الأحد 5 مايو 2024

تمظهرات التحول الرقمي في التواصل الاجتماعي العربي

تحقيقات13-10-2020 | 21:39

لم يعد الحديث عن المعلوماتية والثورة الرقمية غريبا في مجتمعاتنا العربية، ولم تعد الالتفاتة لأثرها البين في يومياتنا تستغرق وقتا. فلقد أضحى عالمنا العربي رقميا بامتياز واستطاع أن ينخرط في الموجة الرقمية التي ابتلعت العالم بسلاسة، وهو ما صار يُصطلح عليه بالحتمية الرقمية التي صارت واقعا معيشا مع الجيل الرقمي (جيل الإنترنت) الذي خرج إلى الدنيا مع صورة الميلاد. ولم يستثن كبار المثقفين والمبدعين من كل هذا، فلا يمكن أن تجد اسما عربيا مؤثرا إلا ويثبت حضوره عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، ولعل هذا أهم مظهر من مظاهر التحول الرقمي في مجتمعنا العربي، والذي يجمع مختلف أطياف المجتمع الواحد. حين نبحث عن آثار التحول الرقمي في عالمنا لن نبذل جهدا كبيرا ولكننا سنجد أنفسنا نعدّ بعض المظاهر التي لم تعد ظواهر بل صارت عادات يومية تلقائية، فالفرد يمارس العديد من التصرفات التي اكتسبها  خلال التحول الرقمي دون أن ينتبه إليها، فهو يبعث برسائل الـ "إس إم إس" كل لحظة ليضمن أبسط الخدمات، وهو يعود إلى محرك البحث ليجد أجوبة عن أسئلته العابرة بكل تلقائية، وحين يرغب في الحصول على خدمة سريعة فهو يستعين ببعض المنصات الافتراضية التي توفر خدمات سريعة عبر الحجز الإلكتروني.


سنلملم أطراف المقال الذي يستجلي التحول الرقمي العربي عبر نقاط متدرجة نصل بها إلى رؤية واضحة وتشخيص بيّن لهذا التحول الرقمي في حياتنا ونحن بالقرن الواحد والعشرين، سأتحدث عن شقين أراهما مهمين جدا، وقبل ذلك سنقف عند مفهوم الرقمية وتقنيات التواصل.


الرقمية وتقنيات التواصل:


نتحدث عن المعلوماتية اليوم بشكل من الألفة والراحة، فلم يعد المصطلح شائكا كبدايات ظهوره، "فالمعلوماتية هي أداة فحسب، وتاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ الأدوات التي يستخدمها الإنسان في تحقيق حاجاته، وهذه الأدوات تؤثر بدورها في طريقة الحياة." ولعل تقنيات الاتصال المؤثرة بشكل هائل في حياتنا تستدعي منا بعض المراجعة والفهم، فلقد كان اختراع الحاسوب من أهم الاختراعات التي حققها الإنسان في قائمة اختراعاته وأردفها بأجهزة الاتصال الإلكترونية كالألواح الذكية والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة التي ربطت الناس ببعضهم وجعلتهم على تواصل مباشر مع من يعرفون ومن لا يعرفون، فها هي قنوات تزاحم تصفحك وها هي إشهارات يدعمها الإنترنت تقتحم خصوصيتك وتفرض نفسها عليك دون استئذان، فبأبسط تعبير إنه عصر التواصل بامتياز ولا يمكن لك أن تحجز مكانا خارج هذه الدائرة فلم تعد تملك ذلك الخيار، إن التواصل الرقمي الذي سنخصص الحديث عنه سيشمل نوعين: التواصل الإلكتروني الذي يوفره الإنترنت كما سنتحدث عن التواصل الافتراضي الذي تحققه منصات التواصل الاجتماعي تحديدا.


التواصل الرقمي العام: 


يتواصل عامة الناس عبر منصات التواصل الاجتماعي ويشكلون تجمعات تربطهم داخلها روابط مشتركة تحقق لهم نوعا من التوافق والانسجام فيما بينهم، فعلى موقع الفيسبوك مثلا يتجمهر الناس في مجموعات فيسبوكية يربطهم فيها رابط المكان مثلا أي المدينة الواحدة أو الهدف الواحد أو التخصص المشترك، ويتواصلون فيما بينهم بأسماء حقيقية أو مستعارة، ويحقق كل واحد من أفراد هذه المجموعة هدفه الخاص وإن لم يجد ضالته فيها فما أيسر عملية إلغاء الاشتراك والمضي في حال سبيله، وذات الحال بالنسبة لبقية منصات التواصل الاجتماعي التي غيرت حياة الشباب وكرست لهم تقنيات سريعة ليتواصلوا ويوصلوا قصصهم للعالمية في ظرف استثنائي من خلال آلية البث المباشر. "وهو ما يجعلنا نعيد النظر في تصورنا للأبعاد الثلاثة المستعملة للزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، لكي لا نحتفظ منه سوى ببعد واحد: المباشر المتصل". فيمكنك مشاطرة الجميع ما تفعله وكذلك يشاطرونك، إنه الراهن الذي جعل من الحياة متجددة في كل حين حيث تقترح عليك مستجدات مع كل نقرة، إنها حضارة الإصبع.


لا يكتفي عامة الناس بالتواصل الرقمي فيما بينهم لمجرد التواصل، فهم صاروا يعتبرونها مورد رزق من خلال إنشاء قنوات يوتيوبية يتم الإشهار لها عبر الفيسبوك وغيره من هذه المواقع التواصلية، وبعدد المشتركين وعدد المشاهدات يتم منح امتيازات من موقع اليوتيوب وهذا ما تفطن له الكثيرون فأصبح التواصل الرقمي نمط حياة لهم فهم يشاركون متابعيهم مختلف أنشطتهم وتصبح حياتهم علنية معروفة للعيان.


إن التسوق الإلكتروني هو أحد أهم مظاهر التواصل في حياتنا المعاصرة، فالكثير من عامة الناس يتبضعون عبر مواقع بيع وشراء إلكترونية، وهم بذلك يتجاوزون استخدام الإنترنت بين الأشخاص ليتواصلوا مع شركات عالمية مصنعة يتم فيها الشراء مباشرة بين الزبون والشركة، وهو ما يبرز احترافية عالية في التغلغل في الموجة الرقمية وركوبها بكل أمان وأريحية. يكفي أن يتوفر لك تدفق إنترنت لتحقق مطلبك وتقتني ما تعجز أن توفره الأسواق والمحلات المتوفرة في محيطك، وهذا التحول الرقمي أجبر أشهر الماركات العالمية -في مختلف المجالات الحياتية- على اقتحام الرقمية وتوفير خدمة بيع وتوصيل لضمان مكانتها في السوق العالمية. "إن مسألة التكنولوجيا اليوم ليست مسألة عادية، إنها مسألة مصيرية، تتعلق بمصير الإنسان ومستقبله وطبيعة وجوده، بل بأسرار تركيبته الداخلية (الهندسة الوراثية) وطاقاته الكامنة". فالألفية الثالثة منذ بوادرها الأولى حافلة بالمتغيرات الجارفة التي عصفت بصورة العالم الثابتة، والبقاء للأعلم دون شك، نظريات مستحدثة في كل العلوم استطاعت أن تقلب موازين القوى بكل سهولة وسرعة وجعلت من الإنسان رقميا بامتياز واقترحت الكثير من الدراسات مصطلح (الإنسان-الآلة) وجعلته غاية منشودة.


التواصل الرقمي الخاص: 


هناك نوع من التحول الرقمي طبع حياة شريحة معينة في مجتمعاتنا العربية وهي الشريحة المؤثرة فيه، والتي تُعرف بالنخبة فهو "تواصل نخبوي"، وعندما نتحدث عن هذا النوع من التواصل فإننا نركز على نوعيته وضرورته بالنسبة لطرفي التواصل، فــــ "ما دخل أحد من النخبة إلى تويتر وأسس له حساباً إلا بوازع من سلطة الجماهير عليه، إما بطلب مباشر من مريديه بأن يفتح حساباً يتواصلون عبره معه، أو بإحساس منه أنه مطالب بذلك، أو بتأثر من أقرانه الذين سبقوه إلى الموقع". لقد استطاعت الرقمية أن تجلب إليها النخبة بشكل كبير. تحرص القنوات العربية العامة والخاصة على توفير منصات إلكترونية لضمان أكبر عدد من المشاهدة لبرامجها، ولا يمكن تخيل جريدة دون نسخة إلكترونية، وها هي سوق الكتب تُزاحَم بالكتب الإلكترونية وتُحاصَر حتى باتت تشكل خطرا على الإصدارات الورقية الحديثة، وهو ما جعل الأساتذة والباحثين والمتخصصين في شتى المجالات يحجزون مكانتهم في هذا الفضاء الرقمي عبر مواقع ومدونات خاصة، ويحرصون على التواجد عبر منصات التواصل الاجتماعي ليضمنوا حضورهم وترويج إنتاجاتهم الفكرية، وحتى الرؤساء باتوا يتفننون في التواصل الرقمي مع شعوبهم عبر تغريدات مواكبة للأحداث المستجدة في كل حين.


في الجامعة يحرص القائمون على البحث الأكاديمي وعلى رأسهم الأساتذة والمؤطرون على هذا التحول الرقمي في التواصل مع طلبتهم، فلم يعد من الغريب أن يوفر الأستاذ إيميل خاص لطلبته ليتواصلوا معه ويرسلوا البحوث إليه، وصار من المتفق عليه أن يتكتل الطلبة في مجموعة افتراضية ينخرطون فيها جميعا لضمان وصول المعلومة سريعا إليهم وحتى نقاطهم وتوزيعاتهم الأسبوعية صاروا يتلقونها عبر هذه الأفضية الرقمية والافتراضية. وتخطو أكبر الجامعات العربية خطوات سريعة نحو الرقمنة من خلال فرض تواصل رقمي على المنخرطين تحتها من أساتذة وطلبة، نحن نتقدم نحو التعليم الإلكتروني الذي اعتمدته الكثير من الجامعات في العالم مقابل شهادات معترف بها. وأظن أن هذا الاختيار لا مناص منه أمام حتمية تكنولوجية لم تعد اختيارية، وحتى تضمن تواجدك العالمي يجب أن تثبت حضورك رقميا، وإن خفت على بحثك ألقه بالإنترنت لتثبت أسبقيتك وشرعيتك، فالتواصل الرقمي أعطى أبعادا أخرى للتواصل الاجتماعي وللرقمية في حد ذاتها، حيث لم تعد هذه الأخيرة مجرد حاملا للرسائل أو خيارا ثانويا بل صارت نموذجا لحياة فعلية يكاد البعض أن لا يتواجد في عداها، فهناك من انخرط بشكل كلي في الرقمية ولم يعد يملك قلما ولا ورقة في منزله وصار يقضي كل حاجياته عبرها. 


قبل أن أختم هذا الموضوع يجب أن أنبه إلى نقطة مهمة جدا وهي التي تجعل من التواصل الرقمي العربي متعثرا إلى حد كبير وتعتبر معضلة في نهاية الأمر؛ وهي بطء تدفق الإنترنت في الكثير من الدول العربية وهو ما يثبط الجهود الجبارة لرقمنة الحياة بصورة عامة، فتذبذب الإنترنت يعطل الكثير من المصالح ويجعل من اعتماد هذه التقنيات أمرا واردا بالدرجة الثانية لأنه غير موثوق، ولكن هذا لا يقلل من الجهود المبذولة في الكثير من المؤسسات والجامعات لإثبات حضورها الرقمي، وكذلك جهود الدولة في رقمنة المؤسسة من خلال فرض تطبيقات وبرامج معينة ليتم التواصل من خلالها والتسجيل الإلكتروني في الجامعة والحج وغيرها من جوانب حياة المواطن. وبين التواصل الرقمي الخاص والعام يتحقق التواصل الإلكتروني والافتراضي، ولا مناص من استغلال كل هذه الخدمات المتوفرة والتي تستجيب لتطلعات المشتركين والمتابعين.

 

على الرغم من أثر التحول الرقمي البيّن في حياتنا وكونه حتمية لم يعد من الممكن الاستغناء عنها، إلا أن هناك سلبية لا يمكن غض النظر عنها في هذا النوع من التواصل الاجتماعي وهو ما يمكن وصفه بغياب النوع في تواصلنا الرقمي، فتبادل التهنئة في المناسبات كرسائل إلكترونية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي (افتراضية) يُفقد التهنئة ذلك الدفء والحميمية التي لا تتوافران إلا عبر اللقاء المباشر وقراءة تعابير الوجه في ذلك التواصل.


 إن التواصل الإلكتروني والافتراضي –سواء بشكله العام أو الخاص النخبوي- استحدث مشكلات نفسية واجتماعية يجب أخذها بعين الاعتبار وتشخيصها واقتراح علاج لها، فلقد انقطعت العلاقات الاجتماعية وصارت صورية، فرغم أننا نقضي معظم أوقات يومنا في هذه المنصات إلا أننا لا نتواصل مع الأشخاص إلا بقدر حاجتنا لذلك، ولا يمكن أن يعكس هذا النوع من التواصل مشاعرنا الحقيقية التي نضمرها ولا يمكن أن تظهر عبر نقرة أو رسالة إلكترونية، إنه عصر التواصل الرقمي وهو نوع استثنائي لا يمكن إغفال التغييرات العظمى التي أحدثها في علاقاتنا. لذلك وجب أن يكون التحول حقيقيا وألا يكون بديلا أو منافسا بل لغة نكتسبها وجسرا حقيقيا وحياة ثانية.