"شخصيات
كثيرة فى التاريخ كنت أتمنى أن أقابلها فأتعلم الحكمة والجلَد، وصممت على ذلك، حتى
الذين غيبهم الموت قابلتهم وتحدثت إلى أفكارهم، وكنت أفرح لفرحهم وأحزن لحزنهم،
ويرتعد جسدى لمواقفهم النبيلة من أجل الحق، والخير، والعدل، والجمال؛أولئك الرجال
لم يموتوا كما تذهب الظنون؛ فهم أحياء بالكلمة الصافية التى غيرت حياة الملايين،
وما الحياة والتاريخ إلا سِيَرَ هؤلاء العظماء وأعمالهم التى لا تفنى على مر
الزمن".
بهذه الكلمات
يوضح الكاتب محسن عبدالعزيز فلسفته ودافعه من وراء كتاب "رجال حول
الوطن"، والذى ينقسم إلى أربعة أقسام رئيسية، القسم الأول يتناول قادة بارزين
فى التاريخ المصرى أولهم اللواء محمد نجيب" الديكتاتور الطيب" –على حد
تعبير الكاتب- أول رئيس للجمهورية بعد عهد الملكية، ثم يشتاق الكاتب لنظرة الزعيم
الراحل جمال عبدالناصر للبلد من خلال ..ناصر "وحشتنا نظرة عيونك للبلد يا
جمال"، أما الجزء الثالث من هذا القسم فيعرض الكاتب لأحد القادة المؤثرين فى
التاريخ المصرى وهو القائد سعد الدين الشاذلى جنرال النصر العنيد، وينتهى هذا
القسم بقائد آخر لا يقل عن سابقيه شهرة، وصيتًا، ومحبة فى قلوب المصريين وهو القائد عبدالغنى الجمسى، أو كما
يحب أن يلقبه الكاتب بـ "النحيف المخيف".
أما القسم
الثانى من كتاب رجال حول الوطن، فهو الشق الفلسفى التنويرى من هذا الكتاب، حيث
يتناول الكاتب مجموعة من قادة الرأى والفكر والتنوير الذين تركوا بصمات فى حياة
المصريين في قلوبهم وألبابهم، فيتناول المفكر محمد عبده إمام التنوير فى عصره
والتى لا تزال آراؤه وكتاباته ترشد الكثيرين فى طريقهم للنهل من المعرفة والعلم،
ثم يعرج الكاتب إلى المفكر لويس عوض صاحب
الرؤية الواضحة والهدف الواضح المباشر .
متسلحًا
بالعلم والعقل ليدخل معارك لا تنتهى دون أن يخاف من حاكم أو جماعة كهنوتية، ولم
يتراجع أو يهتم إلى قول رأيه كواحد من أبناء الثقافة العربية والإسلامية، ويصف
الكاتب لويس عوض بأنه " كان صلبًا كقديس، والعقل عنده هو السيد وكل معاركه
كانت دفاعًا عن الفكر الحر".
أما فى الجزء
الثالث من هذا القسم يتناول الكاتب الدكتور فؤاد زكريا ، الذى دخل معركة الهجوم
على الرئيس الراحل عبدالناصر، المعركة التى بدأت بعد أن حقق الرئيس السادات نصر
أكتوبر 1973 ؛ من خلال حملة هجوم ضارية ضد
الرئيس جمال عبدالناصر؛ تمهيدًا لأن يصبح السادات الزعيم الحقيقى الذى قاد البلاد
إلى النصر، على عكس عبدالناصر الذى قادها للهزيمة فى 1967.
فهاجم فؤاد
زكريا أستاذ كرسي الفلسفة بجامعة عين شمس فى مقاله المنشور فى إحدى المطبوعات
استبداد عبدالناصر وما شاب حكمه من أخطاء فى تطبيق الاشتراكية.
وتنبه فؤاد
زكريا مبكرًا إلى المرض العضال الذى يفتُ في عضد هذا الوطن -على حد تعبير الكاتب-
وهو غياب العقل والتفكير المنظم، فأطلق
صرخته بالدعوة إلى التفكير العلمى وأصدر كتابًا بهذا العنوان عام 1977 ينتقد من
خلاله التعصب والجهل والخرافة، ويعلمنا من خلاله كيفية التفكير، ويأخذ بأيدينا إلى
التفكير المنظم الذى نستخدمه فى حياتنا العلمية وعلاقاتنا الإنسانية ، هذا التفكير
الذى يخلصنا من مخلفات عصور الجهل والخرافة ، وبذلك يستحق فؤاد زكريا أن يطلق عليه
"فيلسوف التفكير العلمى".
وفى الجزء
الأخير من هذا القسم، يتناول الكاتب صلاح سالم، أو "فيلسوف من عصرنا"،
كما يحلو للكاتب أن يسميه، والذى كان يحلم بأن يكون طبيبًا أو أديبًا مثل الدكتور
يوسف إدريس، فكتب القصة القصيرة وحصل على المركز الثالث فى الجامعة، وكتب المقال
حبًا وتوقًا لفلسفة زكى نجيب محمود ، فحصل على المركز الأول على مستوى الجمهورية ،
ومنذ ذلك الحين اختار لنفسه الفكر والفلسفة طريقًا وارتضى لنفسه الفيلسوف الراحل
زكى نجيب محمود أبًا روحيًا وفكريًا.
لم ينقلب حب وشغف صلاح سالم بالفلسفة وكتبها العديدة يومًا ، ما دفعه لإصداره أول كتاب له
بعنوان "تجليات العقل العربى"، أما كتابه الثانى " تحولات الهُوية
والعلاقات العربية التركية " فقد كان عزيزًا عليه لأنه أهداه جائزة الدولة
التشجيعية وعمره 33 عامًا فقط، كما جاء كتابه "التفكير السياسى العربى"
كأول محاولة للكتابة فى الفكر العربى متأثرًا بالمفكر الكبير محمد عابد الجابرى ،
ثم جاء الكتاب الذى أصبح نقلة فكرية كبرى وهو "محمد نبي الإنسانية "،
باعتباره بداية دراسة الأديان.
يرى الكاتب من خلال الصفحات التى خص بها صلاح سالم،
بأن الأخير بمثابة فيلسوف للجيل الحالى ؛ فبعد أكثر من 20 كتابًا يمكن لـ صلاح
سالم أن يكشف لنا عن فلسفته التى يشرحها قائلًا" إيمانى الخاص أن أبقى شاهدًا
على العالم، بدلًا من التصارع فيه، وهذا يقتضى أمرين، أحدهما يتجسد فى مفهوم
(بوذا) عن اللاتعلق، وهى فكرة تقول إن على الإنسان أن يقلل من احتياجاته إلى
الأشياء، وتطلعه المادى ليبقى قادرًا على امتلاك مصيره وحرية إرادته.
الأمر الآخر
يتمثل فى مفهوم الواجب عند (كانط)، ويعنى
ذلك أن تسلك أخلاقيًا بما يتفق مع كونك إنسانًا حتى مع غير الأخلاقى؛ لأنه فى
النهاية يبقى إنسانًا؛ إيمانًا بأن كل الفضائل البشرية تنبع من الطبيعة الإيجابية
للإنسان، بغض النظر عما يعتنقه من أديان، أو ينتمى إليه من هُويات وطنية أو
قومية".
أما القسم
الثالث من كتاب "رجال حول الوطن"، فينطوى على مجموعة من المبدعين منهم
المفكرون والشعراء، ومنهم سلبوا الألباب قبل القلوب بأقلامهم، بكلماتهم التى لامست
القلوب كما حركت العقول.
فيتناول
الكاتب فى هذا القسم المبدع يحيى حقي عازف أنشودة البساطة، ثم كامل الشناوى ناظر
مدرسة العاشقين ، ويتناول يوسف إدريس واصفًا إياه بـ "الأسطورة"، والتى
لا تزال كتاباته تمثل نبراسًا للعديد من الكتاب والمفكرين والمبدعين، ويعرج الكتاب
إلى الكاتب والشاعر صلاح جاهين، وهو أحد العمالقة المبدعين فى التاريخ المصرى.
وفى الجزء
الخامس من هذا القسم اختار الكاتب الشاعر نزار قباني ، الذى أصدر ديوانه الأول
" قالت لى السمراء" ،فأثار جدلاً واسعًا ومن يومها قالوا عنه "شاعر
إباحى"،وعلق نزار قبانى على هذا الهجوم بالقول "إن هذا الديوان أحدث وجعًا عميقًا فى جسد المدينة التى ترفض
أن تعترف بجسدها أو بأحلامها، لقد هاجمونى بشراسة وحش مجنون، وكان لحمى يومئذٍ
طريًا ...
يقول عنى الأغنياء
إنى دخلت إلى مقاصير النساء..وما خرجت
ويطالبون بنصب مشنقتى ..لأنى..
عن شئون حبيبتى شعرًا كتبت
أنا لم أتاجر مثل غيرى بالحشيش
ولا سرقت ولا قتلت
لكننى أحببت فى وضح النهار
فهل ترانى قد كفرت؟".
لقد كان نزار
قبانى شاعرًا متفردًا منذ قصيدته الأولى، وأنزل الشعر من أبراج النخبة إلى متناول
الأيدى وأضاء الشموع التى تنير دروب العشاق والمدافعين عن حرية الجسد والوعي
والأرض.
أما فى الجزء
الأخير من هذا القسم فتحدث الكتاب عن الشاعر أمل دنقل ، الذى أنشد فى أحد احتفالات فى
أكتوبر 1982 على المسرح قصيدته الشهيرة "لا تصالح" التى كانت بمثابة وصية
أخيرة منه للجموع المحتشدة فى ذلك اليوم وذلك المكان، يقول فيها:
لا تصالح ولو
منحوك الذهب
أتُرى
حين أفقأ
عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هى أشياء لا
تُشترى".
لقد كانت
كلمات أمل دنقل دومًا أقوى من الرصاص تنفجر فتسرى فى العقول والقلوب وتشعلها
بالغضب ، فلقد كان صورة لمجاذيب الفن والشعر الذين لا يلتفت أحد لما يقولون إلا
بعد الموت ، موت الفنان وموت الحقيقة كما يصفها محسن عبدالعزيز.
وفى القسم
الرابع والأخير من هذا الكتاب، يتناول محسن عبدالعزيز مجموعة من الكتاب مثل محمد
حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، وعبدالوهاب مطاوع حصرًا.
فعند هيكل
يذكرأنه كتب فى الذكرى الأربعين لوفاة
جمال عبدالناصر ..."عبدالناصر ليس أسطورة" ليقول إن الحزن الزائد يدفع
بالذكرى – دون أن نشعر- إلى ضباب الأساطير، وهذا يضع عبدالناصر فى غير مكانه
الصحيح، فالأسطورة غيب، وأعظم شيء فى جمال عبدالناصر أنه حياة إنسانية زاخرة، عاشت
على الأرض وبين الناس، وتحت أشعة الشمس.
وختم هيكل
المقال : "إن عبدالناصر كان إنسانا عظيمًا، لا أقل ولا أكثر".
ومن هذا
المنطلق، يرى الكاتب محسن عبدالعزيز- وبنفس
المنطق - أن هيكل ليس أسطورة دون أن يعنى ذلك أنه ابن عاق لأن هيكل - على حد
تعبيره- علمه أن كل تجربة فيها الصواب وفيها الخطأ، وهيكل كان تجربة عريضة، لا
نصلي لها، ولكن نفكر فيها طبقُا لتعبيره عن الرئيس عبدالناصر.
أما عن أحمد
بهاء الدين فى الجزء الثانى من هذا القسم ،فيصفه الكاتب بأنه صاحب الكتابة الراقية
من خلال قوله " كان أحمد بهاء الدين نسيجًا واحدًا فى الصحافة والسياسة،
وعنوانًا للكتابة الراقية، لم يتغير تبعًا لتغير الحكام، كتابته تشبه النهر، صافية
، عذبة، وتعرف طريقها جيدًا إلى عقل الحاكم، وقلب القارئ".
أحمد بهاء
الدين، كان يذهب فى كتاباته إلى آخر حدود الأسلاك الشائكة، ويتجنب الاصطدام
بالألغام ؛ ولذلك يرى الكاتب أنه لم يكن من الصحفيين الذين عرفوا السجون، ولكنه
عرف النقل والفصل.
وفى الجزء
الثالث والأخير من هذا الفصل والكتاب بشكل عام ، يتناول الكاتب فى أحد رجاله حول
الوطن والكُتاب الكبار وهو حضرة المحترم عبدالوهاب مطاوع، فلكل إنسان أسطورته
الخاصة أو قصته، ولقد بدأ عبدالوهاب مطاوع يبحث عن أسطورته ويطارد حلمه منذ أن كان
فى السادسة عشرة من عمره ، كما يصف المؤلف.
ولم يصل إلى
أسطورته إلا بعد ذلك بعشرين عامًا عندما أصبح مشرفًا على بريد الأهرام عام 1982 والذى
مكنه من وضع يده على الدراما الإنسانية والتى كانت الوقود لفلسفة حياته وكتاباته.
راح مطاوع
ينقّب فى كتب الفلسفة والتاريخ وسير الحكماء والمصلحين والأنبياء ورجال الدين لكى يُجيب عن أسئلة القراء التى حيرت عقولهم
وسلبت ألبابهم، فيقول عبدالوهاب مطاوع عن
نفسه كما جاء فى كتاب "رجال حول الوطن" إننى أقتنى رءوس المفكرين
الفلاسفة وفى غرفة مكتبى رءوس دانتي، وتشيكوف، وسقراط، وأرسطو ، وموتسارت،
وبيتهوفن، وجوهان ستراوس الابن...إلخ، وأحس دائمًا بأنهم يراقبونني".
كان الدافع
وراء كتابة هذا الكتاب، لحظة الخطر التى استشعرها المؤلف- على حد وصفه- تلك اللحظة
التى تعرضت لها مصر خلال فترة حكم الإخوان وما تلاها؛ حيث يسعى المؤلف للتنقيب عن
مثل هذه الشخصيات بهدف واحد وهو الإيمان بأن الوطن الذى أنجب أمثال هؤلاء العظماء
لا يمكن أن يسقط أبدًا ،عابرًا بأمثالهم ليخترق الأزمان والسنين لحاضر عظيم ومستقبل
عريق يليق بوطن عريق كمصر.