الجمعة 28 يونيو 2024

القرآن والمسيحية

فن15-10-2020 | 11:12

إن موضوعاً واسعاً كهذا، كتبت فيه مجلدات عديدة ولم توفه حقه بعد، لست أستطيع أن أدعى بأننى سألم بأطرافه المترامية فى صفحات قليلة كهذه.

وإنما سأعرض لبعض النقاط المحدودة، وألقى عليها ضوءاً بسيطاً، نراها من خلاله، ونترك التفاصيل لبحوث خاصة.

فكرة القرآن عموماً عن المسيحية تعرض القرآن للمسيحية:

شرح كيف أنها ديانة سماوية، ديانة إلهية، أرسلها الله هدى للناس ورحمة، على يد المسيح ابن مريم، والمؤمنون بالمسيحية سجل القرآن أن لهم أجرهم عند ربهم، وأنهم غير المشركين، وغير الذين كفروا.. وقال أيضاً أنهم أقرب الناس مودة إلى المسلمين، وأنهم متواضعون لا يستكبرون.

وشخص المسيح له فى القرآن مركز كبير، إنه كلمة الله، وروح منه، ولد بطريقة عجيبة لم يولد بها إنسان من قبل ولا من بعد، بدون أب جدى، ومن أم عذراء طهور لم يمسسها بشر.. ومات ورفع إلى السماء بطريقة عجيبة حار فيها المفسرون والعلماء.. وعاش على الأرض يهدى الناس، ويقوم بمعجزات لم يعملها أحد مثله..

وقد هدى الناس عن طريق تبشيرهم بالإنجيل، والإنجيل له مكانة عظيمة فى القرآن الذى كان مصدقاً له وتلميذ الناس إلى الإيمان به... ولم يذكر فى القرآن إطلاقاً أنه نسخ التوراة أو الإنجيل، بل على العكس ذكر أن المؤمنين ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل.

وللعذراء مريم أم المسيح مركز ممتاز في القرآن، في بتوليتها وطهرها ونسكها وعبادتها وتشريف الله لها واصطفاها على نساء العالمين.

وقد تحدث القرآن أيضاً عن الحواريين تلاميذ المسيح، وتحدث عن بعض العقائد المسيحية...

وهنا يظهر بعض الخلاف بينه وبين المسيحية.

شيء من ذلك خلاف حقيقي.

وشيء آخر لا يمكن أن نسميه خلافاً، وإنما هو محاربة لبعض البدع الدينية التي كانت سائدة وقتذاك، والتي تحاربها المسيحية أيضاً، والتي لم تكن في يوم من الأيام من عقائد المسيحية كما يخطئ البعض في الفهم والتفسير، وما أكثر الملل التي تقوم في كل جيل، يحارب أولياء الله الصالحون.

وسنعرض لكل هذا بالتفصيل

نظرة القرآن إلى النصارى

يدعوهم القرآن "أهل الكتاب" أو "الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" أو
"الذين
آتيناهم الكتاب" أو "النصارى"، ويصفهم القرآن بالإيمان وعبادة الله وعمل الخير.

ويقول في ذلك "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الكتاب أناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون فى الخيرات، وأولئك من الصالحين" سورة آل عمران 113.

ويقول أيضاً "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون به" سورة البقرو 121، "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله "سورة النساء 131،" الذين آتيناهم الكتاب من قبله، هم به يؤمنون" سورة القصص 53.

هم إذن من المؤمنين، يعبدون الله، ويسجدون لله وهم يتلون آيات الكتاب طوال الليل، يؤمنون بالله وبالكتاب وباليوم الآخر، وهم من الصالحين.

ولذلك أمر القرآن بمجادلتهم بالتي هي أحسن.

وفى ذلك يقول "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون"، سورة العنكبوت 46.

ولم يقتصر القرآن على الأمر بحسن مجادلة أهل الكتاب، بل أكثر من هذا: وضع القرآن النصارى في مركز الإفتاء في الدين.

فقال :"فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك" سورة يونس 94، وقال أيضاً: "وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحى إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" سورة الأنبياء 7

ووصف القرآن النصارى بأنهم ذوو رأفة ورحمة:

وقال في ذلك "وقفينا بعيسى بن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، سورة الحديد 27.

واعتبرهم القرآن أقرب الناس مودة للمسلمين:

وسجل ذلك في سورة المائدة، حيث يقول "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون" سورة المائدة: 83

ونلاحظ فى هذه الآية القرآنية تمييز النصارى عن الذين أشركوا، لأنها هنا تذكر ثلاث طوائف واجهها المسلمون، وهى اليهود والذين أشركوا في ناحية والنصارى في ناحية أخرى، فلو كان النصارى من المشركين، لما صح هذا الفصل والتمييز.

إن التمييز والفصل بين النصارى والمشركين أمر واضح جداً فى القرآن، ولا يقتصر على النص السابق، وإنما سنورد هنا أمثلة أخرى، منها قوله "إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد"، سورة الحج 17، نفس هذا التمييز نجده فى الآية 186 من سورة آل عمران، ونجده واضحاً في قوانين التزوج المشترك، وفى قوانين الجزية ولا يتسع المجال فى هذه العجالة لبحث مثل هذا الموضوع الواسع، على أننى سأعود إلى التكلم فيه، في نهاية هذا المقال، أما الآن فيكفى في نظرة القرآن إلى إيمان النصارى قوله "أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" سورة البقرة  62، وسورة المائدة: 69.

أما الآن فنتكلم عن نقطة أخرى في موضوعنا وهى الإنجيل.

يرى القرآن أن الإنجيل كتاب مقدس سماوي منزل من الله يجب قراءته على المسيحي والمسلم وكل من آمن بالله.

فيقول "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس"، سورة آل عمران 3، 4).

ويقول أيضا "وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا  عليه سورة المائدة46 - 48.

وكون القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، فهذا يعنى صحة الإنجيل والتوراة وسلامتهما من التحريف، وإلا فإنه يستحيل على المسلم أن يؤمن بأن القرآن نزل مصدقاً لكتاب محرف، كذلك لو كان التوراة والإنجيل قد لحقهما التحريف، ما كان يأمر قائلا "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، بل ما كان يصدر أيضاً ذلك الأمر، "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" سورة المائدة: 68.

ما أكثر الآيات القرآنية التي تدعو إلى الإيمان بالإنجيل والتوراة، نذكر منها غير ما سبق "يا أيها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذى نزل على رسوله، والكتاب الذى أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فقد ضل ضلالاً بعيدا"، سورة النساء: 136.

ونلاحظ فى هذا النص أنه قال "كتبه" ولم يقل "كتابه"، فيجب الإيمان بجميع الكتب الإلهية التي أرسلها هدى ونوراً وموعظة للمتقين...

وقد ورد في سورة البقرة عن أهمية هذا الإيمان "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"، البقرة" 4: 5قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون" البقرة: 136) آل عمران 84، "لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، سورة المائدة: 68

أقتصر الآن على هذا القدر القليل وقبل أن أترك هذه النقطة أقول، إن كل ما سبق ينفى بأسلوب قاطع الفكرة الخاطئة التي ظنها البعض وهى أن القرآن نسخ التوراة والإنجيل!!  من المحال أن يكون ناسخاً لهما وفى نفس الوقت يدعو إلى الإيمان بهما ويحذر من إهمال ذلك.

ملاحظة أخيرة أنبه إليها القراء وهى أن القرآن - فى كل سوره وآياته - عندما يذكر الإنجيل، إنما يعنى الإنجيل الذى بشر به المسيح.

ولم يرد فى القرآن حرف واحد من ذلك المؤلف المزيف الذى أسماه كاتبه "إنجيل برنابا، إن اسم برنابا هذا غير موجود على الإطلاق في القرآن، كما أن كثيرا  من تعاليمه ومعلوماته منافية ومناقضة لتعاليم القرآن.

فكرة القرآن عن المسيح

يسميه القرآن "عيسى"، وهذا الاسم يقرب من الكلمة اليونانية ايسوس) «iycouc» أما اسم المسيح في العبرية فهو يسوع ومعناه مخلص، على أن القرآن ذكر اسم المسيح أكثر من عشر مرات.

انظر: آل عمران 45، والنساء 157، 171، 172، والمائدة 17 مرتين، 72 مرتين، 75، والتوبة 30، 31، وسنحاول أن نورد بعض هذه الأمثل خلال حديثنا.

واسم المسيح هذا كان موضع دراسة لكبار المفسرين في الإسلام، وقيل في ذلك أنه سمى مسيحا "لأنه مسح من الأوزار والآثام"، وأورد الإمام الفخر الرازي حديثاً شريفاً قال فيه راويه "سمعت رسول الله يقول: ما من مولود من آدم إلا ونخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه، إلا مريم وابنها".

كل هذا، وما سيأتي، يدل على المركز الرفيع الذى تمتع به المسيح في القرآن وفى كتب المفسرين، وهو مركز تميز به عن سائر البشر، ومن ذلك

أولا: أنه دعى كلمة الله وروح منه.

وقد تكرر هذا اللقب، فورد فى سورة آل عمران" 45: «إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين"، وورد فى سورة النساء 171: "إنما المسيح عيسى ابن مريم ورسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه".

وقد أثارت عبارة "كلمة الله" تعليقات لاهوتية كثيرة لا داعى للخوض فيها الآن، وبخاصة لأن تسمية المسيح بكلمة الله يطابق الآية الأولى من الإنجيل ليوحنا الرسول، وكذلك لأن عبارة "الكلمة" وأصلها في اليونانية" اللوجوس"، لها فى الفلسفة، وفى علوم اللاهوت معان معينة غير معناها فى القاموس، وبنفس الوضع عبارة "روح منه" التي حار فى معناها كبار الأئمة والمفسرين، وأيا كانت النتيجة فإن هذين اللقبين يدلان على مركز رفيع للمسيح في القرآن لم يتمتع به غيره.

ثانيا: ولادته المعجزية من عذراء.

لم يقتصر الأمر على مولد المسيح أو طبيعته من حيث هو" كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم" وهذا ما لم يوصف به أحد من البشر، وإنما الطريقة التي ولد بها والتي شرحها القرآن في سورة مريم كانت طريقة عجيبة معجزية لم يولد بها أحد غيره من امرأة، زادها غرابة أنه" يكلم الناس فى المهد" آل عمران  46، الأمر الذى لم يحدث لأحد من قبل ولا من بعد.. أترك هذا العجب لتأمل القارئ لتسبح فيه روحه، وأنتقل إلى نقطة أخرى وهى:

ثالثا: معجزات المسيح العجيبة

وأخص منها مما ورد فى القرآن - غير إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى - معجزتين فوق طاقة البشر جميعاً، لم يقم بمثلهما أحد من الأنبياء وهما القدرة على الخلق، وعلى معرفة الغيب، وفى ذلك يقول القرآن على لسان المسيح "إنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.. وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن فى ذلك لآية لكم إن كنت مؤمنين "سورة آل عمران: 49.

هنا ويقف العقل، لكى تتأمل الروح.. لماذا يختص المسيح بهذه المعجزات التي لم يعملها أحد، والتي هي من عمل الله ذاته: الخلق ومعرفة الغيب!

ومن الأمور الأخرى التى يذكرها القرآن فى رفعة المسيح وعلوه هى:

رابعا موته ورفعه إلى السماء

وقد ورد فى ذلك "وإذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك، ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" سورة آل عمران 55، والمسيحية تؤمن بموت المسيح وصعوده إلى السماء، ولكن القرآن لم يبين كيف رفع المسيح ومتى حدث ذلك، وبقى الأمر عجباً..

خامسا صفات المسيح الأخرى.

من الصفات التى ذكرها القرآن عن المسيح أنه "وجيهاً فى الدنيا والآخرة"، وقد شرح أئمة المفسرين معنى هذا الوصف باستفاضة، وخرجوا منه بعلو مركز المسيح علواً عجيباً، وبأنه فى الآخرة تكون له شفاعة فى الناس.

مركز العذراء مريم فى القرآن

يشرح القرآن فى سورة آل عمران أن مريم نذرت للرب وهى فى بطن أمها "فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسنا"، وإنها تربت فى الهيكل تحت رعاية زكريا، وأنها كانت تطعم طعاماً من السماء "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله".

وعلو مركز العذراء مريم يظهر فى قول القرآن عنها "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين" آل عمران 42، وهكذا ارتفعت مريم فى نظر الإسلام فوق نساء العالمين.

كانت عذراء عابدة تسجد وتركع مع الراكعين، وكانت تحيا فى وحدة وتأمل "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجابا" سورة مريم 15، 16، وقد نذرت للرحمن صوما.. ويمكن الرجوع إلى سورة مريم وسورة آل عمران وغيرهما لمن يريد أن يتوسع فى معرفة فضائل العذراء مريم وعلو مكانتها، كما يشرح ذلك القرآن..

بعض خلافات غير حقيقية

أن هناك بعض نقط خلاف موجودة فى القرآن يظنها البعض منسوبة إلى المسيحيين، والمسيحيون لا يؤمنون بتلك البدع بل يحاربون أصحابها حيثما وجدوا، وهذه الخلافات تتركز فى الآيات القرآنية الآتية:

النقطة الأولى: خاصة بألوهية العذراء.

وورد فى ذلك "وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس: اتخذونى وأمى إلهين من دون الله، قال سبحانك"، سورة المائدة: 116  والمسيحية لم تقل فى يوم من الأيام بألوهية العذراء مريم، بل أن مريم نفسها تقول فى الإنجيل إنها "أمة الرب" فتأخذ وضعها كعبدة أمام الله.. فإن كانت قد قامت بدعة تنادى بتأليه العذراء، فإن المسيحية تحاربها بكل قوة.

كذلك لا يمكن أن تؤمن المسيحية إطلاقاً بوجود إلهين من دون الله حتى لو كان المسيح أحدهما.. فنحن نؤمن بإله واحد لا سواه، ولعل فى هذا الموضوع سنتعرض له عندما نعرض للنقطة الثالثة الخاصة بالشرك...

النقطة الثانية: خاصة بوجود صاحبة لله

وورد فى ذلك: "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" سورة الأنعام 101 ، وأيضاً "وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا"، سورة الجن: 3

ليس بين المسيحية والقرآن خلاف فى هذا الأمر، فالمسيحية تقول أيضاً أن الله لم يتخذ صاحبة، سبحانه، الله روح منزه عن الجسد وأعماله، وبنوة المسيح لله هى بنوة غير جدية، غير تناسلية، إنها شىء روحى إلهى يتسامى فوق هذا المستوى الجسدي.

فإن ربطنا بين البدعتين الأولى والثانية، الأولى التى تدعى ألوهية العذراء، والثانية التى تدعى صاحبة لله، أدركنا سر البدعة الثالثة الخاصة بالشرك بالله.

النقطة الثالثة: الخاصة بالشرك بالله كما لو كان هناك ثالوث مكون من الله وصاحبة وابن أنجبه الله من صاحبة، وهذا كفر مبين بعيدة عنه المسيحية، وليس ثالوث المسيحية من هذا النوع الوثنى كما ورد فى العبادات المصرية القديمة فى قصة الإله أوزوريس والإلهة إيزيس وابنهما الإله حورس، إن وجدت بدعة من هذا النوع يحاربها القرآن، فالمسيحية تحاربها أيضاً، ولا يمكن أن تؤمن بمثل هذا الكفر..

المسيحية لا تؤمن بالشرك بالله، إنما تؤمن بالتوحيد، ولا تؤمن بثلاثة آلهة إنما تؤمن بإله واحد لا شريك له، والآيات الدالة على التوحيد فى التوراة والإنجيل لا تدخل تحت حصر، إن التوحيد أمر بديهى لا يتناقش فيه اثنان.

فإن قال القرآن فى سورة النساء (171)ولا تقولوا ثلاثة... إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد»، فإن المسيحية تقول مثل هذا أيضاً، إنها تنكر التعدد والشرك، وتنكر أن يكون لله ولد من صاحبة بتناسل جدى، وإن قيل فى سورة المائدة، 73)، «لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد» فإن المسيحية تقول هذا أيضاً ليس الله واحداً من ثلاثة آلهة، لأنه لا يوجد سوى إله واحد لا شريك الله، إن الإسلام فى كل هذه الآيات إنما يحارب بدعاً تحاربها المسيحية أيضاً، وهى ليست من المسيحية فى شىء.

أما ثالوث المسيحية فغير هذا كله، تقول فيه "باسم الأب والابن والروح القدس، إله واحد آمين"، فالله هو جوهر إلهى أو ذات إلهية، له عقل وله روح، والثلاثة واحد، كالنار لها ذات هى النار، وتتولد منها حرارة وينبثق منها نور، والنار بنورها وحرارتها شىء واحد، وكالإنسان ذاته وعقله وروحه كيان واحد.. والبنوة فى اللاهوت هى كبنوة الفكر من العقل، العقل يلد فكراً وليست له صاحبة.

وأخيراً

فليس معنى كل ما قلناه أن القرآن والمسيحية شىء واحد، كلا فهناك خلافات جوهرية منها التثليث والتجسد والفداء ولاهوت المسيح وصلبه ومنها أسرار الكنيسة ومنها القرآن نفسه.. وأشياء أخرى كثيرة، ولكننا أحببنا فى هذا المقال أن نتكلم عن نقط التلاقي فقط، لا عن نقط الخلاف...