منذ سنوات قلائل قال أحد المخرجين الذين
وفدوا إلى بلادي الصعيدية في الجنوب لتصوير بعض المشاهد الخارجية في مسلسل يجري تنفيذه
بالقاهرة، وكنت بالصدفة أشاهد البرنامج التليفزيوني الحواري معه، ذهبت إلى قنا
وأنا أتصور أنني بمجرد نزولي من القطار واستقبالي للشارع سأرى بيئة متواضعة تجللها
القذارة وتكتظ بالعربات البائسة والحمير المربوطة في أعمدة الإنارة وباعة الخضار
الذين يفترشون الشوارع الرئيسية المتربة.. ولن أجد إنسانا واعيا بالفن يعين طاقمنا
لو احتجنا إلى إعانة ما، ولكن عندما خرجت من المحطة، واصل المخرج حديثه هكذا،
فوجئت بصورة صغرى من القاهرة لكنها أهدأ وأنظف وأكثر تحديدا، ومع الوقت قابلت
عشرات ممن يمكنني الاعتماد عليهم وعيناي مغمضتان.. وفهمت أنني كنت مخطئا وأن الصعيد
المصري البعيد تطور تماما وتغير بشدة..
إذا كان مثل هذا المخرج، والمفترض أنه مثقف
وعلى دراية بأقاليم وطنه وظروفها وأحوالها إن لم يكن بالقراءة فبالمتابعة والاستماع،
إذا كان يجب أن يلام على تصوره القاصر قبل أن يبصر الحقيقة؛ فإن اللوم الأكبر لا
ريب يقع على الصعايدة أنفسهم.. فكثيرون من صعايدة الجنوب الذين يعيشون في بلادهم يعيشون
غير واثقين فيها ولا محيطين بتاريخها ولا رموزها ولا الورد الكثير الذي انتشر
بأرضها بدلا من القمامة والجداريات الأخاذة التي ملأت ساحاتها التي لم يكن فيها
أثر لزهو الرسوم والألوان..
أفرق أولا بين الصعيدين الجنوبي الذي أنتمي
إليه والشمالي الذي هو امتداد له (المنيا/ بني سويف/ الجيزة/ الفيوم).. فالصعيد
الشمالي أقرب في لهجته وطباعه إلى الفلاحين بالدلتا لا الصعايدة وفي بعض أخلاقه إلى
العاصمة اللصيقة به والقريبة منه، هو أقل ثقلا من الصعيد الجنوبي، وله حضارته
الفرعونية الخاصة التي أثرت فيه (حضارة آتون رع ومركزها تل العمارنة بالمنيا وقائدها
إخناتون) وهي حضارة منفصلة بالأساس عن حضارة آمون رع الأصلية بالجنوب.. حضارة
توحيدية وليست متعددة الآلهة، ربما كانت محاولة للخلاص من التقليدية لكنها قسمت
الحضارة الفرعونية قسمة سلبية وأفقدتها ممالك كانت تتبعها وتركت آثارها العميقة في
الأجيال (بعيدا عن التفاصيل الآن).. المهم لا يؤمن صعايدة جنوبيون كثيرون بأن
إخوتهم صعايدة الشمال كمثلهم في العادات والتقاليد والحرص على الأفعال النبيلة
الآسرة وأداء الواجبات بصدق وجود.. يسمون الصعيد الشمالي بالصعيد الماليزي في
إشارة خفيفة الظل ذكية إلى كونه ليس صعيدا أصيلا كصعيدهم، بل يقول الواحد من هؤلاء
لراكب القطار المتجه إلى الجنوب من القاهرة: يبدأ الصعيد الحقيقي من سوهاج وينتهي
في أسوان (سوهاج/ قنا/ الأقصر/ أسوان).. وقلما يضيفون إقليمي الوادي الجديد والبحر
الأحمر إلى الأقاليم الجنوبية مع أنهما ينتميان إليها قطعا لكن بمسار جغرافي مختلف..
وُلدت في مدينة قنا ونشأت فيها وأتممت تعليمي
بها حتى المرحلة الثانوية (تعليمي الجامعي كان في كلية دار العلوم بجامعة
المنيا).. درست العلوم العسكرية في مدرسة الشهيد عبد المنعم رياض الثانوية أيام
كانت عسكرية، وكنت أحد أشهر الطلاب هناك في سياحات ضرب النار بجبال قنا بأطراف
المدينة وفي تقليد المدرسين في الحفلات المدرسية، وإن كان ضرب النار ليس غريبا
علينا كصعايدة جنوبيين فإن أكثر الأصدقاء كانوا يتصورون أنني سألتحق بالمعهد
العالي للفنون المسرحية لولعي بالتمثيل والإلقاء أو بكلية الإعلام للساني الفصيح وتعبيراتي
البليغة النفاذة وحضوري الطاغي.. ولا أنسى أنني ومجموعة من الأصدقاء أنشأنا شبه
جماعة أدبية، وكنا في الفسحة المدرسية نذهب إلى البيت الأقرب بين بيوتنا ونناقش
قضايا كبرى في القصة والرواية والشعر والمقال..
لأن عمري الآن خمسون عاما؛ فقد أسعدني الحظ بشهود
الصعيد القديم كما أشاهد التقدم المذهل الملحوظ به في السنوات الأخيرة.. حضرت طقس
"حصان النقيب" في الليلة الختامية لمولد سيدي عبد الرحيم القنوي (ألف
قنا ثالثة تقلب واوا في النسب؛ فالصحيح قنوي لا قنائي كما هو ذائع ولا بأس
باستخدام الشائع على كل حال).. كان طقسا بديعا للغاية.. مشاعل وموسيقات وبمب
وصواريخ وزحمة أولاد وبنات وباعة حلوى يجرون عرباتهم الخشبية بالنداءات الحميمة
وصخب وبهجة وضياع أطفال ودموع أيضا.. وثلاثة أحصنة مهيبة يتوسطها حصان النقيب
الأبيض تمشي الهوينى متراقصة على إيقاع الموسيقات ودق الآلات النحاسية من شارعنا
شارع النقيب الذي هو من أقدم شوارع المدينة، وموقعه قلبها، إلى مقام سيدي القنوي
بشرق السكة الحديدية والذي خلفه مدافن المسلمين.. كم سحرني الطقس الزاخر الجذاب،
وتبعته، فنزل أهلي للبحث عني، وإما وجدوني أو ندموا لتركي في الشارع حتى أعود
إليهم مشدوها، وقد أنال عقابا ما .. يقيني
الآن أنني لم أكن أيامذاك أسير خلف أحصنة كأنها الملائكة في حفل زفاف ما، بل كنت
أبحث عن قصيدتي المستقبلية وتفوقي الأدبي السردي الوصفي القادم.
جداي لأبي وأمي كانا شيخين جليلين، جدي لأبي
كان مدرسا أزهريا مشهورا بأنه في حاله وبأنه بالغ الرقة مع افتقاره إلى الأملاك
والأموال، وجدي لأمي كان ناظرا
بالتعليم العام في إحدى القرى وما زلت أسمع
أنه كان يسير إلى عمله على قدميه مع وجود المواصلات فقد كان قويا مغالبا وكان واسع
الغنى، وجمع بينهما القرآن؛ فقد كانا من حفظته والعالمين بتلاوته وتفاسيره..
وكلاهما يؤمنان بأن المرأة للستر إذا بلغت الرشد والرجل لفتح البيت لو كان مستقيما
لا قادرا، ولم يكن جدي لأمي يكتب قائمة لبناته بل يقول إن ما يهمه عزم الرجال، ولم
يكن جدي لأبي يواري ظروفه عن أحد قط ولم يكن يخجل من بساطة حاله.. في النهاية تزوج
السيد الذي صار والدي بعد ذلك الشيخ "أحمد طايع كمال الدين" بوالدتي
رحمها الله السيدة "صفية محمد أحمد على خليفة" التي تركت التعليم في
الصف الرابع الابتدائي لتتفرغ لشؤون البيت من كنس وغسل وطبخ كما هي عادة ذلك
الزمان في أغلبه لا عمومه.
كان جدي لأمي مهيبا يؤثر الوحدة، وكان أبي ملازما
أباه، وكلاهما شيخان أزهريان، كنت أجلس بينهما على الطبلية البسيطة ببيت جدي الشيخ
طايع؛ فأسمع إعرابهما لآيات القرآن فوق ما أسمع ضرب الملاعق لأطباق الثريد وأسمع
محفوظاتهما من الشعر أكثر مما أسمع مواء القطة العالي المتلحح إذ تريد نصيبها من
الطعام..هنالك كان الشيخان يتبادلان مسح ظهرها بوداعة تسرية وتصبيرا..
لو قلت إنني ورثت من الجدين والوالد جانب
اللغة لكنت مبالغا؛ فلم يأت أحد من أشقائي، ولا أولاد الأخوال والأعمام، بارعا في
اللغة طيّع اللسان كمثلي.. فالدقيق أن أقول إنني تأثرت بقربي للأجواء اللغوية
العبقرية والروحية الباذخة، وكان الاستعداد الشخصي مولودا بداخلي (وهذا هو الأهم)،
وكانت طبيعة صعيدنا تساعد على نموه وازدهاره؛ فالمنادر التي تجمع العلماء وقراء
القرآن موفورة صداحة بمدى الأيام، وأبي يصحبني في ذهابه لأبيه بسوق قنا الفوقاني
وفي زاوية الشيخ عامر لإمامة الناس وتدريسهم الفقه والحديث وقراءة كلمته الخاصة في
المناسبات الدينية التي لا ينقطع الاحتفال بها، وينشد فيها المنشدون ويمدح
المداحون، وتُوزع فيها حلوى الفولية والسمسمية والحمصية على الحضور الكريم.
التناقض الظاهري الذي بين أبي وأمي من جهة
التعليم أثر فيّ تأثيرا بالغا بالمثل؛ فالسيدة الفاضلة التي تركت التعليم مبكرا ومعارفها
العلمية منعدمة أو شديدة المحدودية ولا تغادر بيتها إلا لأمها أو لضرورة قصوى،
وبإذن زوجها طبعا، هي زوجة لأزهري متأدب مثقف مرح يعمل بقطاع حكومي ديني له رفعته،
وصل به الولع بتحصيل العلوم إلى إجادته للإنجليزية لكي يعرف الآخرين ولو من باب أن
يأمن شرورهم وكان لا يكف عن نسخ الكتب لتثبيتها في ذهنه ولا عن القراءة المنوعة
والكتابة الخاصة الرصينة التي كان يسلي بها نفسه ولا يكتبها للاحتراف لا شعرا ولا
نثرا.. وكان يضع أسئلة العلوم الدينية واللغوية للامتحانات ويترأس لجانها سائحا بالمحافظات..
لكن أمي كانت ورثت من أمها شيئا كثيرا من الفلكلور وكانت تتحلى بصفات شخصية رائعة
كالذكاء الفطري الحاد وإدارة المنزل بحكمة في غياب سيده والعناية بنفسها وأولادها
على أتم وجه..من هذين العظيمين لم أستغرب قط أنني كتبت الفصحى والعامية بنفس
الجودة فيما بعد.. كأن القصيدتين أبي وأمي.
يبقى،
أخيرا، أن الصعيد الجنوبي الذي أنا من أرجى أبنائه عنده كما أسمعه يقول مرارا
وتكرارا، زاخر بدفء علاقات أهله مما يمحو الكراهية والتخلي ويثبت المودة والوفاء،
وحره لا يميت لكن يعلم قتل العقارب، وخياله الشعبي الوافر ينشط الأذهان وينبه
لجلال الحكايات، وغناؤه الحميم المستمر يرتب موسيقى الأرواح، وزروعه الباسقات
كالأمل، وثأره كالتزام الحق لا الحقد، وتحضره لا يخفى على أريب لبيب..