الخميس 27 يونيو 2024

الأستاذ يقدم مربعات الخال

فن12-10-2020 | 03:10

وجدت هذه الكتابة بين أوراقى، وقد كنت شاهدًا على علاقة الاثنين "هيكل والأبنودى" - يرحمهما الله رحمة واسعة بلا حدود - لست أدرى هل هذه الكتابة مقدمة ديوان للأبنودى كتبه هيكل أم لا، فكان هيكل كريمًا جدًا فى كتابة مقدمات لما يعجبه من الشعر أو القصة أو الرواية، ذلك أن روح الفنان فى أعماقه أقوى وأبقى من روح الصحفى، مع إنه أهم صحفى مصرى وعربى فى القرن العشرين، والسنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين،

أما الخال، هكذا كنا نناديه حتى نجيب محفوظ كان يناديه هكذا، فأي كلام عنه لا يوفّيه حقه أبداً،

والآن ما كتبه الأستاذ عن الخال:


كتب هيكل فى مقدمته لديوان المربعات للأبنودى:


¬- ديوان المربعات، آخر عمل شعرى صدر فى حياة عبد الرحمن الأبنودى قبل رحيله عن عالمنا، وكانت المفاجأة الحقيقية أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كتب مقدمة لهذا الديوان، وهيكل كتب الكثير من المقدمات لكتب أخرى كثيرة، ربما تتعدى الخمسين كتابًا، كتب لها خمسين مقدمة، ولكن ما كتبه للأبنودى أهميته تتركز فى أن الرجل لم يكتب من قبل عن الشعر، خاصة شعر العامية، وأن هذه المقدمة عندما نشرت فى حياة الأبنودى قال كثيرون إن مقدمة هيكل ربما كانت أهم من الديوان نفسه، وعبد الرحمن الأبنودى قال هذا الكلام فى حياته.


الذى لا يعرفه الآخرون أن الأستاذ هيكل من متذوقى الشعر، بل ومن الذين يحفظون الكثير من الأبيات الشعرية، وعن نفسى أعترف أن هيكل هو الذى لفت نظرى لأهمية شعر أحمد شوقى، وكنا فى المدارس الابتدائية فى خمسينيات القرن الماضى، قد قال لنا المدرسون إن شوقى هو شاعر السلطان، وإن أمه كانت وصيفة فى القصور العلوية، نسبة إلى محمد على باشا، وهذا الكلام أقام مسافة بينى وبين شعر شوقى، ولولا هيكل ما قرأت لشوقى، والرجل - الأستاذ هيكل - يحفظ الكثير من شعر شوقى.


لا يحتاج عبد الرحمن الأبنودى -  بالطبع - إلى من يقدمه للناس، لأنه حاضر أمامهم طلعة وطلَّة، وصوتًا هادرًا، وجاذبية مغناطيس يشد ما حوله.


ولا يحتاج عبد الرحمن الأبنودى إلى من يحلل الإنسان فيه، فالخلاصة فى شأن الأبنودى أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر مرتحلاً إلى الشمال، حاملاً معه خصب النهر العظيم ينثره حيث يصل، ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد، وإلى شوك أحياناً!!


وأخيرًا لا يحتاج عبد الرحمن الأبنودى إلى من يُمهِّد لعمله، فذلك العمل أغنية يتردد صوتًا وصدى فى أرجاء الوطن العربى.


وحين سألنى عبد الرحمن الأبنودى إذا كنت أستطيع تقديم مربعاته عندما تُنشر على شكل كتاب، فإن طلبه أسعدنى، ليس فقط لأننى كنت أتمنى لهذه المربعات أن تظهر كاملة على شكل كتاب، وإنما سعادتى أن طلبه جاء فرصة متجددة أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها، بعد أن تابعتها يومًا بيوم تُنشر متقطعة على صفحات جريدة يومية.


وتصورت فى كل الأحوال أن قراءة المخطوطة فى صورتها الأصلية وقبل أن تدور بها المطبعة فرصة حميمة بين المربعات وبيني، تتيح لى قراءتها مكثفة مركزة؛ تحمست - إذن - لكتابة مقدمات للمربعات دون أن يخطر ببالى لحظتها أن الأمر أصعب مما تصورت، وأعقد مما قدرَّت.


عندما قرأت هذه المربعات من جديد مرة واحدة، وباهتمام غير منقطع، تجلت أمامى مربعات الأبنودى على صورة مختلفة، تذكرت المقولة الشهيرة التى سمعناها قبل أربعة قرون من فلاسفة جامعة "فرايبورج"  - وهى من أُوَلْ جامعات زمن النهضة - إن كل الأنهار تتسابق إلى البحر، إشارة إلى وحدة المعرفة مع كثرة المنابع.


فى قراءاتى المتقطعة الأولى فإن المربعات كل يوم بدت لى نوافذ على فضاء لا يصل إليه النظر، وعند القراءة الثانية الموصولة سياقًا واحدًا بدت لى المربعات أفقًا غير محدود، ساحة بحر واسع، لكنه خضمّ حافل بكل فصول الطبيعة فى الوقت نفسه، فى اللحظة ذاتها؛ صامت هادئ فى موقع، غاضب هائج فى موقع آخر، نائم حالم قُرب صخرة، ثائر جامح يضرب نفس الصخرة بقوة إعصار.


ساءلت نفسى طويلاً كيف يمكن وصف هذا المشهد غير الطبيعى على لوحة الطبيعة ذاتها، ساحة واحدة، ومناخ تتباين ظواهره من صيف إلى شتاء، ومن ربيع إلى خريف، وشراع مرفوع داخلا إلى البحر قادمًا من النهر؛ فسر مربعات الأبنودى يتجلى عند القراءة الموصولة، ومحاولة جديدة وتلقائية ما بين الأدب والسياسة، بين الفكر والتاريخ، بين الفن والثورة، فهو شاعر عاش وسط الجماهير وهى تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلاً، وهو لا يغنى لهذا المستقبل من بعيد، وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها، وهى تتدافع بالزحف أحيانًا، وبالتراجع أحيانًا أخرى، خطوة بالأمل وخطوة بالألم، وهى أحيانًا صيحة بالفرح تهلل، وفى أحيان أخرى جرح بالوجع مفتوح.

والثائر الشاعر فى قلب المعمعات، هو الثائر يومًا، وهو الشاعر فى اليوم التالى، هو الفعل فى الصباح، وهو الضمير فى المساء.


ما يدعو للتأمل أن عبد الرحمن الأبنودى واصل كتابة مربعاته سنة كاملة، يومًا بعد يوم، وصباحًا بعد صباح، لا يسكت ولا يهدأ ولا يكل ولا يمل؛ يصبح بالقلق على السياسة أن تتماسك لتصنع تاريخًا، ويصرخ بالنذير حتى يمنع النسيم أن يتحول إلى عاصفة، ويمسك بالجمع كي لا ينفك إلى شراذم، ولا يتفرق إلى هباء، يريد للتاريخ أن يتحول إلى نبوءة، ولا يريد للسياسة أن تتحول إلى لعنة؛ وهو يواصل المحاولة لعام كامل، مربع إلى جانب مربع، نافذة بعد نافذة، ثم تتجمع النوافذ وتتفتح على بعضها، فإذا هى بحر متلاطم، وأفق بعيد، فالقراءة الموصولة للمربعات هى وحدها التى تكشف وتبين.


ساءلت نفسى بعد القراءة الثانية الموصولة للمربعات، بعد سنة كاملة واصل فيها عبد الرحمن الأبنودى كتابة مربعاته، ثم أغلق دفترها ونحّى القلم، هل استراح واطمأن، ورأى أن يعطى لنفسه لحظة هدوء وصفاء بعيداً عن صخب البحر وموجه العاتى وصخره، أم أن القلق استبد به خشية أن يضيع صوته فى اللامحدود يطغى عليه هدير البحر ويغطى نشيده؟!!


هل أرهقه الإيقاع المنتظم كل صباح وحسبه قيدًا على الشاعر، لأن الشراع لا يطبق قيداً أو رباطًا، ولا خطًا ملاحيًا يحدد مسار حركته مسبقاً من النهر إلى البحر؟!!


لا أعرف جوابًا قاطعًا، لكنى أعرف أن الشراع القادم على النيل من صعيد مصر إلى شمالها لا يزال يصارع فى أعالى البحار، والريح لا تزال تملأ ذلك الشراع، وهو يواصل رحلته إلى أفق لم يظهر بعد شاطئه.