العالم أوسع من ذواتنا الضيقة، العالم أرحب من ضيق أفق
الإنسان، هكذا رأت "منة الله" حقيقة العالم في دراستها بمدينة "برايتون"،
ليتحول مصيرها من فتاة شديدة الارتباط بالتقاليد الرجعية، إلى إنسانة تحترم خصوصية
مجتمعها، لكنها تحترم خصوصية الآخرين، وتعيش غير مقيدة بعالم الذات الضيق.
ذلك ما حدث في "برايتون"، عنوان الرواية
الأولى للكاتب الصحفي والباحث دكتور سامح فوزي، الصادرة عن مؤسسة دار الهلال،
رواية هي رحلة، من عالم إلى عدة عوالم، ومن ضيق الذات إلى أفق الإنسانية.
الرواية تسرد حياة "منة الله" ابنة واحدة من
القرى المصرية العديدة، المتلحفة بالعادات والتقاليد التي تعتبر في أغلبها تقاليد
قاصرة المفهوم، تقيد رحابة العالم، غير أنها دون أن تدري تبدأ رحلة تغيير المصير،
لتكتشف ذاتها في نهاية الرحلة.
تحصل "منة الله" على منحة دراسية في بريطانيا،
ومنذ اللحظة الأولى يظهر تمسكها بالعادات والتقاليد البالية، حين أرادت أن تخفي
الخبر عن زملائها في العمل، خوفا من الحسد، وتمسكها بعادة تخالف العلم الذي تدرسه،
ثم يبرز ذلك التمسك بشكل أكبر عند وصولها إلى برايتون، في عزلتها وانفرادها بنفسها
داخل غرفة السكن الذي تشترك فيه مع أخريات من ثقافات عديدة، حضروا هم أيضا إلى
بريطانيا للدراسة، تسمعها قريناتها وهى تبكي ليلا في أثناء الصلاة، فهي تعيش عالما
مختلفا تماما عن عالم القرية المحافظة التي حضرت منها، حتى أنها لم تر حياة
المدينة في مصر، بل انتقلت بشكل مباشر من قريتها البسيطة إلى أوروبا، لتجد عالم
تعجز عن التواصل معه منذ لحظتها الأولى، غير أن الحاجة التي نعيش بها جميعا، من
الرغبة العارمة في التواصل مع الآخر، دفعتها لكسر ذلك الحاجز رويدا رويدا، لتبدأ
في تواصل بسيط مع قريناتها، لينفك ذلك التعقيد الذي يثقل كاهلها، لكنها منذ بدأت
في الاقتراب منهم شاهدت عادات وتقاليد غريبة، يعتبرها الناس في قريتها البسيطة
جريمة يعاقب عليها الإله، فهناك فتيات يقمن علاقات مع آخرين دون رابط شرعي، وهناك
تساهل واختلاط بين فتيات من ثقافات وديانات متعددة، لكنها منذ اللحظة الأولى تحترم
عادات الآخرين، وتغلق على نفسها باب المقارنة بين ثقافتها والثقافات الأخرى، فالآخر
حر طالما لم يقع عليّ الضرر جراء تلك الحرية التي يمارسها.
تمسك "منة الله" بالحرية منذ اللحظة الأولى هو
ما جعلها في حال أفضل، وهو ما جعلها أيضا تسير في طريق أكثر قبولا للآخر، ظهر ذلك
القبول تحديدا عندما اشتركت في ورشة عمل عن قبول الآخر بواحدة من كنائس المدينة،
لم يمنعها تدينها أن تحصل على العلم من داخل الكنيسة، متجاهلة تماما دعوات التطرف
ضد الأديان الأخرى، فجميعنا في الأصل نشترك في المفهوم الإنساني الواحد.
تتحلل "منة الله" رويدا رويدا من قيود عالمها
القروي، لكنها لا تفقد هويتها الشرقية، العربية، المسلمة، على عكس ما يروج
المتطرفون، بأن التأثر بالثقافة الغربية سوف يبعدنا عن هويتنا، "منة
الله" أثبتت العكس، استطاعت أن تمزج بين ممارستها لهويتها، وبين تأثرها
بثقافة الآخر، لتعيش حياة وسطية، تحترم حرية الآخر.
تعود "منة الله" إلى قريتها بعد أن انتهت
دراستها، وبعد أن أصبحت غير الذي كانت عليه في بداية سفرها، لتكتشف أنها لا تطيق
تلك الحياة المحافظة، لتقرر الاستقلال بذاتها، والبحث عن عمل تعيل منه نفسها،
وعندما تجده تذهب للعيش في القاهرة، وحدها، بعيدا عن أهلها في القرية، الذين أدركوا
كم تغيرت ابنتهم، بالطبع لم يعجبهم ذلك التغير، لكنهم لم يملكوا القدرة على منعها
من أن تعيش حياتها، فهي في النهاية تحترم هويتها، ولم تتحلل بالكامل من عاداتها
وتقاليدها الشرقية، لكنها فقط نقحتها من قيد الجهل والرجعية، أخذت من تلك العادات
ما هو يتناسب مع المفهوم الإنساني الذي يحترم الآخر.
تمر "منة الله" بتجربة زواج من أستاذ جامعي،
ظنت أن تدريسه في الجامعة يعني أنه شخص أفضل حالا من الآخرين، وأنه تحكمه رزانة
ورسوخ الأستاذ الجامعي، لكنها اكتشفت حقيقته سريعا، وأدركت خواء قلبه، ورجعية
عقله، فلم تتوانى أن تطلب الطلاق، وترحل بعيدا عنه، لتعود مستقلة بحياتها، ولم
ترضخ للقيود الشرقية الجاهلة في تعاملها مع المرأة المطلقة، فهي مستقلة بذاتها،
ولا تحتاج لرجل كي يكون سندا لها، ولم تخش من المجتمع حولها، فالذي حدث معها في
برايتون نقلها إلى خانة أخرى، خانة لا تعرف الضعف، أو التخاذل، خانة تحترم الآخر،
وتقبله، خانة ترفض الجهل والرجعية، وتحتفي بالعقل والعلم.