أصدرت روايات الهلال، ترجمة لرواية "سوف تشرق الشمس"، للكاتب إرنست
همنجواي، إذ يعد إرنست همينجواي كاتب أمريكي ومن أهم الروائيين وكتاب القصة
الأمريكيين
وجاء في الفصل الأول من الرواية: كان «روبرت كون» فى وقت ما بطلا للملاكمة
- فى الوزن المتوسط - بجامعة «برينستون»، ولا تظنوا أنى مخدوع فى قيمة هذا اللقب،
ولكنه كان يعنى الشئ الكثير فى نظر «كون»..
وليس معنى هذا أن «كون» كان يهتم اهتماما حقيقيا برياضة الملاكمة، بل على
العكس من ذلك أنه كان يمقتها.. ولكنه بذل جهدا مضنيا حتى أتقنها، وذلك لكى يقاوم
الشعور بالنقص والخجل، لأنهم كانوا ينظرون إليه فى تلك الجامعة على أنه يهودى،
وكان لديه ثمة إحساس داخلى بالارتياح لأنه كان يستطيع أن يصرع أى إنسان يسئ إليه
متى شاء.. ولكن «كون» كان من الحياء وإيثار المسالمة بحيث لم يكن يقاتل أى إنسان
إلا فى ساحة الملعب.
ويعتبر «كون» انبغ تلاميذ المدرب الشهير «كيلى» الملقب بالعنكبوت، ومن عادة
العنكبوت أن يدرب سائر تلاميذه على الملاكمة باعتبارهم جميعا من وزن الريشة، يستوى
فى ذلك عنده من كان يزن منهم مائة وخمسين رطلا، ومن يزن مائتين وخمسين رطلا..
ويبدو أن «كون» قد استفاد من هذا التدريب، لأنه كان حقا سريع الحركة جدا،
وقد بلغ من براعته أن العنكبوت أرهقه بالتدريب إلى أن كسر له عظمة أنفه، فصار
شكلها أفطس مثل أنوف المحترفين.. مما زاد من كراهية «كون» للملاكمة، ولكنه فى
الوقت نفسه شعر بشعور عجيب من الراحة.
وفى السنة الأخيرة من دراسته فى جامعة «برينستون»، أقبل على القراءة بإفراط
شديد حتى ضعف بصره، فاضطر إلى اتخاذ نظارة، ولكنى لم ألتق بأى زميل له فى الصف
يتذكر زمالته، أو حتى يتذكر أنه كان بطل الجامعة فى الملاكمة للوزن المتوسط..
ومن دأبى أن أسئ الظن بجميع الصرحاء والبسطاء، ولا سيما حين تكون روايتهم
عن أنفسهم محبوكة الأطراف، ومن ثم سيطر على ذهنى أن «كون» ربما لم يكن فى أى يوم
من الأيام بطلا للملاكمة فى الوزن المتوسط، وأن فطس أنفه ربما كان نتيجة سقوط تحت
حوافر حصان مثلا، أو لأن أمه رأت فى مدة حملها به منظرا أفزعها، أو لأنه اصطدم
بطفل ما وهو صغير، أو لغير ذلك من الأسباب التى لا علاقة لها بالبطولة الرياضية،
ثم تحرجت أخيرا أن أظلمه، فكلفت من تحرى الامر من العنكبوت شخصيا.. فإذا به لا
يذكره فحسب، بل اهتم أيضا بمعرفة أخباره..
وكان «روبرت كون» ينتمى من جهة أبيه إلى أسرة من أغنى أسر اليهود فى
نيويورك، ومن جهة أمه إلى أسرة من أقدم أسرهم، وعندما كان طالبا فى المدرسة
الثانوية، لم يشعر بأية تفرقه فى المعاملة بسبب أصله، وكان بارزا فى المباراة
النهائية لكرة القدم بها، ولكنه ما أن دخل جامعة «برينستون» حتى شعر بوطأة
التفرقة، ولما كان شابا حييا مسالما، فقد ترسب فى نفسه الأسى المر، ولم يجد لذلك
الشعور مصرفا إلا فى اتقان الملاكمة.
وغادر «كون» الجامعة وهو يحمل فى نفسه مركب نقص من النوع الحاد، فضلا عن
أنف أفطس. وكان طبيعيا أن يؤدى به ذلك إلى الزواج من أول فتاة أظهرت له الولاء.
وقضى مع تلك الزوجة خمسة أعوام، أنجب منها خلالها ثلاثة أطفال، وبدد فى غضونها
الخمسين ألف دولار التى ورثها عن أبيه، ومن حسن الحظ أن أباه ترك عقاره لزوجته
والدة «كون».
وزادت هذه السنوات التعيسة المملوءة بالخلافات الزوجية من إحساسه بالمرارة،
حتى أنه حين عزم على هجر زوجته الثرية، فوجئ بفرارها مع رجل رسام.. فكان ذلك صدمة
شديدة. جرحت كبرياءه.
وبعد أن تم الطلاق، نزح «كون» إلى الشاطئ للترويح عن نفسه، وفى كاليفورنيا
اتصلت أسباب التعارف بينه وبين حفنة من المثقفين، ولما كانت لديه بقية باقية من
مبلغ الخمسين ألف دولار، فسرعان ما تورط فى تمويل مجلة للفنون الرفيعة، وازهاه كل
الزهو أن يظهر اسمه فى صدر الصحيفة بين أسماء هيئة التحرير، ولكنه لم يلبث بمرور
الوقت أن استأثر وحده برئاسة التحرير، وقد وجد فى ذلك ما يرضى عقدة نقصه.. لكنه
أسف أسفا شديدا عندما اضطر أمام فداحة الخسائر أن يتوقف عن إصدارها.
وفى فترة قيامه بإصدار المجلة، كان قد ارتبط بعلاقة مع سيدة من المتأدبات.. داعبها
الأمل زمنا ما أن تتمكن من النهوض بالمجلة، فيذيع صيتهما معا بنجاحها، وفرضت
شخصيتها القوية على الشاب الخجول، فانقاد لها كعادته، وأعتقد أنه يحبها حقا.
ولما تبينت السيدة أنه ليس بالإمكان إنقاذ المجلة من الفشل شعرت بشئ كثير
من خيبة الأمل فى «كون»، وقررت أن تحصل على أقصى ما يمكن أن تحصل عليه من صلتها
به، فحرضته على الرحيل معها إلى أوربا ليتفرغ للكتابة هناك.
ورحلا بالفعل إلى أوربا، وأمضيا فيها ثلاثة أعوام.. الأول منها قضياه فى
السياحة، والعامين الأخيرين قضياهما فى باريس، حيث تعرف «كون» بصديقين: «برادوكس»
و«أتا».. أما «برادوكس» فصديقه فى الأدب، وأما «أنا» فصديقته فى لعبة التنس.
أما السيدة التى سيطرت على «كون» فاسمها «فرانسيس»، ولما أتضح لها، فى
نهاية العام الثانى من تلك العلاقة، أن جمالها آخذ فى الذبول، تغير على الأثر
سلوكها نحو «كون» من التسلط العادى إلى ضرب من الاستغلال.. مع التصميم على أن
يتزوجها.
وفى تلك الأثناء كانت أم «كون» قد خصصت له راتبا، أعتقد أنه يبلغ نحو
ثلثمائة دولار فى الشهر، وأعتقد أيضا أنه فى مدى عامين ونصف العام على الأقل لم
ينظـر «روبرت كون» إلى أية امرأة أخرى، لأنه كان ناعم البال تماما.. لولا ذلك
الإحساس بالحسرة الذى يخامر كل أمريكى هاجر بلده وأقام فى أوربا. ويضاف إلى هذا أن
(كون) أكتشف قدرته على الكتابة، وبالفعل أتم كتابة قصة لم تكن فى الحقيقة جديرة
بالزوبعة النقدية التى أثارها النقاد عليها فيما بعد.. هذا مع إقرارى إنها قصة
تافهة، وقد وزع وقته بحيث لايجد السام إلى نفسه سبيلا.. فكان يقرأ الكثير من
الكتب، ويلعب (البريدج) والتنس، ويتمرن عل الملاكمة، فى الأندية الخاصة بالعاصمة
الفرنسية.
وقد أدركت حقيقته من مسلك صاحبته نحوه، ذات
ليلة، بعد أن تناول ثلاثتنا العشاء معا فى (الأفنيو)، ثم ذهبنا إلى مقهى (فرساى)
لاحتساء القهوة، وبعد أن شربنا عدة كؤوس، أبديت رغبتى فى الإنصراف، وكان (كون) قد
أبدى رغبته تلك الليلة فى مغادرة المدينة للتمتع بنزهات خلوية سيرا على الأقدام -
أنا وهو فقط- فى إحدى عطلات الأسبوع القادمة، واقترحت أنا أن تستقل الطائرة إلى
ستراسبورج، ومن هناك نذهب سيرا على الأقدام إلى «سا أوديل» أو غيرها من مناطق مقاطعة
الالزاس الجميلة، وعززت رأيى قائلاً:
- أننى أعرف
فتاة أمريكية تقيم باستراسبورج سوف تصحبنا لترينا معالم المدينة.
وإذا بى أشعر بقدم تركل قدمى تحت المائدة، وظننت أن المسألة صدفة عارضة
واستطردت:
- وهى فتاة
لطيفة عاشت هناك عامين وتعرف كل شئ عن استراسبورج..
وتلقيت ركلة أخرى، فتطلعت إلى جليسى، وإذا بى أرى وجه «فرانسيس» مربدا،
عندئذ تداركت نفسى وقلت:
- ولكن لماذا
بحق الشيطان نذهب إلى استراسبورج؟.. أن فى وسعنا أن ننطلق إلى الأردين، أو إلى أى
إقليم آخر!..
فسرى عن «كون» ولم أتلق ركلة ثالثة تحت المائدة، واكتفيت بهذا، والقيت على
العشيقين تحية المساء وانصرفت.. وتذرع «كون» بأنه يريد أن يشترى أحدى الصحف، وسار
معى إلى رأس الشارع، وفى الطريق قال لى:
- لماذا بالله
عليك قلت هذا عن الفتاة التى تقيم فى استراسبورج؟ ألم تر وجه فرانسيس كيف تغير؟
- وأى حرج فى أن
أذكر فتاة أمريكية أعرفها؟ وأى شأن لفرانسيس بهذا؟
- لا شئ يا
صاحبى سوى أنه سيترتب على هذا ألا استطيع الذهاب.
- لا تكن أبله..
- هى الحقيقة..
أنت لا تعرف فرانسيس، أنها تغار من أية فتاة مهما كانت.
- أوه.. حسنا..
لنذهب إلى «سنليس» للتنزه فى غاباتها الفيحاء.
- هذه فكرة
طيبة، لأننا سنعود فى نفس اليوم..
- أراك غدا إذن..
- نعم.. طابت
ليلتك ياجاك.
وانطلق عائدا، فقلت له:
- نسيت أن تشترى
الصحيفة التى جئت من أجلها.
- هذا صحيح..
وذهبنا إلى كشك الصحف، وقبل أن ينصرف قال لى:
- أرجو ألا تكون
غاضبا ياجاك؟
- كلا.. ولماذا
أغضب؟
- أراك إذن غدا
فى ملعب التنس..
ووقفت أرقبه وهو يمشى عائدا إلى المقهى، حيث تنتظره صاحبته والصحيفة التى
لا حاجة له بها فى يده..
كنت أحبه، ولذا عز على كثيرا أن أرى هذه السيدة تسومه هذا الاستبداد الذى
ينغص عليه حياته..