الخميس 2 مايو 2024

نوران إبراهيم تكتب:«أولاد الناس ــ ثلاثية المماليك» دروب الانتصار والانكسار التي تنيرها مشكاة الحكاية

فن16-10-2020 | 15:37

بقلم نوران إبراهيم عبد الرؤوف 


تتنقل ريم بسيوني/ جوزفين بمشكاتها وسط عالم المماليك، لتنير لنا دُروبًا أعتَمَت وأُعتِمَت، فيزداد المشهد جلاءً مع كل حكاية، بينما يتساءل القلب والعقل عن سني الظلام وكيف مرت بنا وعلينا. تحدثنا عن الحب والسحر والحرية والانتصار والهزيمة، عن الحقيقة والضلال، عن الحياة واختبارات الوصول للبقاء في مقابل الفناء، عن الشك واليقين وما بينهما. فاستحقت عن جدارة جائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية مصرية عن عامي 2019 - 2020، والتي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة بمصر بعد توقف 20 عامًا، فكان العود أحمد برواية أولاد الناس – ثلاثية المماليك. 

أتعمق في ثنايا حكاية محمد وزينب، فأدرك رمزيتها ومسرحية التاريخ. يقول محمد ابن محمد وزينب: "جميلة مصر، لو تَمَكَّنْتَ منها كامرأة تستعصي عليك، ولو وهبتك نفسها تذوب بين ذراعيها". فكأنه يحكي عن أمه وأبيه وليس عن مصر ومماليكها. حكاية زينب منذ وقعت عليها عينا الأمير في البداية توازي قصته طفلًا اختُطف من بين ذراعي أمه ليبدأ – غصبًا – حياة جديدة مع وطن فُرِضَ عليه في البداية، وما لبث أن صار بيته وسكنه وحضن أمه وحبيبته. كذلك تؤخذ زينب من بين أهلها فيقتلها الاشتياق إليهم في البدء، وتظل أسيرة ويظل محمد أسيرًا، حتى يحررهما حب كل منهما للآخر، فلا تصبح هي أسيرته ولا يصبح هو مملوكًا؛ فعبودية الحب في عُرف زمن أولاد الناس هي عين الحرية. بعد نهاية الحكاية، أظل يومًا كاملًا أتنقل بالكتاب، غير قادرة على استكمال الحكايات، وكأني في حِداد على أَحِبَّة. أقرأ الفاتحة لمحمد وزينب وشاد العمائر، وأَعِدُ نفسي بالذهاب للبحث عن مصحف زينب. 

حكاية عمرو، قاضي قوص، وضَيْفَة، هي حكايتنا جميعًا مع هذه الحياة التي تجرفنا حينًا ونقاومها أحيانًا. ضَيْفَة هي الحياة، والشيخ عمرو يجاهد فيها وبها ومن أجلها، فتقبل حينًا وتدبر حينًا. تحدثنا الحكاية عن سؤال الحياة الذي يقضي المفلحون منا حياتهم في محاولة للإجابة عليه، طمعًا في الوصول الذي يسبقه الامتحان الأكبر. تشتري ضَيْفَة قنديلًا قبل نهاية الحكاية، ينير الدرب الذي بدأت الحكاية بظُلمته، ويتوازى ومشكاة جوزفين المتجولة بين ثنايا الحكايات المطموسة كاشفةً ومتوهجةً. كلما خطونا خطوة على هَدْي الحقيقة شارفنا على الوصول. تنير لنا الحكاية الدرب؛ لأن "التاريخ ليس قصصًا وحكايات عن حاكم طغى وآخر أخلص وأفنى عمره في خدمة البلاد. التاريخ عن الناس، عندما يهتم العالم بالناس ويحكي عن الحاكم والسلطان - بوصفهما بشرين - يصبح التاريخ طريقة للفهم." الحكاية سلاح المظلوم، يورثها لأولاده عندما تجرده الهزيمة من كل عتاده، فيجلوها الزمن ويمنحها ألقًا يفوق لمعان أعتى السيوف. 

أمّا الحكاية الثالثة، فهي حكاية الهزيمة النبيلة "التي تحث على العيش لا الموت"، حكاية سلار وهند التي تعيدنا إلى سؤال الرواية المركزي عن الوصول والبقاء في مقابل التيه والفناء. "عند انتهاء المعركة ابحثْ لتجد، فمن يبحثْ يجدْ، ومن يتركْ ينلْ، ومن يحزنْ على الدنيا يفنَ فيها، ومن يجتزْ الدنيا يصلْ إلى الخلد". تختم الرواية بالاعتراف الدامع: "الانتصار الحق هو الإبقاء على ذكرى القُبح والظلم والخير والحُنُوّ، الانتصار هو تقبل الماضي دون الغوص في هزيمته، فالدنيا محاولة قصيرة للوصول، لا أكثر، لو بترنا نصفها ماذا يتبقى لنا؟" يقولها سلار، الأمير الشرس الذي لم تكسر الحرب روحه، ولكن جرحتها جرحًا لا يندمل، مثله مثل قدمه المبتورة التي هشمتها بنادق العثمانيين كما فعلت بشوارع قاهرتي.

أُنْهِي الرواية، ومرارة دمع الهزيمة لم تزلْ في حلقي. أحتضنها وكأنها طوفي الذي أعانني على بعض طريق الوصول، الوصول إلى وطني وتاريخي وأبطالي وشهدائي، الذين أضاءت وجوههم قناديل ومشكاوات الحكاية، رغم الظلام الذي خلفه سطو الغاصب على مشكاواتنا ليحرمنا من هديها، عسى أن نضيع نحن ويصل هو. أجد نفسي أقرب للوصول عندما أمر بمسجد السلطان حسن، فأطيل النظر إليه من الخارج، مع وعد بالعودة إلى قلبه قريبًا، وإذا بالدموع تجد طريقها إلى وجهي عندما أرى طيفيْ زينب ومحمد من حوله، وهو محض خيال لم يزل، وعندما أرى شاد العمائر يخلد ذكره وذكر أبيه به، وعندما أرى قاضي قوص وهو يهم بالدخول إليه لإعطاء دروسه، وسلار يقف على سطحه ليحكي لابنه وللناس ما جرى، عَلَّ الذكرى تنفع المؤمنين. يخفق قلبي بكل طبقات التاريخ والحيوات التي مرت من هنا. أوقد قنديلًا آخر ينضم إلى قنديل ضَيْفَة ومشكاة جوزفين بداخلي، وأنا أكرر لنفسي: "في الحكي البدء والوصول، وفي اكتمال القصص امتلاء للنفس وراحة للروح، تتشابك الأنفس عبر الأزمنة والأماكن، ويستحيل الفصل مهما حاولنا. مازلت أبحث".


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020

    Dr.Randa
    Dr.Radwa