يُعدّ الدِّين أحد التابوهات الإشكاليّة التي يثير تناولها في السينما والأدب والفن بشكل عام مشكلات تتعلق بالتلقي؛ ومنها المشكلات الاجتماعية التي تثار نتيجة لهذا التناول وتتوقف أبعادها بناءً على طرائق التناول وكيفيتها.
والتعبير الفني عن رجل الدين أو الداعية أو الواعظ الديني يثير في المجتمعات العربية كثيرا من اللغط، نظرًا لوعي وثقافة السواد الأعظم من الناس، حيث يرون الشيخ أو الداعية ممثلًا شرعيًا ومعبرًا رئيسيا عن الدّين؛ بسبب الهالة النورانية وحالة القداسة التي تتأطر بها هذه الشخصية في المجتمعات العربية والإسلامية (بحسب توهمات السواد الأعظم من البسطاء)، حتى اصبح التعبير عن هذه الشخصية من الأمور المثيرة للجدل والمحفوفة بالحذر.
استطاعت السينما المصرية في تمثيلاتها لهذه الشخصية الإشكالية أن تعبر عن التحديات التي ذكرناها، وجاء التعبير عن شخصية الشيخ على شاشة السينما – غالبًا- وفق هذه المحاذير التي أفرزتها ثقافة مجتمعية تكاد تنظر إلى رجل الدين بشيء من القداسة، أو على الأقل باعتباره رجلًا متزنًا دينيًا وأخلاقيًا وأنه يمثل القُدوة والمثُل في المجتمع، وبالتالي لا يجب الاقتراب منه أو التعبير عنه إلا وفق هذا المنظور.
بناء على هذا التصور جاءت صورة الشيخ أو رجل الدين في كثير من كلاسيكيات السينما معبِّرة عن شخصية تستمد أفكارها الإنسانية السامية وميولها الأخلاقية التي تجنح إلى الحق والخير والعدل من علاقتها بالدين وبالخالق، ولذا اعتاد كتّاب ومخرجو السينما تقديم هذه الشخصية وإظهارها بصورة مؤطرة بهالة من النور، وهو ما كرّس لشخصية رجل الدين السوي الذي لا يعرف الخطيئة، المخلص في علاقته بالله والذي يسدي النصح ويهدي الناس إلى الطريق القويم. ومع الوقت أصبحت شخصية نمطية معروفة للمشاهد بمكوناتها البديهية التي يتم تجسيدها في صورة واحدة هي صورة الإنسان المعتدل المحب للخير.
على هذا النحو ظهرت صورة "الشيخ" في أفلام عديدة مثل "جعلوني مجرما" (1954) من إخراج عاطف سالم، حيث يبدو "الشيخ حسن" باعتباره المصلح الذي يرفض الإجحاف بحق مجرم تعرض لظروف صعبة، ولم ينظر اليه باعتباره صاحب سابقة في الإجرام وأنه كان نزيلا في إصلاحية للمشردين، بل حاول إرشاده إلى الطريق القويم.
وفي فيلم "شيء من الخوف" (1969) من إخراج حسين كمال يواجه "الشيخ إبراهيم" بطش الطاغية عتريس ويحرّض الريفيين البسطاء على العصيان وعدم الإذعان لمطالب عتريس ورجاله، كما يرفض زواج عتريس من فؤادة ويعلنها على الملأ، ويقود الناس في ثورة من أجل الحق ويعلن صراحة أن الزيجة باطلة، ولا يتراجع عن موقفه رغم مقتل ابنه ويظل على إصراره حتى يشعل ثورة تقضي على استبداد الطاغية.
في فيلم "الأرض" (1970) من إخراج يوسف شاهين، بدا "الشيخ حسونة" المدافع عن الحق مناصراً لأهله وذويه من الفلاحين الفقراء ضد أصحاب النفوذ، لكنه سعى إلى حماية مصالحه الشخصية. وقام (يحيى شاهين) بتجسيد شخصية "الشيخ" في الأفلام الثلاثة، وعبر عن تيمة الشيخ والبناء النفسي لما يجب أن تكون عليه هذه الشخصية بحسب التقاليد المحددة والراسخة للسينما العربية.
وتضافرت في إبراز هذه الصورة جهود الماكيير ومدير التصوير في الأفلام الثلاثة من أجل إظهار وجه الشيخ وإطلالته بملمح نوراني مؤثر، إذ عكست مهارة الماكيير من ناحية، وحرفية مدير التصوير مستفيدا من تأثير الضوء من ناحية أخرى، مع الأداء الراقي للمثل نفسه والتركيز على نبرة الصوت المناسبة؛ نورانية الشخصية وسحرها الملائكي أثرت بشكل جاد في إبراز سمة الخشوع وإضفاء الأبعاد الإنسانية الهادئة التي تُشعر المشاهد بوجود حالة روحانية وإحساس بالسكينة والقرب من الله.
على الرغم من ذلك شبّت السينما عن الطوق وناقشت مبكراً قضايا عاطفية تتعلق برجل الدّين في جرأة تحسب لها، وفي تجاوز بيّن للتقاليد الراسخة التي أشرنا إليها، نظرت السينما – في بعض الأحيان - إلى رجل الدّين بعيدًا عن الصور المنمطة والمعتادة أو الصور التي يرضاها المجتمع، وعبرّت عن ذلك في فيلم "الشيخ حسن" (1954) من إخراج وبطولة حسين صدقي، باعتباره انسانا يحب ويغضب ويثور ويتمرد ويختلف من أجل من يحب، وينادي -الفيلم- بالتعايش بين الأديان؛ فقد تناول علاقة عاطفية بين رجل دين مسلم وفتاة مسيحية جسدتها الراحلة ليلى فوزي، وأغضب الفيلم المسلمين والمسيحيين حينذاك، وتم وقفه ومنعه من العرض إذعانا لمطالبات من مسلمين ومسيحيين. وكانت هي المرة الأولى التي تتجرأ فيها السينما على إنتاج فيلم صادم اجتماعياً، على الرغم من وجاهة الطرح الذي ينادي بتذويب الفوارق والدعوة للتعايش والحب والارتباط الأسري والاجتماعي.
ولم تنتج السينما بعد ذلك أفلاماً يكون فيها رجل الدين مثيرا للجدل أو موضع اتهام إلا مؤخرا في الألفية الثالثة مع فيلمي: "مولانا"، و"شيخ جاكسون"، وسوف أتوقف عندهما لاحقًا.
أخرج الفيلم وكتب له السيناريو وأنتجه وقام ببطولته حسين صدقي، وتناول قصة حب رجل دين مسلم وفتاة مسيحية تنتهي بالزواج رغم كل الاعتراضات والمعوقات التي يقابلانها، ومع تطور الأحداث تموت الزوجة ويقوم القس بتسليم طفلها الرضيع إلى الشيخ حسن، في إشارة رمزية إلى الحب والإخاء والتعايش، وقد تم رفض الفيلم أول مرة عام 1952 من قبل الرقابة على المصنفات الفنية بسبب اسمه الأول "ليلة القدر". وبعد قيام الثورة تم تغيير الاسم إلى "الشيخ حسن" وعرض مرة أخرى عام 1954 ، لكنه لاقى اعتراضات كبيرة أيضًا خاصة من المسيحيين.
ورغم أن الفيلم فتح الباب مبكرا وبجرأة لأفكار مختلفة وصور غير نمطية للواعظ الديني، إلا أنها لم تتكرر سوى في بعض الشخصيات الهامشية مثل الشخصية التي جسدها حسن البارودي في فيلم "الزوجة الثانية" (1969) والتي عبر خلالها عن شخصية رجل الدين الانتهازي الذي يستغل الدين لتحقيق مصالحه الشخصية ويوظف آيات من القرآن بصورة خاطئة لينافق السلطة المتمثلة في العمدة، كما جسد خالد صالح شخصية جعفر رجل الدين المتطرف الذي يبحث عن مصالح جماعته في فيلم "الجزيرة 2"
في تجاوزات للصورة النمطية.
غير أن ثمة اختلافات فنية ورؤيوية ظهرت مؤخراً في تناول السينما الأحدث لـ "الشخصية الدينية" وتجدد طرائق التعبير عنها في علاقتها بالسياسة والدولة بشكل عام، وسواء توقفت هذه العلاقة عند المحيط الاجتماعي فحسب أو امتدت إلى المجتمع والإعلام بوصفه المنبر الأشد خطورة؛ فإن السينما تجاوزت تلك الصورة النمطية وتعاطتْ مع تغيرات المرحلة من زوايا مختلفة حملت في مجملها جزءاً من الصراع، وكان آخر تجليات ذلك فيلما "مولانا" (2016) من إخراج مجدي احمد علي و"شيخ جاكسون" (2017) من إخراج عمرو سلامة، فقد استطاع الفيلمان أن يتجرآ على طرح قضايا شائكة تعدّ من أكثر القضايا الاجتماعية حساسية.
ويشكل الفيلمان بعدين مختلفين في الطرح، فيتناول "مولانا" شخصية الداعية في علاقته بالدولة والدين والمجتمع، وما يمكن أن يقوله في الإعلام وفي المحطات الفضائية وما لا يمكن أن يقوله، أي إشكالية المباح والمحظور حسبما يحدد بحدسه هو ووفقاً للظروف السائدة، وكذلك العلاقة مع السلطة وكيف يتغلب على مخاطرها.
بينما لا يتناول فيلم "شيخ جاكسون" شخصية رجل الدين بقدر ما يتناول حالة صراع داخل النفس، وفي الوقت نفسه تبدو شخصية الشيخ في منتهى الإيمان والتقرب إلى الله وتمارس حياتها بألفة ومحبة، فهو زوج مثالي مهذب يحنو على زوجته، وأب يحب ابنته ويغرس فيها المبادئ الأخلاقية، ويطرح الفيلم صورة جديدة ومختلفة للرجل المتدين لم تقدمها السينما من قبل.
بينما جاء فيلم "مولانا" المأخوذ عن رواية الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى تجسيدا لصورة من صور شيوخ الفضائيات في عصر الفضاء المفتوح وفكرة التوازنات التي يحرصون عليها لكسب الجميع وتحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية.
السياسة.. وصناعة "الداعية"
تقترب تجربة فيلم "مولانا" إلى حد ما من التجارب المحدودة التي قدمتها السينما عن شخصية "الشيخ" أو "رجل الدين" الذي يعمل وفق مصالحه الشخصية، فيجمع بين رضا الدولة ورضا الناس، لكن جاء الفيلم بطريقة أكثر عمقًا من ذي قبل. ويجسد عمرو سعد شخصية الشيخ حاتم وهو رجل دين معاصر شاء القدر أن يلقي خطبة الجمعة في وجود مسؤولين كبار بديلا عن الشيخ الأساسي الذي أصيب فجأة بحالة إعياء. ومع هذه الخطبة يصعد نجم الشيخ حاتم ويصبح واحدا من أشهر شيوخ المجتمع والقنوات الفضائية بذكائه من ناحية ورضا الدولة من ناحية أخرى، فيصبح قريبا من رموز الحكم وطرفا في صراعات السلطة مع معارضيها.
ويطرح "مولانا" قضايا الدولة والدين بخطوط درامية أعمق، حيث يواجه مشكلة التطرف، والفرق الإسلامية، والطائفية، والفتن، كما يتناول إشكالية التأثير على الشارع أو الرأي العام من خلال الدين وبحسب متطلبات الدولة، ومنها معالجة الخلافات التي تبدو من حين لآخر وتهدد الاستقرار العام ومحاولة إيجاد بعض الحلول المرضية، ومنها الاختلاف بين الأقباط والمسلمين، والاختلاف بين الشيعة والسنة، والفتاوى التي يطلقها شيوخ آخرون من أجل الشهرة ولفت الأنظار وتسبب حالة من الحيرة والفوضى في المجتمع.
فتتكشف من خلال التصاعد الدرامي للأحداث كيف تتم صناعة الداعية، تلك الصناعة التي تحركها مصالح الدولة وتنتج خطاباً دينيا وأيديولوجياً مؤدلجاً، فـ"الشيخ حاتم الشناوي" يبدو كلاعب السيرك الذي يقفز هنا ويهرول هناك ويُرضي هذا ولا يُغضب هؤلاء، كل ذلك دون أن يصيبه مكروه، فهو يقول للمقربين أشياء وأحكاماً دينية لا يستطيع ذكرها في القناة الفضائية، ويبرر ذلك بضعف الراتب الذي يتقاضاه من وظيفته كخطيب في الأوقاف، بينما تدر عليه البرامج في القنوات الفضائية أموالا طائلة، لذلك صوره الفيلم على درجة من الذكاء تجعله يستطيع التعايش على هذا النحو.
وأجاد الفيلم تصوير الحياة المترفة التي يعيشها رجال الدين الذين أصبحوا نجوما في القنوات الفضائية، فجاء تصوير الحياة الناعمة التي يعيشها الشيخ حاتم موضوعيا ومعبرًا، من حيث المسكن المرفه والسيارة الفارهة وكل سبل الحياة العصرية، فضلًا عن مشروع ملابس المحجبات الذي تديره زوجته، وغيرها من مظاهر الرفاهية التي يعيشها نتيجة للعمل في القنوات الفضائية وما تدره من مكاسب مادية كبيرة.
لم يسئ "مولانا" لرجل الدين، بل عمل على توضيح بعض الأمور الدينية المبهمة مثل مشكلة التبني والأبوة، والفتاوى الغريبة، وبعض الأحكام، ويكشف عن الطريقة التي تنتهجها بعض القنوات الفضائية في إدارة برامجها الحوارية، والكيفية التي تتعامل بها الأجهزة الأمنية مع رجال الدين وكيف تنصب شراكها لهم.
"جاكسون".. والصراع النفسي
يعتبر فيلم "شيخ جاكسون" أحد أهم الأفلام التي تناولت الصراع النفسي لشخصية رجل الدِّين، بل يكاد يكون الفيلم الوحيد الذي يتناول صراع النفس البشرية سواء في صراعها الداخلي القائم على الحيرة والتردد، أو في صراعها مع الآخرين، كردة فعل حتمية لتحول نفسي وأيديولوجي ناتج عن تغيّر حثيث في المكوّن الثقافي أدى إلى تحول فكري تعسفي في شخصية غاب عنها (الأب) وتم استبداله بشخصية رجل دين أو (شيخ) بحسب المعنى الدارج.
وتعبر الشخصية عن حالة إنسانية تقف على الحافة، كنموذج لا يعبر عن رجل الدين أو الداعية بحال من الأحوال، لكنها تمثل حالة خاصة لشاب في مرحلة المراهقة "خالد هاني" (أحمد مالك) يعيش في الإسكندرية أوائل حقبة التسعينيات، ويميل مثل أبناء جيله لمغني البوب الشهير مايكل جاكسون، فيرقص مثله ويغني أغانيه، لكن خلافاته مع أبيه (ماجد الكدواني) تحول دون أن يتواءما على العيش معاً، فينتقل للعيش مع خاله في القاهرة، ثم تنقلب حياته رأساً على عقب ويتحول سريعاً إلى رجل متدين وإمام مسجد، ويجسد (أحمد الفيشاوي) الشخصية في المرحلة العمرية الأنضج (مرحلة التدين).
يعتبر رحيل مايكل جاكسون عام 2009 نقطة التحول التي أدت بشخصية خالد إلى هذه الحالة الشديدة من الحيرة، بين ما هو حسي وما هو مادي، بين حبه للتدين وحالات الخشوع التي يعيشها في مقابل الانصياع لمغريات الحياة التي أحبها في مرحلة سابقة والتي تتمثل في حبه للموسيقى والرقص والغناء، حتى أنه يتحول بسبب هذه الحيرة إلى شخصية غير متزنة نفسياً في بعض الأوقات، فيطلب من الطبيبة النفسية (بسمة) بأن تغطي شعرها ويشكو لها من أنه لم يعد يستطيع البكاء، بينما في المرة التالية يهديها باقة من الزهور.
تتصاعد الحالة الدرامية بلقاء خالد بالطبيبة النفسية التي لجأ إليها لكي تساعده على العودة إلى حياة الإيمان، وتكون الأسئلة التي توجهها إليه بمثابة الدافع والمحرك للتطور الدرامي وأولوية المشاهد التي تعود إلى درجة أهميتها وإلحاحها على شخصية المتذكر - البطل وأثر ذلك على بناء الفيلم، فيستحضر خالد مرحلة الطفولة، والدراسة، وكيف تعرف على أغاني مايكل جاكسون في بداية التسعينيات وكيف كانت رحلته في الحياة طول السنوات الماضية وعلاقاته بكل من حوله وخاصة الأم والأب، وكذلك الحبيبة سواء كانت ياسمين رئيس، أو في مرحلة سابقة سلمى أبو ضيف، حيث تتغاير العلاقة بالآخرين خاصة علاقته بخاله الشيخ عاطف (محمود البزاوي).
واستطاع الفيلم في ذلك أن يعبر بوعي فني عن لحظات الضعف الإنساني لشخصية كانت تعيش مرحلتها العمرية بنزق، واختلاف، وتفاؤل، وتحد، وإقبال على الحياة، إلى شخصية أخرى تعيش الموت وتشعر بالتقصير لهواجسه، رغم ما تبديه من إيمان.
لذا فإن الفيلم يستهل أول مشاهده بمسيرة جنائزية، حيث يحمل مجموعة من الرجال جسدا ملفوفا بالكفن ويقومون بدفنه في المقابر، ويروي الشيخ خالد (احمد الفيشاوي) للطبيبة النفسية هذا الحلم وأنه لم يعد قادراً على البكاء وأن ذلك دليل على تراجع إيمانه، فعلى الرغم من أن "خالد" اختار حياة التدين سبيلاً، إلا أنه لا يفلح في التغلب على ميوله القديمة تجاه الفتاة التي أحبها والملهى الليلي الذي كان يرتاده، وانجذابه الذي لم يفتر تجاه مايكل جاكسون وتقليد رقصاته، حتى أن خبر وفاة جاكسون الذي عرفه من مذياع السيارة أفقده التركيز وتسبب في اصطدام السيارة التي يقودها.
الصور الأولية والخطاب المضمر.
ثمة قراءات عديدة لفيلم "شيخ جاكسون" تعاطت نقدياً مع الفيلم إما باعتباره بنية واحدة جليّة تمنح تفاصيلها من خلال الصور الأولية الظاهرية التي يعبر عنها المرئي والحوار؛ أو بافتراض أفكار غير منطقية ومحاولة تطبيقها على الفيلم؛ فيما يضمر الفيلم العديد من التفاصيل الداخلية التي قد تستعصي على التواصل من المشاهدة الأولى، فالفيلم لا يتناول فحسب شخصية رجل دين كان يهوي في مرحلة سابقة من حياته الاستماع إلى مغني البوب الشهير "مايكل جاكسون"، إنما يصل إلى ما هو أبعد من خلال طرْق أبواب العلاقة بين الحياة والموت وطرح عديد من التساؤلات حول هذه الثنائية.
يأتي السلوك المتضارب من خلال تقفّي البعد النفسي لرجل ملتزم دينيا لكنه يبدو مشتتاً وهو يتنقل بين حالات نفسية متناقضة، فتهاجمه الهواجس في أدق اللحظات، بما في ذلك أوقات ممارسة الشعائر الدينية، فبقدر إيمانه القوي والتزامه الديني إلا أنه يمر بحالات غريبة الأطوار أطلق هو عليها "انتكاسة"، وهذا على المستوى الظاهري للفيلم أو خطاب الفيلم الأول، بينما في المستوى الآخر المضمر هناك خطاب آخر اكثر إمتاعاً ورؤية وفلسفة، هو خطاب الموت والحياة وصراعهما من خلال شخصية تحتفي بالموت فيما لا تستطيع الهروب من هاجس الحياة الملح. أو بحسب نيتشة: "يوجد خلف أفكارك ومشاعرك سيد قوي وحكيم اسمه الذات، إنه يسكن في جسدك، بل هو جسدك"، وهذا الجسد الذي اعتاد الرقص والغناء – بحسب الفيلم- لم يعد قادراً على مواجهة هاجس الموت.
في هذه المساحة النفسية إذا جاز التعبير يكون موضوع الفيلم، حيث تتصاعد الأحداث درامياً لترصد دراما النفس البشرية وتحولاتها وحيرتها إزاء الخوف من الموت، وفي الوقت نفسه تخضع لنوستالجيا جارفة تعيدها إلى سيرتها الأولى المحفورة في الذاكرة، فهي مهما ابتعدت لا تقوى على النسيان، فالشيخ "خالد" يعود إلى الملهى الليلي في لحظة يفقد فيها اتزانه النفسي، لكنه يعود سريعاً إلى حياة التدين التي اختارها باعتبارها الحياة الأجدر للإنسان أن يعيشها.
على الرغم من هذا فإن هاجس الموت نفسه هو ما دفع إلى الحيرة والبحث والسؤال، كان خبر رحيل مايكل جاكسون نفسه بداية رفض الموت والعودة للحياة، وكان توجهه للطبيبة النفسية بداية العودة للحياة التي أكد عليها سؤاله عن حال الورد: "هل الورد ميت؟" وفي المرة اللاحقة يهديها باقة من الورد/ الحياة.
كذلك عودته إلى أبيه وإلى الشقة القديمة وحبيبته والملهى وأشيائه البسيطة التي تمثل ذكرياته مع الحياة، كل ذلك إنما يكشف عن عودة للحياة، وتمثل ذلك بشكل قاطع في ارتدائه للقبعة القديمة التي طالما ارتداها في زمن أُطلق عليه فيه اسم "جاكسون"، وقيامه بالرقص في نهاية الفيلم تمثل العودة إلى الحياة وكأنه زوربا اليوناني يرقص احتفاء بالحياة.
البعد الآخر لثنائية الموت والحياة.
إن البعد الآخر للفيلم الذي يتجلى في ثنائية الموت والحياة تكشف عنه أيضاً حالة الصراع التي يعيشها "خالد" في تقديس الموت الذي يعيشه في كل لحظة، فيبكي خشية كأنه سيموت الآن، وينام تحت السرير لكي يشعر بنوم القبور، ويجعل كل حياته في الدنيا استعداداً للموت، حتى أنه يدخل القبر ليلاً ليعتاد ظلامه، ولهذا تداهمه الكوابيس، كما يداهمه تاريخه الماضوي الذي ارتبط به من قبل، فيواجهه بذكريات تضج بالحياة ويذكره بلحظات مفعمة بالحب والحراك الذي عاشه، يذكره بذاك الفتى الذي كانه والفتاة التي أحَبها والتي أحبت معه "مايكل جاكسون"، وكيف كان الارتباط قوياً إلى أن أُطلق عليه لقب "جاكسون" في تلك المرحلة الحياتية.
هذه الذكريات أصبحت التحدي الأكبر للموت، وتكمن في نفسه وفي روحه ولا يدري كيف التخلص منها لأنها "الحياة" فكيف له أن يعيش الموت ويمارسه ويحتفي به في كل وقت على الرغم من حيويته ووجوده في الدنيا.
إن صراعات الموت والحياة الحالة المسيطرة على الفيلم وعلى الشخصيات، فثمة فريقين يمثلان الموت والحياة، حيث يحتفي كل فريق بما يحب من خلال الطقوس اليومية وطبيعة العمل والعلاقات ومفردات الحوار والهموم والتطلعات.. إلخ، فيبدو في ذلك مدى التقديس للموت أو للحياة.
فيلم "شيخ جاكسون" هو الفيلم الطفرة من الناحية الموضوعية إذ يتناول حياة شيخ وإمام مسجد تهاجمه الكوابيس والأحلام ويعيش في منطقة نفسية غير واضحة من حيث الحيرة والتردد بين حياتين، وهو أيضاً طفرة من الناحية الرمزية في تناول جدل الحياة والموت والصراع بينهما من خلال شخصية الشيخ.