بقلم يامن نوح
كتاب "أصول الفقه المحمدي" للمستشرق الكبير جوزيف شاخت (1902-1969) يُعتبر أهم وأشهر أعماله في الدراسات العربية والإسلامية، وهو أحد الأعمال التأسيسية في مجال الدراسات الإسلامية بشكل عام، وفي الاستشراق الأوربي بوجه خاص.
وُلِدَ شاخت عام 1902 في ألمانيا، وحصل على الجنسية البريطانية عام 1947، وقام بالتدريس في جامعات عريقة مثل أوكسفورد وليدن، وأنهى حياته أستاذًا متفرغًا للدراسات العربية والإسلامية بجامعة كولومبيا الأمريكية. خلال مدة حياته صار شاخت أحد أهم الأسماء في مجال الدراسات الاستشراقية للإسلام، والتي تطورت بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. بشكل عام، كان يسود الدراسات الاستشراقية للإسلام حالة عامة من التشكك في مدى صدقية مصادر التاريخ الإسلامي المدون (كالحديث الشريف والسيرة النبوية). وفي هذا الكتاب، كما في غيره من أعماله، لم يكن شاخت مختلفًا عن غيره من حيث التشكك العام السائد في دوائر الاستشراق الأوربي في تلك الفترة، غير أنه – إلى حدٍّ ما - كان أقل حِدَّةً من كتاب سابقين له، من أمثال جولدتزيهر، أو لاحقين عليه، من أمثال وانسبرو وباتريشيا كرون. على أي حال، لقد شهد هذا التشكك العام داخل دوائر الاستشراق الأوربي عدة استثناءات من أسماء كبيرة، من أمثال مونتجمري واط ولاحقًا وائل حلاق.
وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الاعتدال النسبي لشاخت محل تقدير من التيار الديني التقليدي (الرسمي والحركي)، الذي ينظر – بكل التقدير - إلى مصادر التاريخ الإسلامي المكتوبة، التي تقوم عليها غالبية المنظومة الفقهية المعتمدة سُنِّيًّا. هذا التيار الديني يتعامل بشكل عام مع أعمال المستشرقين بنوع من التحفظ الشديد، ويواجهها بدرجة عالية من الروح الدفاعية، مؤكدًا على صدقية وموثوقية عمليات النقل التاريخي خلال عصور التدوين، المتمثلة أساسًا في علوم توثيق السند وعلوم الحديث المتصلة بنقد الرواية بشكل عام.
أهم الأفكار التي ناقشها شاخت في كتابه "أصول الفقه المحمدي" تأتي على رأسها مناقشة دور الشافعي المحوري في التأسيس لمنظومة أصول الفقه السُّنية، واعتماد المصادر الأربعة المعروفة حاليا: القرآن والسُّنة والإجماع والقياس. أبدى شاخت في هذا الكتاب إعجابًا كبيرًا بقدرات الشافعي النظرية، التي مكنته من تأسيس منظومة فقهية متماسكة البناء، تتلافي مشكلات وتناقضات المدارس الأصولية الأقدم منه (الحنفية والمالكية أساسًا). كما ركز شاخت كثيرًا على الإمكانات الجدالية الفائقة لدى الشافعي، التي مكنته من مواجهة خصومه وتوضيح مواضع تناقضهم أو ثغرات مقولاتهم، والانتصار - في المقابل - لمقولاته النظرية والاحتجاج عليها. يعتقد شاخت أن هذه القدرات الاحتجاجية والعقلية للشافعي هي ما رشحت أطروحته الأصولية للبقاء على حساب سابقيه، والذين تأثرت مدارسهم لاحقًا بما قدمه الشافعي في أعماله التأسيسية في علم الأصول.
كذلك، قام شاخت بتوضيح الدور الذي لعبه الشافعي في التأسيس لمفهوم "السُّنَّة" بمعناه المتداول حاليًّا، والذي صار مكافئًا للمفهوم الحديث بدرجة أو بأخرى، بعد أن كان استخدام هذا المفهوم - لدى المدارس الأصولية الأسبق - يُحيل إلى "العُرف المتبع" أو "ما جرى عليه العمل" بشكل عام، أو "عمل أهل المدينة" بالمصطلح المالكي. وبحسب شاخت، فإن هذا التأسيس لمفهوم السُّنَّة بمعناه الجديد – حينذاك - كان له دور كبير في دمج مادة الحديث ضمن منظومة أصول الفقه، وذلك على خلاف التحفظ العام الذي أبدته المدارس الأصولية السابقة عليه تجاه مرجعية الحديث النبوي، حيث لم تكن تلجأ إليه إلَّا في أضيق الحدود، وبمعايير محددة وضيقة في أغلب الأحوال.
سلط شاخت الضوء كذلك على الحالة الجدالية التي كانت سائدة بين المدارس الأصولية المختلفة، حيث يعتقد أن كثيرًا من الأحاديث النبوية، خاصة الأحاديث التي تتضمن أحكامًا فقهية مباشرة، قد تم اختلاقها خلال فترات نشوء هذه المدارس الأصولية، أي خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين، في خضم المعارك النظرية بين هذه المذاهب، لتوفير الدعم النبوي لمقولة هذه المدرسة أو تلك، وأشار إلى عدة أمثلة تعود لمسائل تخص الزواج والطلاق والرق وغيرها من القضايا الخلافية.
قام شاخت في هذا الكتاب بتحليل كمية كبيرة من الأحاديث النبوية، وقدم خلال هذا التحليل منهجيته الخاصة التي اقتنع بقدرتها على اكتشاف التاريخ الحقيقي لنشأة حديث معين، وهي منهجية "الراوي المشترك" أو "الرابط المشترك" (common link). باختصار، تعني منهجية الرابط المشترك - لدى شاخت - تحليل ومطابقة النسخ المختلفة من الإسناد المنسوب إلى نفس الحديث، وإيجاد حلقة الوصل بين هذه السلاسل المختلفة من الإسناد، بمعنى الوصول إلى الرواي الذي تفرعت عنه بعد ذلك كافة السلاسل الإسنادية. يرى شاخت أنه بالوصول إلى هذا الراوي المشترك يمكننا افتراض أن الحديث قد نشأ في عصره، وفي سبيل تأكيد ذلك أو نفيه يلجأ إلى تحليل اللغة التي يستخدمها المتن، والطريقة التي يقدم بها الأحكام الفقهية المستفادة منه، أو عرضه لتلك الأحكام التي يحاول - بشكل غير مباشر - استبعادها ودحضها، وهو ما يعود كما أسلفنا، وبحسب شاخت، إلى الحالة الجدالية بين المذاهب الفقهية المختلفة في عصر التدوين.
سلط شاخت الضوء كذلك على دور ما أسماه "الإسناد العائلي" (Family isnad)، وهو الإسناد الذي يتم بين شخصين من نفس العائلة، كالأسانيد المشهورة مثلا بين عروة بن الزبير وعائشة بنت أبي بكر، أو بين عبد الله بن عمر وأبيه عمر بن الخطاب، وغير ذلك من الأمثلة. ويمكن القول إن تقنية الراوي المشترك أصبحت فيما بعد علامة مميزة لهذا الكتاب ولأطروحة شاخت فيما يتعلق بنقد مادة الحديث، حيث تم استخدام هذه التقنية لاحقًا من قِبَل عدد كبير من الكُتاب، وفي المقابل عارضها ونقدها كثيرون كذلك.
ناقش شاخت بعد ذلك طبيعة مفهوم "الإجماع" لدى كُلٍّ من المدارس الأصولية المعروفة، وأشار إلى أن مفهوم الإجماع ضمن المدارس السابقة على الشافعي كان محدودًا بحدود أتباع المذهب، أو علماء "المصر" (الإقليم) الذي تتبعه المدرسة، بينما وَسَّعَ الشافعي هذا المفهوم ليتجاوز حدود الأمصار المحلية. لكن شاخت - في الوقت نفسه - بيَّن تَرَدُّدَ الشافعي في حسم موقفه من الإجماع حين رأي صعوبة كبيرة في تحققه، اللهم إلَّا في عدد قليل جدًّا من القضايا المتفق عليها بين المسلمين.
ناقش شاخت بعد ذلك مفهوم "القياس"، وقارن بين الدور الذي أولته كل مدرسة لهذه العملية والضوابط التي وضعتها له. كما أوضح أن عملية القياس الشافعية تميزت بالتحديد الصارم والانضباط النظري، مقارنةً بالعملية ذاتها لدى المدارس السابقة عليه، والتي كانت تستخدم القياس بدون تحديد واضح، وبطريقة تتسم بالسيولة التي أدت في كثير من الأحيان إلى التناقض، وهو ما استثمره الشافعي في خضم عملية الجدل النظري. غير أن شاخت أشار كذلك إلى اتساع المساحة المتروكة لعملية القياس في المدارس السابقة على الشافعي، مقارنةً بالمساحة ذاتها في الأصول الشافعية. في نهاية الكتاب، قام شاخت بعمل محاولة لترتيب أعمال الشافعي بحسب توقيت كتابتها لتوضيح مراحل تطور الفكر الأصولي لديه.
صدر كتاب "أصول الفقه المحمدي" للمرة الأولى بالإنجليزية عام 1950 عن دار نشر جامعة أوكسفورد، وأعيد طبعه بعد ذلك عدة طبعات نظرًا لأهميته المتزايدة، وقد صدرت له حديثًا ترجمة عربية عن دار نشر المدار الإسلامي، قام بها رياض الميلادي ووسيم كمون، وقام بمراجعة الترجمة الدكتور عبد المجيد الشرفي.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020