الأحد 6 اكتوبر 2024

نغمات فجرتها ثورة 1919

فن15-10-2020 | 10:46

لم تكن ثورة 1919 عندما خرجت الجماهير للشارع،مجرد احتجاجٍ على اعتقال ونفي سعد زغلول وزملائه فقط، ولكنها كانت انفجارًا لتراكمات وسلسلة طويلة من المقدمات والأحداث والتفاعلات، والأوضاع التى عاشها الشعب المصري، ففي عام 1911 اندلعت الفتنة الطائفية في مصر لدرجة التفكير في تقسيم البلاد لدولتين الشمال مسلم والجنوب مسيحي، كما بدأت الجماعات المتطرفة في أنشطة إجرامية، إذ اتجهوا للاغتيالات السياسية، ومع الحرب العالمية الأولى تم إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914، حيث فرضت الأحكام العرفية على البلاد، فكان لابد أن يصاحب ذلك موجة مقاومة، ومن هنا برز دور المقاومة الشعبية، وكان حال الغناء فى تلك الفترة موجهًا نحو الإسفاف، وهنا تتجلى علاقة الفنون بالسياسة والوضع الاجتماعي.

فعرفت سلطات الاحتلال مدى أهمية هذه النافذة، فقد كانت مقاهي القاهرة فى هذا العهد أشبه بمنتديات، يجتمع فيها الأدباء والنقاد والفنانين والمفكرين، ليقدمون أعمالهم الفنية، ويعرضون إبداعاتهم، ويتبادلون الحوار والنقاشات، ويتحدثون عن الاستعمار وقضايا ومشاكل الشعب، ومثل هذه التجمعات كانت تمثل خطورة كبيرة على الاستعمار، فنفذت بالقوة والعنف الرقابة على كل شىء الصحف والمسارح، وأغلقت معظم محال الغناء والرقص والملاهي، وفرضت إقامة جبرية على بعض المطربين والمنشدين، ووُضعت رقابة شديدة على كل الأغاني والروايات، حتى لا تحث الناس على الوطنية، وكان على الاستعمار إلهاء الشباب، ووضعهم على طريق الانحراف بالغناء الجنسي والغرائزي، ومع تدهور الأحوال المادية للبلاد اضطر الكثير من الفنانين الكبار الخوض فى هذا الاتجاه المسف للاسترزاق والقدرة على العيش سواء من شعراء وملحنين ومطربين ومطربات، لينتشر اللهو الرخيص،  ولكن مع ثورة 1919 بدأ الفنان والمثقف المصري يفيق من غفوته لتتفجر معها الطاقات الإبداعية، ليلحن سيد درويش أعظم أغانيه الوطنية الخالدة، وليكتب الشعراء أعظم الكلمات، فبعد أن كان محمد يونس القاضي أكثر شاعر اشتهر عنه كتابته لمثل هذه الأغاني "الركيكة المسفة" هو نفسه الذى كتب العديد من الأغاني والمسرحيات الوطنية ، تأثرا بهذه الثورة العظيمة.

فإذا كان الزعيم سعد زغلول ملهم هذه الثورة ومفجرها، فقد كان سيد درويش مترجم هذه الثورة، ليفجر لنا ثورة أخرى ولكنها ثورة على الغناء والفن الهابط، فقبل ثورة 1919 لم يكن للغناء الوطني وجود بالشكل الذى عرفناه بعد ذلك، فلم يكن لدى أى فنان الجرأة أن يغني باسم مصر أو باسم الزعيم الذى يحبه، فعندما تغنت منيرة المهدية لزعيم الثورة سعد زغلول لم تستطع أن تذكر اسمه بشكل مباشر، ولكنها تغنت بكلمات أوحت بأنها تقصد هذا الزعيم ملهم ثورتهم، لتغني من كلمات: محمد يونس القاضى، وألحان سيد درويش أغنية ( يا بلح زغلول ...يا حليوة يا بلح..) لتغنى هذا اللحن عقب أحداث نفى سعد زغلول إلى جزيرة سيشل، حيث أصدرت الحكومة البريطانية قرارا بإعدام من يكتب نشيد للثورة رمياً بالرصاص، ولذلك لجأ سيد درويش إلى أسلوب التورية وردد الجماهير وراءه هذا النشيد، كما تغنت أيضا منيرة المهدية على نفس الشكل بأغنية أخرى لسعد زغلول من كلمات محمد يونس القاضي ولكن من ألحان محمد القصبجي لتقول كلماتها :

(شال الحمام حط الحمام من مصر لما للسودان .... زغلول ومال قلبي إليه أنده لما أحتاج إليه ... يفهم لغاه إللى يلاغيه ويقول حميحم يا حمام )

 

وعندما هبّت الثورة كان الفنان سيد درويش الأكثر تأثيرا فى الشارع المصري لإثارة الحماس الوطني,من خلال أغنياته التي تتطرق بذكاء إلي تمجيد الجيش المصري، والاعتزاز بالجنسية المصرية، وصدق الانتماء إلي مصر مهما كانت الضغوط التي يعانيها المصري في أي مكان, والتي كان يعانيها من آثار الاستعمار حيث انكسر حاجز الخوف، لتفجر الثورة طاقاته الإبداعية بلا قيود، كما اتضح ذلك في أغنيات ( أنا المصري كريم العنصرين ) ونشيد ( أحسن جيوش في الأمم جيوشنا ), و ( الجيش رجع م الحرب) و ( يا أباة الضيم يا فخر العرب ) و ( احنا الجنود زى الأسود) و ( دقت طبول الحرب ياخيالة ) وهنا نجد لونًا جديدًا من الغناء وهو الغناء الوطني بشكله الحقيقي الذى أبدعه وأنشأه سيد درويش ولم يكن له مثيل من قبل.

 

فلم تكن أغاني سيد درويش الوطنية مقصورة على رسائل سياسية مباشرة فقط،ففي عام الثورة،عرض الثنائي سيد درويش والمؤلف المسرحي بديع خيري مسرحية غنائية تسمى ( قولوله )  والتي قدما من خلالها سلسلة من الأغنيات الوطنية وأدّتها فرقة "نجيب الرّيحاني"، إحدى تلك الأغاني كانت أغنية ( بنت مصر) التي قدمت علىى أثر استشهاد حميدة خليل و درية شفيق، أّول شهيدتين مصريتين، كما كان فى مقدمة ألحان سيد درويش التي ظهرت فى السنة التالية لقيام ثورة 1919 من كلمات بديع خيرى وهو يخاطب الشعب نشيد ( قوم يا مصري مصر دايما بتناديك )، وهذا اللحن من الألحان التى كان يحارب فيها سيد درويش أحداث الفتنة بين المسلمين والأقباط،ومن الألحان الوطنية الأخرى التى كان سيد درويش يؤكد فيها على ضرورة الوحدة الوطنية ( ما قلتلكش إن الكترة لابد يوم تغلب الشجاعة  ....  وأديك رأيت كلام الأمرا طلع تمام ولا فيهشى لواعة ... غيرشى اللى كان هالك أبداننا ومطلع النجيل على عيننا .... إن فهمى يكره حنا وإيش دخل دول يا نا بس ف ديننا ... دخل بناتنا اللى موقعنا فى بعضنا وراح لك متصدر ... فقسنا لعبته واتجمعنا لا يضيع شرفنا الله لا يقدر )

وعندما قام موظفو الحكومة بعمل إضراب على الذهاب إلى دواوينهم تضامنا مع ثورة 1919، وبعد أن هدأت الثورة خرجوا عائدين لأعمالهم يفخرون بأداء واجبهم الوطنى، ولكن الخوف من عواقب الغياب الطويل الذى كان يشوب ذلك السرور، فالحكومة التى يسيطر عليها المحتلون الإنجليز ستخصم من رواتبهم أيام الغياب، ليغني سيد درويش أغنية ( هز الهلال يا سيد )  من كلمات بديع خيري وفى بعض كلماتها يقول :-

هز الهلال يا سيد كراماتك لاجل نعيّد  ....  يكفى اللى حصل كام يوم ووصل بقى زارع بصل

هديت واهو راق الحال ورجعنا للأشغال ... حد الله ما بيني وبينك غير حب الوطن يا حكومة

عشرين يوم راحوا علينا انشالله ياخدوا عينينا .. بس المقصود يبقى لنا وجود والدنيا تعود

وإثر الأحداث التى مرت بها مصر عقب ثورة 1919 لحن سيد درويش أيضًا أغنيته الشهيرة إلى الآن وهى طقطوقة ( أهو ده إللى صار )  وفيها يوضح ما قد آلت إليه مصر ليقول ضمن كلماتها : ( تلوم عليا إزاى يا سيدنا وخير بلادنا ماهش فى إيدنا ...... قولى عن أشياء تفيدنا وبعدها ابقى لوم عليا ) وكذلك نشيد "بلادى بلادى لكِ حبى وفؤادى" والذى استوحاه الشاعر يونس القاضى من إحدى خطب الزعيم مصطفى كامل قبل الثورة عام 1907 ، وظل سيد درويش منذ ثورة 1919 إلى أن تُوُفي عام 1923 يقدم أروع أعماله الوطنية والهادفة، وظل صدى الثورة حتى وقت وفاته،  ليلحن لملهم الثورة سعد زغلول آخر أعماله نشيد ( مصرنا وطنا سعدها أملنا ... كلنا جميعا للوطن ضحية ... أجمعت قلوبنا هلالنا صليبنا ... أن تعيش مصر عيشة هنية ) وأعد هذا النشيد لحفل استقبال زعيم الثورة سعد زغلول، ولكن يشاء القدر أن يتوفى سيد درويش قبل أن يستقبل زعيم الأمة بيومين، ليرحل فنان الثورة سيد درويش ولكن نغماته هى التى استقبلت سعد زغلول، وكأنه ظل يؤرّخ للثورة حتى بعد وفاته.

لذلك يعد سيد درويش أيقونة ثورة 1919 والمعبر عنها والمؤرخ لكافة أحداثها من خلال أغانيه التى أشعلت حماس المصريين لتظل أعماله إلى الآن خالدة لأنها كانت التعبير الصادق عن الوطنية، وهناك الكثير من إبداعات الفنانين الآخرين أيضا كانت ثورة 1919 المفجر الحقيقى والملهم لكل هؤلاء الفنانين، فقد روى الدكتور الحفني قصة أغنية " ياعم حمزة " إنه بعد اعتقال سعد زغلول باشا وصحبه، حدث إضراب من جميع الطلاب فى الجامعات، وخرجوا فى مظاهرات فى أرجاء الشوارع ، ليتم إصدار أوامر باعتقال الطلاب وحملهم إلى سجن القلعة ، وكانت المعاملة قاسية نتيجة تعليمات الحكمدار، فألقى بالطلاب فى السجن، وذاقوا مرارة الاعتقال، ولكن كان هناك أحد حراس السجن الذى كان متعاطفا معهم ومشفقا عليهم والذى يسمى "حمزة" ما دفع د.محمود الحفنى ، وهو داخل الزنزانة أن يكتب أغنية من أروع الأغاني والتى تقول كلماتها ( يا عم حمزة ، إحنا التلامذة  ، واخدين ع العيش الحاف والنوم من غير لحاف ... مستعدين ناس وطنيين .. ودايما صاحيين  .. إحنا التلامذة ) كتبها الدكتور الحفنى فى مارس 1919، إلى أن جاء صلاح جاهين، ليأخذ المطلع ويكتب " يا عم حمزة، إحنا التلامذة، جن وبلاوى مسيحة، من غير مؤاخذة نكبر ما نكبر، الله أكبر طول الزمان عاتى الامتحان داخلين مبارز ".

وفى عصر آخر يأتى أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام ليغنيا بنفس المطلع ( رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني ... يا مصر إنتى اللى باقية وإنتى قطف الأماني ) وليصبح مطلع ( ياعم حمزة إحنا التلامذة ) أيقونة الطلبة فى كل العصور بعد ذلك تعبيرا ورمزا وقت احتجاجاتهم، على الرغم من أن الأساس لنشأة هذه الأغنية ثورة 1919 على يد د.محمود الحفني.

ومن كواليس وخبايا الفن أن الفنان الكوميدي حسن فايق كان يعمل مونولوجيست .

وكان له دور سياسي لا يُنسى في مقاومة الاحتلال البريطاني ومكافحة خطر الفتنة الطائفية في مصر بفنه، فكان صديقاً مقرباً من الزعيم الراحل سعد زغلول، وقدم العديد من الأعمال الفنية أثناء الثورة منها ( أحمد وحنا ) ، كان أول عمل فني تمثيلي عن الوحدة الوطنية، وقدم للجمهور أثناء ثورة 1919، ليعد أول من قدم أعمالًا فنية يدعو فيها للتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين والوحدة الوطنية، ليقدم مونولوجات تحث المصريين على مقاومة الاحتلال الإنجليزى، وركز حسن فايق جهوده في تأليف المونولوجات والأزجال الحماسية التي تثير حماس الجماهير، وطلب منه صديقه سعد زغلول مواصلة هذا العمل دعما للوحدة الوطنية، ودعما لثورة الشعب في عام 1919.

فإن كانت ثورة 1919 قد أحدثت تغييرًا سياسيًا واجتماعيًا حقيقيًا،وأثرها كان واضحًا، فقد أحدثت بالفعل ثورة وتغييرًا وتحولاً واضحًا فى الفن وخاصة فى الموسيقى والغناء، فلهيب الثورة كان الشرارة الأولى لوجود ما يعرف بالغناء الوطني الحقيقي لمصرنا، وجيشنا، وعروبتنا، وتراثنا على يد فنان الشعب ومترجم وأيقونة ثورة 1919 سيد درويش.

    الاكثر قراءة