الخميس 4 يوليو 2024

قصتي مع هيكل صاحب القلم الذهبى

فن15-10-2020 | 10:24

فكرت وحلمت أن أقدم بعض يومياتى مع هيكل. تعلمت منه ضمن ما تعلمت أن أعود إلى بيتى بعد لقاءاتى معه. وأن أدون ما جرى بينى وبينه. لا أخجل عندما أقول إن ذلك كان تقليداً له. دونت يومياتى معه لأنه كان يفعل هذا بعد لقاءاته مع الآخرين.

ألقيت نظرة لأول مرة على بعض هذه اليوميات. فاكتشفت أن ما تحتاجه من العمل والتدقيق وإعادة الصياغة يحتاج عمر آخر. مع أن ما بقى لى من العمر أقل من القليل. لذلك نحيت جانباً حكاية اليوميات رغم أهميتها الشديدة وقررت أن أكتب حكايتى مع هيكل. والأهم حكايات هيكل مع المثقفين المصريين والعرب والعالميين.

وعندما أجريت معه حواري الأول، وكان لمجلة المستقبل التى كانت تصدر فى باريس، فى السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، قلت فى مقدمة الحديث: إننى كرهت فى ظل مصر عبد الناصر اثنين: النيل، ومحمد حسنين هيكل. الأول لأنه كان مصدر ضغط على المصريين، وتسبب فى شرعية وجود الدولة المركزية التى توزع مياهه وتمنح الماء لمن تشاء، وتمنعه عمن تشاء؛ لقد أدى النيل إلى خضوع المصريين وخنوعهم.

أما الأستاذ: فقد أمم مهنة الصحافة لسنوات طويلة، حتى الذين جاءوا بعده، كانوا يعملون وأعينهم على تجربته التى كانت غير قابلة للتكرار. كان الأستاذ قد قرأ الحوار ولم يناقشنى فيما كتبته عنه، وعن نهر النيل.

كنا يوم الجمعة من كل أسبوع، وبعد نشرة أخبار الساعة الخامسة بعد الظهر، ننتظر حتى نستمع إلى النص الكامل لمقال الأستاذ، الذى كان يستمر حوالى الساعة.

استشهد عبد الناصر وجاء السادات، واستمر هيكل لبعض الوقت، ثم كانت استقالته الشهيرة وخرج – بقراره وإرادته – من مؤسسة الأهرام التى بناها طوبة طوبة، ليبنى مؤسسته الخاصة. وهكذا تحول مكتبه إلى واحدة من أهم المؤسسات المصرية، التى لا بد أن يزورها ويقصدها كل من يزور مصر.

على أن صلتى الخاصة بالأستاذ بدأت بقصة أرويها الآن. ففى منتصف السبعينيات فوجئت بمحمد سيد أحمد، ونحن فى أحد اجتماعات جريدة الأهالى بحزب التجمع، ينتحى بى جانباً، ويبلغنى تحيات الأستاذ. طبعاً لم يكن فى حاجة إلى القول من هو الأستاذ فذلك كلام لا يقال، فلم يكن فى مصر سوى أستاذ واحد ووحيد، عندما نقول الأستاذ فى مصر لا بد أننا نقصد "هيكل" وعندما نقول الريس فالمقصود "عبد الناصر". وعندما نقول الست؛ فنقصد "أم كلثوم". وأن الأستاذ سمع عن روايتى "يحدث فى مصر الآن" سعدت لحظتها سعادة حقيقية، ذلك النوع من السعادة الذى يفاجئك، لا تتوقعه ولا تنتظره، ولا تسعى إليه، ولكنها سعادة تسعى إليك، وتقيم فاصلاً فى حياتك، يكون هناك ما قبلها وما بعدها.

أعطيت محمد سيد أحمد "يحدث فى مصر الآن" وكتبت عليها إهداء فيه رعشة الرغبة فى أن يقول الإنسان أكبر قدر من المعانى فى أقل قدر من الكلمات. ألم يقل النِفَّرى: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة؟

وعندما صدرت "الحرب فى بر مصر" خارج مصر أولاً ثم طبعت بعدها فى القاهرة، كانت نسخة الأستاذ من أول النسخ التى أهديت إلى رموز الوطن. فقد كان هيكل قد أصبح رمزاً من رموز الوطنية المصرية، وهو يعارض خطوات السادات عندما قفز قفزته الأخيرة نحو المجهول.

عندما طرقت باب مكتبه متعرفاً عليه، كنت أقابل ظاهرة هيكل صاحب القلم الذهبى، الذى قدم تجربة عبد الناصر بالكلمة، وهيكل الذى أصبح ضميراً لمصر. وعندما أقول عنه آخر الكتاب المحترمين فى مهنة الصحافة، لا أكون قد تجاوزت أى حدود فى ذلك.

وبعد السادات كتب هيكل كتابه الوثيقة "خريف الغضب" وأذكر أننى قابلته وهو يكتبه. وفى اليوم التالى اتصل بى يستأذننى فى استخدام عبارة وردت فى حديثى معه بالأمس، واستخدام عبارة أخرى من ثلاثيتى الروائية: شكاوى المصرى الفصيح. وقد اعتبرت أن ذلك تواضع مبالغ فيه من الأستاذ، وإن كان فى حقيقة الأمر درساً بليغاً فى الأمانة والدقة والموضوعية.

كانت هذه العبارة تقول:

وقد وصف أحد المثقفين فى مصر جماعات المستفيدين من سياسة الانفتاح الاقتصادى بأنها "طبقة المظليين" وكان رأيه أن المظليين عادة ينقضّون من السماء على المواقع ليحتلوها أو ليدمروها، وأن هذه الطبقة كانت مصممة إما أن تسيطر على مصر، وإما أن تدمرها، وكان قول هذا المثقف، إن فكرة هؤلاء عن الدولة أنها مجرد جهاز لتأمين نوم الأغنياء ضد أرق الفقراء. وفى الهامش كتب اسمى باعتبارى صاحب العبارة. فضلاً عن أن تعبيرى: نوم الأغنياء، وأرق الفقراء، كانا عنوانى الجزأين الأول والأخير من  ثلاثيتي الروائية: "شكاوى المصرى الفصيح".

وبرغم أن الأستاذ يصر على صفة صحفى ويعتبرها أكبر نيشان يمكن أن يحمله، إلا أن ثقافته الأدبية كانت تلفت نظرى وتسبب لى حالة من الانبهار، فهو يُطَعِّمْ كتاباته، ومن قبلها أحاديثه بعبارات من الشعر والنصوص المسرحية والرواية والقصة، بل وبما يقوله الأدباء والمفكرون عادة. وأعتقد أن ما يحفظه هيكل من روائع الشعر العربى القديم والوسيط والحديث، ربما يتساوى مع ما فى ذاكرة أى شاعر يحترف قول الشعر، ولو قدم هيكل "مختارات هيكل للشعر العربى"؛ لأدهش الجميع. 

وعلى الرغم من أنه رجل عصرى بكل معنى الكلمة، يتعامل مع الفاكس والإنترنت، فإنه حريص على أن تكون عنده أكثر من مكتبة، ابتداء من مكتبه الملاصق لبيته، والذى أسميه مركز الضمير الصحفى المصرى والعربى. ولديه مكتبة فى عزبته ببرقاش ومكتبة فى الإسكندرية، يحرص على أن يكون فيها جميع أدبيات البحار، وما كتب عن البحر، ابتداء من الأساطير القديمة، والنصوص الروائية والشعرية الحديثة، وصولاً إلى الكتب العلمية المعاصرة جداً. وثمة مكتبة خاصة بالكتب التى أهديت له فقط، سواء من زعماء العالم وساسته وقادته أو أدباء الدنيا، أو الإهداءات المحلية عربية كانت أو مصرية، ومكتبة بالساحل الشمالى، ومكتبة فى الغردقة.

أما الأستاذ فقد كان وما يزال صاحب تجربة ثقافية وفكرية – قبل الصحافة وبعدها – من أهم تجارب القرن العشرين، فى مصر والوطن العربى، أقصد تجربة جعل الأهرام منبراً فكرياً وثقافياً يحافظ على الاستقلال، وأن ذلك يُمَكِّنه أن يعمل على مسافة من السلطة.

ذلك أن هيكل خلال هذه الفترة من "1952 حتى 1970" لم يجلس فى مكتبه منتظراً أن يأتى إليه من يأتى، لم يجلس مستفيداً من سحر اسمه، ومن لمعان اسم الأهرام، ولا من تلاقى الصحيفة والصحفى، ولكنه ذهب إلى المثقفين وسعى إليهم.

حكى لى جمال حمدان، كيف ذهب هيكل إليه فى منزله، بصحبة مصطفى نبيل رئيس تحرير مجلة الهلال، ولأن جمال حمدان كان لا يفتح باب شقته لأحد، ترك له رسالة، احتفظ بها جمال حمدان حتى وفاته.

كانت تجربة الأستاذ سواء فى بُعْدِها الإنسانى والخاص، أو فى عمقها العام، أو على صعيد علاقته الخاصة بجمال عبد الناصر، من أهم التجارب الفريدة أمام الأجيال التى جاءت بعده، وكل هذه العناصر هى التى تؤهله – وحده دون سواه – أن يروى القصة الداخلية لعلاقة جمال عبد الناصر بجماعات المثقفين، وهى العلاقة الفريدة التى تمت فى فترة وصل الإنجاز الثقافى المصرى فيها إلى الذروة.

وعلى الرغم من ما يقال عن الإجراءات الاستثنائية وقمع الحريات. أصبحت ريادة مصر السياسية والثقافية والفكرية للوطن العربى حقيقة لا تقبل الجدل. إن تجليات الإبداع الأدبى والإنجاز الثقافى فى زمن عبد الناصر. وصلت إلى سماء الوطن العربى. والأمة الإسلامية، وإلى كل مكان سُمِعَ فيه حرف الضاد. وأصبحنا بعده فى أيام الحريات والديمقراطية لا نملك سوى البكاء على ما كان. لقد قادت مصر الناصرية الوطن العربى بالكتاب والفيلم والأسطوانة ولوحة الفن التشكيلى والأغنية والعرض المسرحى، ثم تراجعت هذه الريادة من بعده وأصبحت مجرد ذكريات نتكلم عنها.

حكى لى هيكل:

- كان عند عبد الناصر استعداد تاريخى خارق، وأنا كصحفى أعرف المنطقة بشكل أو بآخر. وأسوأ شيء تفعله لأى إنسان فى السلطة، أن تحاول أن تتقرب إليه، أو تفرض نفسك عليه – لأنه بطبيعته يشك – ليس فقط جمال عبد الناصر، وإنما كل إنسان فى موقع السلطة. ولو أننى حاولت بناء على تصميم مسبق، لأثرت الشكوك، لكن علاقتنا نمت. إننا حتى دون أن نلتقى كنا نتكلم فى آراء واحدة.

ثم جاءت لحظة عندما وجد الإثنان نفسيهما منجذبين سواء بحكم تلاقيهما الفكرى، أو بحكم عناصر الكيمياء الإنسانية، لا هو هيأ ولا أنا هيأت، ولكن العلاقة نشأت كما تنشأ أى صداقة بطريقة طبيعية.

حكاية هيكل مع الثقافة المصرية تستلزم منى ما يمكن أن يكون كتاباً مستقلاً. وليس مجرد مقال. فالحكاية تتطلب الكتابة عن حسن فتحى، أحمد حمروش، سيد عويس، ليلى مراد، فاتن حمامة، عبد الرزاق السنهورى، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، عباس محمود العقاد، أحمد لطفى السيد، أحمد أمين، يحيى حقى، يوسف إدريس، عبد الحليم حافظ، لطفى الخولى، وبيرم التونسى، لويس عوض، حسين فوزى. وغيرهم وغيرهم وغيرهم. ولكل واحد منهم قصة مع هيكل. تبدأ من العلاقة الإنسانية وتصل إلى نشر نتاجه الأدبى وإعطائه الفرصة لكى يتواصل مع الناس.

ومن الأدباء العرب: نزار قبانى، سامى الدروبى، عبد الوهاب البياتى، على أحمد باكثير، محمد الفيتورى، عبد الله البردونى، وأدباء الدول العربية الشقيقة التى كانت تتحرر من ربقة الاستعمار. وجاءوا إلى مصر كنهاية رحلة بحث عن واحة آمنة توفر لهم المناخ الذى يمكنهم من الاستمرار فى إبداعاتهم الأدبية رغم الظروف التى كانت تمر بها بلادهم.

بل إن الأعمال الكبيرة التى نشرت خلال الستينيات لولا هيكل ما نشر معظمها. ويكفى وقائع نشر رواية: أولاد حارتنا مسلسلة فى الأهرام. ذهب بها نجيب محفوظ إلى على حمدى الجمال، وطلب منها أن يقرأها الأستاذ هيكل. أخذها هيكل وقرأها فى البيت. وأدرك مغزاها. وقرر نشرها. وعندما قامت الدنيا ولم تقعد. وثار التيار المحافظ، واتصل به عبد الناصر متسائلاً. وطلب من هيكل أن يرسلها له ليقرأها. وبعدها قرر هيكل أن ينشرها يومية فى الأهرام. وكانت المرة الأولى والأخيرة التى تنشر رواية بشكل يومى فى الصفحة الأولى من جريدة الأهرام.