الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

مرة واحد صعيدي

  • 18-10-2020 | 16:04

طباعة

في طفولتنا البعيدة في الصعيد كان القاسم المشترك لجلسات السمر أن نلقي "نكات" عن الصعايدة، كنا نتحدث عن الصعايدة باعتبارهم أشخاصًا آخرين لا نعرفهم، أشخاصًا يتسمون بكل الصفات التى تصلح كمادة للسخرية.. كان الأمر غريبا حقا .. لكن كان السؤال الذي يشغل بالنا بعد انتهاء الجلسات أين يمكننا أن نشاهد هذا الصعيدي الذي يسخرون منه في التليفزيون ويقدمون عليه فاصلا لا ينقطع من النكات المتواصلة و" شرائط كاسيت" بأكملها يتم تعبئتها بفقرات متواصلة مع ضحكات لا تتوقف.

كنا نعرف أننا ننتمي إلى الصعيد .. لكن أين هو هذا الصعيدي الذي اشترى العتبة ..لدينا أمثلة حية لعشرات النماذج التى تحمل صفات " توديك البحر وتجيبك عطشان"، أين هو الصعيدي الساذج الذي تأكل القطة أكله ونحن نشاهد من يسافر في فترة الإجازة الصيفية ببطاقته الشخصية ليعمل في ليبيا ويعود سالمًا غانمًا يحمل من خيرات الأرض و"مروحتين فوق البيعة" .. أين هو الصعيدي الجاهل ونحن نشاهد الأطباء والمهندسين والأوائل في الجامعات وأصحاب المشاريع وأصحاب رؤوس الأموال .. حتى من يسافر إلى الاسكندرية أو إلى القاهرة  "يطلق عليها الصعايدة مصر"، دون مؤهل أو وجهة أو حتى صنعة، أو كما يقال " على باب الله"، عافيته هي صنعته، يعافر في الدنيا وبعد عدة أعوام وفر فيها من قوته نجده قد اشترى قطعة أرض ودخل بها شريكا لبناء برج سكني ومن حصيلة البيع يشتري أرضا ويبنيها وهكذا يتحول إلى مقاول .. ما يحدث في المقاولات يحدث في الأسواق التجارية والموانئ البحرية .. ليبقى السؤال الصعب أين هو هذا الصعيدي الذي يسخر منه أهل بحري؟.

معظم معلومات أهل بحري عن الصعيد مصدرها المسلسلات القديمة، تلك المسلسلات التى جعلت صديقتي القديمة تتخيل أن الحقيبة التى كنت أحملها بها مسدس بسبب الثأر، لم تتخيل أن الحقيبة تضم كتابا لنصر حامد أبو زيد وآخر لـ لويس عوض والأعمال الكاملة لأمل دنقل وأوراق وأقلام .. هم يظنون أن كل صعيدي لديه استعداد فطري للتعامل مع السلاح والقتل في أي لحظة، عن نفسي لن أنسى تلك النظرة التى وجدتها في عين الأصدقاء وكنا في أحد الموالد وقرروا تجربة " فتح عينك تاكل ملبن" وأمسك كل منهم ببندقية وظل يصوب أملا في أن يكسب دون فائدة، لكني قررت أن أجربها دون أن أنظر إليها من الأساس وضعت البندقية على كتفي وقررت أن أصوب .. لا أريد أن أقول إنني بارع .. بالعكس كانت المرة الأولي التى أمسك فيها بندقية التنشين، الدائرة كبيرة وتضم عددا كبيرا من الـ " بومب" سريع الانفجار.. كان قراري وقتها أنه طالما وصلت إلى الدائرة فبالتأكيد سأصيب أيا منها .. وقد كان وسمعنا صوت انفجار إحداها واتسعت أعين الأصدقاء من وجه بحري على هذا الصعيدي الذي يجيد الرماية وهو يعطي ظهره للهدف.. وعلى  الرغم من أن الأمر  لم يخرج عن ما ذكرته إلا أنه ظل لفترة طويلة حديثا متجددا.

في وجه بحري يتعاملون مع الصعيد باعتباره العالم الذي قدمه لهم محمد صفاء عامر  في مسلسلاته أو ما يجدونه في أعمال أخرى درامية، شكلت  مادة خام لصورة غير حقيقية .. هنا دعني أصحح عددا من المعلومات الخاطئة عن الصعيد وعن أهله، أول هذه المعلومات الخاطئة .. أن اللهجة التى يتحدث بها صناع الدراما لا علاقة لها بالصعيد ( في طفولتنا أيضا كنا نعيد تمثيل بعض المشاهد ونعوج شفاهنا ونلويها لتخرج أصواتا مماثلة لما نسمعه باعتبارها صعيدية ) فالصعيد  لا يتحدث لهجة واحدة من الأساس، حتى المحافظة الواحدة التى تضم عددا من المراكز والمدن، كل منها يضم قرى ونجوعًا ومشايخ كل نجع أو قرية أو مشيخة تتحدث بلهجة مختلفة عن اللهجة التى يتحدث بها أهل القرية أو النجع المجاور.

ثاني المعلومات الخاطئة أن الصعيد لا يحترم المرأة، هذا الأمر غير حقيقي بالمرة ..فالمرأة بالنسبة للصعيدي هي كل شيء، الأم هي عامود البيت لا راد لكلمتها ولا مانع لما تقول، كلمتها كالسيف، والزوجة هي التى تدبر كل شيء وهي التى تتحمل الهم والألم وتشارك في كل التفاصيل، ورأيها مهم في كل القرارات، حتى لو كان بيع الأرض أو " الجاموسة" لا يخجل الصعيدي بعد الاتفاق من أن يقول للطرف الآخر " استنى أسأل الجماعة"، في الصعيد تتعلم الفتاة وتذهب للجامعة وتعمل وتسافر.

ثالث الخطايا الثأر، فكرة الثأر في حد ذاتها سببها أخذ الحق، الصعيدي دمه حر لا يقبل الظلم، وقديما كان القانون بعيدا جدا عن الوصول لهم فاختاروا قانونهم الخاص القاتل يُقتل .. لكن حتى في هذا الأمر كان لهم ما يؤكد شهامتهم فالثأر له قوانينه الخاصة، لا يأخذ الصعيدي الثأر من عجوز ولا من امرأة ولا من طفل .. ومن يفعل ذلك يفقد الميزة الأهم من الثأر، وهي رفع الرأس عاليًا، كيف ترفع رأسك وأنت أخذت الثأر من شخص يفتقد المعايير .. هنا أنت انتقمت فقط ولم تأخذ الثأر.

الحديث عن الصعيد لا يتوقف أبدا خاصة إذا ما تعلق الأمر بالصورة النمطية المغلوطة عن الصعايدة.. فالصورة الحقيقية عنهم في العظماء الذين خرجوا منه .. هنا أنا لا أبالغ عندما أقول إنني أرد على من يقول جملة "مرة واحد صعيدي" بالقول، مرة واحد صعيدي اسمه جمال عبد الناصر، أو مرة واحد صعيدي اسمه طه حسين، أو عباس محمود العقاد، ومرة 10 مشايخ صعايدة جلسوا على مقعد شيخ الأزهر آخرهم الدكتور أحمد الطيب .. ومرة واحد صعيدي اسمه البابا شنودة الثالث ومرة واحد صعيدي اسمه رفاعة الطهطاوي، وحافظ إبراهيم ومكرم عبيد وعبد الرحمن الأبنودي ويوسف وهبي وهدى شعراوي وعبد الباسط عبد الصمد، وعاطف الطيب، وآلاف من عظماء الصعيد الذين نباهي بهم بين الأمم.

بقيت كلمة : صحيح أن التعميم مرفوض، وأن لكل قاعدة ما يكسرها، لكن أيًا ما كان من التقيته من أهل الجنوب يبقى الصعيدي هو المرادف للرجولة، والأصل الطيب والشهامة، هو المادة الخام للجدعنة، هو الذي إذا أكلت طعامه أمنت، وإذا شرب معك ماء سيعتبره "عيش وملح"، في الغربة ستجده ظهرًا وسندًا وفي الداخل لن يخذلك.

 الصعيد خير الوطن وملحه، وأولادهم هم من يقفون في أول الصفوف وقت البناء والحرب، هم من يتحملون قسوة الأيام بابتسامة صافية ليعبروا إلى بر الأمان.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة