السبت 18 مايو 2024

نجاة علي تكتب: تراث الاستعلاء بين الفولكلور والمجال الديني

فن16-10-2020 | 21:16

بقلم: نجاة علي


لعقود طويلة، ظلت المدرسة المصرية - في نظرتها للتراث الشعبي - أسيرة تَصَوُّرٍ بعينه، قائم على الاعتقاد بضرورة فصل العلاقة بين التراث الشعبي والتراث الديني، خاصة في ظل العلاقة المعقدة بينهما؛ حيث رأت - أعني المدرسة المصرية - أن التراث الشعبي مختلف عن التراث الديني الذي يُقِرُّه رجال الدين. وبموجب هذا الموقف ابتعدت الدراسات الشعبية تمامًا عن الخوض في أية قضايا تمس - من قريب أو بعيد - إشكاليات تتعلق بالعلاقة بين الدين والمجتمع على نحو مباشر.

وقد صدر حديثًا عن دار بتانة بالقاهرة كتاب "تراث الاستعلاء بين الفلكلور والمجال الديني" للباحث وأستاذ علم الاجتماع سعيد المصري، وأظنه سيمثل تمردًا كبيرًا على هذه النظرة النمطية، التي تفصل التراث الشعبي عن التراث الديني حسبما استقرت عليه المدرسة المصرية منذ السبعينيات؛ إذْ إنه يفكك الكثير من المقولات والتصورات الخاصة بتقديس التراث، وذلك عبر مساءلة موضوعية لكثير من الأفكار والرؤى التي ينطوي عليها هذا التراث، المليء بأشكال وصور متعددة للاستعلاء. كما يرصد الكتاب صور التمييز الثقافي في التراث الشعبي المصري عبر جميع التباينات الاجتماعية القائمة. وتكمن أهمية الدراسة، من الناحية النظرية، في سعيها لملء الفجوة الراهنة في دراسات التراث الشعبي، حول صور التمييز الثقافي المختلفة والمرتبطة بخريطة التباينات الاجتماعية القائمة على عدم المساواة.

يدور موضوع الكتاب - بالأساس - حول تراث الاستعلاء، الذي يتضمن جميع عناصر التراث "اللامادي"، أي العناصر التي تُعَزِّز التمييز بين البشر بحسب خصائصهم وانتماءاتهم. إنه تراث يكرس مبدأ التعالي على الآخرين بمقتضى اختلافهم، ويمثل أكثر جوانب التراث اللا مادي تأثيرًا في تفاقم الصراعات الاجتماعية القائمة على روح التعصب والكراهية والعنصرية.

وكما صرح الباحث في مقدمته، فنحن الآن في حاجة - ربما أكثر من أي وقت مضى - لمثل هذا النوع من الدراسات الأكاديمية، من أجل طرح إشكاليات جديدة لتطوير التراث، تكون قادرة على تجاوز ثنائية الإدانة والتمجيد، والنظرة الصارمة في الوقوف على الحياد، كيلا نترك أمر التراث خلفنا أداةً للتلاعب السياسي الذي يؤجج الصراعات الاجتماعية والتطرف والكراهية في عالمنا العربي. وقد يثير هذا الكتاب النقاش حول تطوير رؤًى جديدة للتراث ذات أبعاد إنسانية، تستطيع تجاوز الانقسامات والصراعات الاجتماعية، وتفتح الطريق مستقبلًا أمام محاولات جديدة لتطوير التراث.

إذا دققنا النظر في حال الكثير من الثقافات الإنسانية في كل أنحاء العالم، سنكتشف وجود ثنائية بين الأنا والآخر، وبمقتضاها يصير اعتبار الجماعة هي الأفضل على ما عداها من البشر خارجها. وهذا يفسر أسباب التماسك الداخلي بين أعضاء الجماعة، وتضامنهم حول الانتماء المشترك.

ويكشف لنا الباحث - في الفصل الأول من الكتاب - الجدل النظري الراهن حول مفهوم التمييز الثقافي في ارتباطه بعناصر التراث الثقافي اللا مادي. ومن ثَمَّ فهو يركز على مفهوم العدالة الثقافية وإشكالياته؛ باعتباره جوهر النقاش النظري حول ما تشهده المجتمعات الإنسانية من صور التمييز الثقافي، بما تمثله من انحراف عن قيمة العدل في الحياة الإنسانية.

نقطة البداية لفهم البعد الثقافي لعملية التمييز كانت واضحة في رؤية الماركسية، ومُؤَدَّاها أن الثقافة لا تعدو أن تكون جزءًا من بنية التفاوت القائمة في المجتمع، وعلى هذا النهج اتجهت آراء الماركسيين الجُدُد، أصحاب نظرية الصراع الاجتماعي، نحو اعتبار الثقافة مجرد أداة لإخفاء الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى دورها الفاعل في إضفاء الشرعية على بنية "اللا مساواة" في المجتمع. وترى نظريات الصراع أن هيمنة الجماعة المتميزة في المجتمع تصل إلى حد تشكيل معتقدات الآخرين، عن طريق التحكم في المعلومات العامة والمؤسسات المؤثرة في المجتمع، التي يقع على عاتقها إنتاج المعتقدات والأفكار كالتعليم والدين، وكذلك الثقافة المهيمنة في المجتمع. إنها الفكرة التي تقول إن الناس في الطبقات العليا لديهم القدرة الأكبر لجعل البناء الطبقي - برُمَّتِه - يبدو مشروعًا في نظر سائر الطبقات الاجتماعية.

وحول طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في عمليات التمييز، القائمة على عدم التكافؤ في فرص الحياة، ثمة ثلاث أطروحات نظرية أساسية يمكن على ضوئها فهم التمييز الثقافي، وهي : التصنيف المعرفي، والتعصب الاجتماعي، والعنصرية الثقافية.

ويوضح الدكتور سعيد المصري في كتابه مدى ارتباط ملامح تراث الاستعلاء بصور التمييز المرتبطة بالخصائص الاجتماعية، التي تنتشر بقدر كبير في التراث الشعبي الشفهي. وهذا النوع من التمييز يمكن أن نطلق عليه "الاستعلاء البدائي". وينمو هذا التراث بصورة تلقائية في ظل أنماط الحياة البسيطة التي تحتل فيها قيم الذكورة والفحولة والعشائرية والإثنية أهمية كبيرة في حياة البشر. وقد تستمر ملامح تراث الاستعلاء البدائي عبر الزمن، حتى في ظل التحضُّر واكتساب ملامح الحداثة، لأسباب تتعلق بفشل نُظُم التعليم والثقافة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في إشاعة ثقافة العدل. ومع ظهور التمايزات الاقتصادية الحادة تنشأ صورة من الاستعلاء الطبقي، تميز بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس المكانة والحُظوة الاقتصادية.

وبحسب الباحث، يصل التمييز الثقافي إلى أقصاه في حالة الاستعلاء الديني المرتبط بالاختلافات الدينية، بحيث يصبح الانتماء إلى دين معين مُبَرِّرًا للتمييز في الحقوق والواجبات. ولا يقف الأمر عند هذ الحد، بل إن هذا الانتماء الديني يعطي الحق للفئة المؤمنة به في الهيمنة على الآخرين، وإرغامهم على الدخول في هذا الدين بالقوة، وقد شاع هذا النمط من الاستعلاء الديني داخل حركة الإسلام السياسي، حيث يتعين على المؤمنين الجُدُد التخلص من كل ضغوط المجتمع الجاهلي، واعتبار المجتمع الإسلامي الجديد مهمةً مقدَّسةً لا تفريط فيها، وواجبة النفاذ بأمر إلهي، ولا مجال فيها لأية تنازلات أو مساومات أو أي شعور بالدونية. من هنا طرح سيد قطب مفهوم " الاستعلاء بالإيمان"، ويعني به الحالة الشعورية للمؤمنين نحو أنفسهم وفي نظرتهم للآخرين .

وقد خصص سيد قطب فصلًا كامًلا للاستعلاء في كتابه "معالم في الطريق"، يشرح فيه دلالات الشعور بالاستعلاء لدى المؤمنين المجاهدين، ومظاهره المتمثلة في التماسك والثبات في الجهاد، والقدرة على مواجهة عدم التكافؤ في القوة، والتخلص من الشعور بالاغتراب والدونية والضعف والحزن، من منطلق الآية القرآنية: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ (آل عمران 139).

على الرغم من اتساع المسافة بين التراث الشعبي والتراث الديني، وعدم اعتراف الديني بكثير من ممارسات وعناصر التراث الشعبي، فإن الاستعلاء يمثل قاسمًا مشتركًا بينهما، ولهذا تمتد خريطة تراث الاستعلاء من دوائر التراث الشعبي إلى المجال الديني، مع الأخذ في الاعتبار أن التراث الديني الإسلامي لا يعترف بصور التمييز القائمة على الاختلاف الديني، بل ينظر إلى البشر جميعًا على أنهم سواسية، ولا فارق بينهم إلَّا في العقيدة.

وإذا كان لاستعلاء في التراث الشعبي يُعاد إنتاجه عبر تفاعل البشر أفقيًّا و رأسيًّا من خلال الانتقال الشفهي، فإن الاستعلاء داخل المجال الديني يُعاد إنتاجه بالقوه والوصاية الدينية، من خلال حركات دينية تتولَّى تأصيله من قلب التراث الديني المدون، كما تتولَّى تفعيله في الحياة الاجتماعية بصور مختلفة.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020