاج الأدبي قبل نجيب محفوظ إلا من خلال الشعر، ويكاد المثقفون يجمعون على استحداث تقويم جديد يفصل بين ما قبل محفوظ وما بعده، على الأقل من قبيل توثيق الحياة المصرية.
قدَم نجيب محفوظ للوطن والثقافة العربية كلها أكمل مشروع أدبى روائي باللغة العربية، ولعله آخر روائيأرّخ لمراحل الهُوية المصرية وتحولات الشخصية المصرية في رباط ذكي أوجد فيه مساحة للمعتقد الديني لدى المصريين، ولعل عبقرية نجيب محفوظ مركبة من حَيْرَة المفكر ووَلَه الصوفي، ونسيج فنّه مُؤلّفٌ من تجارب المصري من خلال النموذج "القاهري"، وهو ابن البلد المتميز بثقافة، بعضها فطري، والبعض الآخر مكتسب.
هل تنبأ نجيب محفوظ بتحولات في المجتمع المصري من خلال الرواية؟
لعل أجمل ما تركه نجيب محفوظ في أعماله الأدبية، قراءة "الطالع المجتمعي" لتغيرات جاءت همسًا في أعماله الأدبية، ثم باتت حقيقية على أرض الواقع، مما حدا ببعض المفكرين إلى إعادة قراءة أدب نجيب محفوظ لاستخراج تجليات النبوءة في أعمال محفوظ.
من السهل على المراقب اللصيق بفكر نجيب محفوظ وقصصه وسيرته الفكرية والأدبية أن يدرك بسهولة عدة ملامح في حياته، فهو ابن الشارع المصريسليل الطبقة الوسطى الحضرية، فكان والده من الجيل المصري الأول الذي عمل بالبيروقراطية المصرية التي تأسست على مراحل في عهود محمد علي والخديو إسماعيل، وصولًا إلى اللورد كرومر.
أما الالتقاء الروحي بين محفوظ وثورة 1919، بزعامة الوفد والحراك الثوري للأزهر وجامعة القاهرة، فقد أثرى لدى نجيب محفوظ الوطنية المصرية والمجال السياسي المصري الحديث، وأدى إلى استقرار المصريين كشعب متجانس ومُوحّد صاحب سيادة على أرضه وثرواته، وهنا كانت النقلة النوعية في أدب الرواية لنجيب محفوظ.
عندما كتب نجيب محفوظ رواية"القاهرة الجديدة"عام 1945، حدد فيها مسارًارئيسيًا مؤرخا للتاريخ الاجتماعي لمصر من خلال الأدب الروائي، وكانت هذه نقطة تأسيس لوصف مستقبلمصر السياسي قبل أن يعيشه المصريون على أرض الواقع، وقد ركز محفوظ في هذا العمل على وصف التيارات السياسية والثقافية، وأنماط التدين التي ستسود المستقبل الاجتماعي، ولم ينس تحولات النخب الحاكمة والتقلبات داخل المجتمع المصري.
ترك نجيب محفوظ إرثًا ثقافيًا من الروايات، أبرزها ثلاثية "بين القصرين وقصرالشوق والسكرية"، وكذلك"اللص والكلاب"، و"السمان والخريف"، و"الطريق"، و"ميرامار"،و"المرايا" و"الحب تحت المطر"، و"الكرنك"، وغيرها العديد من الروايات.
نال نجيب محفوظ قلادة النيل العظمى، وجائزة نوبل للآداب، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب، ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى، وجائزة مجمع اللغة العربية، وجائزة وزارة المعارف، وجائزة قوت القلوب الدمرداشية.
وفاة نجيب محفوظ:
أُصيب نجيب محفوظ بوعكة صحيّة ألمّت به، تمثلت في "القرحة النازفة"، واستمرت عشرين يومًا، ورقد بعدها على سرير الشفاء في مستشفى الشرطة في محافظة الجيزة إثر المشكلات الصحيّة التي طالته، وتوفّي فيالثلاثين من أغسطس عام 2006م، عن عمر يناهز الـ 94عامًا.
نجيب محفوظ من المحلية إلى العالمية:
لعل فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدبهو ما مهّد الطريق أمام تواجد الأدب العربي على الساحة العالمية، فقد بدأت إيطاليا بترجمة الأدب العربي شعرًا ونثرًا للغة الإيطالية، بعدما كانت 10 روايات عربية فقط هي التي تُرجمت.
نجح نجيب محفوظ فيما لم ينجح فيه العالم العربي في رسم شخصية للثقافة العربية، وأخرج الأدب العربي إلى حيز الوجود الغربي، وتُرجمت أعمال محفوظ للغات عالمية عدة، وبذلك أتاحت الترجمةتقديم الثقافةالعربية والأدب الروائي العربي للعالم.
أمّاالشخصيات التي أتى بها نجيب محفوظ في رواياته، فهي منتقاة من عمق الحارة والطين المصري، وهي شخصيات مصرية تفيض بالرمزية التي تُميز الهُوية المصرية، وحفظتها عبر صفحات أدب الرواية.