الإثنين 20 مايو 2024

أمي والهوية

فن11-10-2020 | 22:03

لئن كانت الهوية تستخدم كتعبير عن السمات التي تميز شخصًا عن غيره من خلال عدة عوامل مثل المكان والنوع والتاريخ واسم القبيلة وعاداتها وغير ذلك من الأمور، فإنها تظل -أي الهوية- أمرًا مكتسبًا، لا يلد الإنسانُ وارثًا إياه في جيناته، إنما يتشكل معه وقت ظهوره إلى الدنيا، بل يبدأ في الدقائق الأولى من حركته الإرادية في بطن أمه.


والأم هي ألصق الناس بوليدها، يأمنُ لصوت دقات قلبها في ظلمات الرحم؛ فتراه بعد أن يُولد ويصير طفلًا ثم يكبر يهدأ حينما تحط رأسه في حجر أمه، تربت على كتفه، وتدعو له. الأم في نظري هي المكون الرئيسي في هويةِ كلٍ منا، أدركنا ذلك أو لم ندرك.


وفي هذا المقال أسعى أن أرسم صورةً صافية عما أحدثته أمي في هويتي.


تزوجتْ أمي منذ ما يزيد على الثلاثين عامًا، أنجبتنا ولم تبرح قريتنا إلا إلى القاهرة أو أسيوط لأغراضٍ علاجية، أو إلى البحر الأحمر لغرض الترفيه عن النفس، والأخير كانت تخبرنا دومًا أنه يتحقق لها بأن تنظر فتجدنا سالمين آمنين هانئين، وأن أمنًا عميقًا يلفها في بيتها، بالقرب من فرن خبزها، وبيت دجاجها الذي تتعاهده بالرعاية يوميًا.


رغم هذه القلة من السفر والترحال، أقصد الندرة، إلا أن أمي، وهي التي تجهل القراءة والكتابة، تعرف أكثرَ مني، لا يعوزها التعبير الدقيق عن ماهية الأشياء وتقييمها للبشر ونظرتها دومًا تكون في محلها. أمي ترى بقلبها وفي هذا قمة الإيمان.


يعزى إليها الفضل في ما وصلت إليه من علم، وقدرة على الحكي والكتابة. تحب العلم وتحب الأولاد الذين يفلحون في طلب العلم. أما بخصوص الحكي لا أزال حتى يومي هذا، وكلما شرعت في كتابة مقالٍ، أو رواية، أو قصة قصيرة، أرى ذلك المشهد الذي كان يتكرر طيلة أيام الشتاء؛ في قريتنا تلك المرمية في حضن النيل، كان الليلُ مظلمًا أشد ما يكون الإظلام، غالبية الناس يلوذون ببيوتهم، ولا يملأ الشوارع سوى الكلاب، كان يُخيّل لي أن الغولة من تشاركهم لهوهم وعراكهم ونباحهم، وفي ليالٍ عدة كنتُ أظن أن الشوارع تخلو منهم لاستيلاء العفاريت وأزواجهم وعيالهم على الشوارع والدروب، فتسكت الكلاب عن النباح. الغولة والعفاريت هم أبطال حكاياتها لي، ومسرح الأحداث طرقات البلدة ومساقي الغيطان وبالطبع، مراقد النيل ومواطن اندفاعه.


عرفت منها قبل أن أعرف من الآخرين، ومن خلال الحكي أيضًا، أن الثعلب اسمه عندنا (أبو الحصين)، وأن سردابًا يعبر من تحت مجرى النيل ليربط الغرب بالشرق، وأن للقدر طاقة تُفتَح في جسد السماء للصالحين والصالحات من العباد، وأن الليل والنهر لم يخلق بعد من يقدر على ترويضهما، وحكايات أخرى كثيرة من الخيال التراثي الصرف تجد سبيل تحررها في أحرف كتاباتي وأفكاري.


(يا أمي إني خائف)


كنت أقول ذلك عقيب حكاية من حكاياتها، فتضحك وتمسد شعر رأسي، وتقول لي بنبرة ساحرة: (هو فيه إيه في بلادنا يا ولدي غير التقوى واليقين) تقصد أن المخلوقات في بلادنا كلها مملوءة بالتقوى ويقين الأمن فلا تخف. كنت لا أفهم تلك المصطلحات التي تحيلني إليها في ذلك الوقت، لكن نبرة الصوت منها كانت كفيلة بإعادتي إلى سكينتي، وإني وجدت أثر هذه الكلمات ولمسته في تسرب بصيص الأمن هذا إلى أحرفي فيما بعد.


أمي لا تشرب الدخان، كما تفعل معظم النسوة في الصعيد، تجلس لتحكي فتفعل في هدوء بالغ، تنطق جملها على مهل، وتمارس هواية التشويق بطريقةٍ تمنيت لو أجيد نصفها. يرهقها وجع الركبتين، وتمشي الهوينى كما كلامها، لا يمكنها وطء الأرض على قدميها، بل ترفع جنبًا وتضغط على الآخر  في مشيةٍ يسطو فيها الألم ويظهر على كل شيء.


منها تعلمت قيمة الصبر والتضحية؛ تجلس بعد العصر، تفترش الأرض، ولا تطيق المقاعد ولا الأرائك. تشرب شايها المصنوع هو الآخر على مهل، تنظر إلى ابنها البكري، يكبرني بعام وشهور، تبتسم له؛ فيبتسم لها، ثم تغازله وتضاحكه، رغم أنه يرهقها يوميًا، فهو ابن الثانية والثلاثين المصاب بإعاقة جعلت مسائل نظافته الشخصية وتطبيبه وأكله وشربه موكلةً إليها بالاشتراك مع أبيه. أنظر إليها أنا بدوري، أتأمل قصرها، وجهها الصافي، التجاعيد التي بدأت تزحف إليه، أمسك قلبي فأجده في عينيها، لا تخفي أمي خوفها علينا من الأيام لكنها ترجع وتقول الكريم لا يُضام.


هذا المقال قليل الكلمات لا من علة محدودية النافذة المتاحة، إنما من هيبة المحكي عنه. في الصعيد أكتب هكذا عن أمي، أكتب عنها على الملأ وأخجل أن أنطق حرفًا مما كتبتُ أمامها. كأن الأمهات في هذه البلاد لبسن من أردية الهيبة كما لبسن من أردية الرحمة، وإن كانت رحماتهن تتنزل علينا وقتَ ما نحتاج، فإن هيباتهن أنشأتنا رجالًا يكسوهم الحياء في كل فعل.


أدام الله الأمهات مصادر للهوية القويمة وبارك الله في جميعهن على وجه الأرض.