"طق
الطقش.. طرت اتلافاه وأخمه خم.. قرقشت حص.. ترنه حذر"
والطقش: البلحة في بداية نضجها.. طرت.. ركضت.. اتلافاه:
أمسك به.. أخمه خم:آكله أكلا.. قرقشت: مضغت.. حص: نصف البلحة.. ترنه: ترى أنه أي
اكتشفته.. حذر: مر.
"أبنهوتى بطش تور زقمه"
أبنهوتى: هناك.. تور: قم.. زقمه: ضع الطعام في فمه
"محلا الحديت تله"
محلا: ما أجمل.. الحديت: الحديث.. تله: تطويله
عبارات جاءت على خاطري كما اتفق وأنا أشرع في كتابة موضوع عن "اللهجة
الصعيدية" وفي الإمكان كتابة عبارات أطول في صيغة حكايات أو أمثال أو حوارات أو
سرد أبيات من السيرة الهلالية وشعر الواو والمواويل والعديد وغيرها ثم لا تستطيع
أن تفسر منها سوى بعض كلمات بجد جهيد ولا تكفي لتفسير ما تسمعه.
فاللهجة الصعيدية لها سمات عامة تجدها في محافظات الوادي لاسيما محافظات
الصعيد الجواني المحصورة بين النيل والجبل في "أسيوط - سوهاج - قنا –
أسوان" ولها طريقة معينة للنطق بها بالضغط الشديد على مخارج الحروف وتستلزم
رفع درجة الصوت أحيانا حتى يمكن نطقها وكأنها تقذف قذفا لتنفجر منها معانيها.
وهي لهجة قد تبدو جافة غليظة حارة كالجبل عند سماعها ولكنها عند التأمل
تجدها تخفي وراء تلك الغلظة وهذا الجفاف، مشاعر حرة عذبة فياضة كماء النيل في
فيضانه، فتشعر وكأنها تخرج من مناطق غائرة من أعماق ناطقيها.
لا أنكر أن اللهجة بالنسبة لي شخصيا قد شكلت عائقا في التعامل في بداية
حياتى في القاهرة، مع شعور عميق بأن التشبث باللهجة أساس التمسك بالهُوية ورفض
الذوبان في ثقافة مجتمع آخر حتى لو كان هذا المجتمع قريبًا منا وتربطنا به وشائج
وحاجات ضرورية.
كانت اللهجة تقابل بالسخرية منها وغالبا هي سخرية على سبيل التلطف وليس
الاستنكار، لكن تبقى علامات التعجب على الوجوه من بعض الكلمات الغامضة أو من طريقة
نطق الكلمات المعتادة.
لكن مع الاستقرار في القاهرة تقاربت الضرورتان، ضرورة الحفاظ على الهُوية
مع ضرورة الاندماج مع الحياة التى تبقى اللهجة أبرز معالمها فصار الحديث مع كل بلهجته
التى يتعامل بها.
ومفردات اللهجة الجنوبية لا تزال
حتى الآن لم يتعرض لدراستها أحد فيما أظن من الدارسين، حتى من بين أبناء الجنوب من
المتخصصين في أصول اللغات واللهجات ولكن يمكن تلمس أصولها في معاجم اللغة العربية
نتيجة أن نسبة كبيرة من سكان الصعيد ينتمون لأصول عربية من قبائل هاجرت جزيرة
العرب قبل أو مع أو بعد الفتح الإسلامي.
"ذكر
المؤرخ سترابون الذي عاش بين عامي "63 ق.م و23م" أن نصف سكان مدينة قِفط
كانوا من العرب في القرن الأول الميلادي"
كذلك نجد مفردات لا حصر لها ترجع إلى اللغة المصرية القديمة ويذكر أنه منذ
العصور الفرعونية كانت هناك لهجتان متباينتان بين وجهي مصر القبلي والبحري ويسهل
الآن تتبع الكلمات المستخدمة حاليا من اللغة المصرية القديمة أو القبطية التالية
لها.
واللهجات المصرية متعددة ما بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، فهناك لهجات
خاصة بقبائل سيناء وقبائل البحر الأحمر والدلتا شرق الدلتا وغربها وبور سعيد
والإسكندرية ومطروح وأسوان والنوبة والواحات، بل تجد اللهجات تتغاير قليلا بين
سكان المنطقة الواحدة وإن كانت تظل ذات صبغة واحدة للمنطقة عامة.
لكن لهجة الصعيد على اختلاف مفرداتها بين منطقة وأخرى وطريقة نطقها، تظل
متميزة لأنها تحمل في جعبتها ما يجعلها ذات سمات متميزة، فهي ليست فقط وسيلة تخاطب
خاصة، بل لها عمقها التاريخى والاجتماعى والثقافى.
يتبدى هذا العمق في ثلاثة وجوه تبين عن القدرات الفنية لهذه اللهجة في
التعبير عن المعاني والأحداث.
الوجه الأول:
السيرة الهلالية وهي إن كانت سيرة تدور بين شخصيات لا تنتمي للصعيد ولم تطأ
أرضه ولم تدر أحداثها تحت سمائه وليس لها به أي صلة، إلا أن الشاعر الصعيدي نسج
بقريحته ملحمة من أروع الملاحم في تاريخ الآداب الشعبية عالميا ومحليا، اقتربت من
المليون بيت شعر أو زادت عليه، فغنى الشاعر الصعيدي على الربابة أحداث هذه السيرة
بمفردات وألحانًا جنوبية صرفة لم يخالطها تأثير يذكر حتى من البلاد التى دارت على
أرضها تلك الملاحم في السيرة نفسها.
فتجد شعراء السيرة الهلالية بالجلباب والعمامة يقدمون الأحداث غنائيا
وشعريا من قرائحهم مباشرة والمهم هنا أن المفردات صعيدية شحط محط.
فمثلا يقول أبو زيد الهلالي موجها كلامه إلى الزناتي خليفة
"إذا جاني ضيف أبقى عبد له
عدد ما خطر بالرجالة
ومهما يطلب أقضيه
أهيا عادات الرجالة"
وكذلك قال:
قال له إنت راجل على غير مرباي
معرفش تحسب حسابك
ده أنا أجيبلك الطين وأرباي
وأحرق كبار اللي جابك"
وهما مربعان من آلاف الأبيات يسفران عن روح جنوبية خالصة في التعبير من
الشخصية العربية الكريمة التى تقبل تخديم نفسها للضيف كالعبد لأنه حق له أن يكرم
ولا غضاضة أن تكون خادما لضيفك مهما قل شأنه وعلا شأنك، فأبو زيد يقول لخليفة إنه
لا يعيبه أن يبدو عليه أنه عبد بسبب لونه الأسود لأنه يكون عبدا لضيفه عدد خطوات
هذا الضيف برجليه ومهما طلب منه فسيقضي له مراده لأنه هذه هي عادات الرجولة.
لكن هذا اللين مع الضيف لا يعنى أنه يفرط في كرامته لما سبه الزناتي فوصفه
أنه رجل غير متربي ولا يدرك حساب العيب في غيره ولذلك يهدده أبو زيد بأنه سيرى
الويل على يده وكأنه سيأتى له بالطين يجعله أخف قواما ليلطخه به ويلعن أكبر جدوده.
هذه هي المعاني التى تضمنتها الأبيات المكتوبة والمنطوقة باللهجة المصرية
الجنوبية وهي لا تعبر عن سمات اللهجة فقط ولكنها سمات الشخصية والبيئة الصعيديتين
وتبرز روحهما سواء في لين النهر أو شدة الجبل.
واستخدم شعراء السيرة كذلك لغة عربية فصحى بأوزان الشعر العربي غنوها على
الربابة مطعمة بالمفردات الصعيدية العامية في الحوار بين رزق ابن نايل - والد أبو
زيد- مع زوجته حيث قال رزق مفتتحا كلامه بمديح النبي صلى الله عليه وسلم كما يتكرر
مرارا في ثنايا السيرة
الحق يشهد والكتاب المنزل
بأنك رسول الله طه الأفضل
قد جئتنا ببشائر وفضائل
وشهرت للدين القديم الأول
مقالات رزق العامري الجعفري
أبيات شعر مثل حب الفُلفُل
ألفتهم والقلب مني مغرم
على ما جرى من خضرة خربت منزلي
جبتك شريفة هاشمية منسبة
قد خاب فيكي يا قبيحة أملي
جبتك كحيلة جيدة مافكيش دنس
كيف عبد غيري فوق سرجي يعتلي
خضرة ارحلي من منزلي ثم ارحلي
مع عبدك الأسود ولا تتمهلي
وإن ما رحلت يا قبيحة بالعجل
لأقص عمرك بالقضاء المنزل
وردت عليه خضرة بأبيات على الوزن والقافية السابقين.
لكن مع استخدام الشعر العربي الفصيح، يبقى شعر السيرة يعكس باقتدار، ليس
فقط سمة وروح اللهجة الجنوبية، لكن سمات وروح الشخصية الصعيدية وخلقها وصفاتها
وطريقة تعبيرها في حكمتها وانفعالها.
فالسيرة الهلالية جاءت في مقدمة الأغانى والمواويل التى حافظت على اللهجة
واحتفظت بأسرارها التى تبيح بها لمن عشق هذه اللهجة ولو لم يكن من بين أبنائها.
"وفن
الواو"
سكت الطياب
والناموس تار .. والسبع طاطا بعينه
خليه دا
النومِ أستار .. لما الكلب ياخد يومينه
وفي رواية
أخرى
"والعنزة
طارت ورا الديب.. لما قرنها بظ عينه"
شوف الزمان
انتهت عَدَليه .. وادي البُطْل ع الحق راكِب
جه السبع
يُطلُب عدليه .. لَقَي الهِلف ع التخت راكب
***
يا قلبي
إوعى تعاشر الدُون .. ولا تكلِّمُه بالاشتراحة
تكلمه
الكلامِ موزون.. تلقاه يرد بقباحة
***
جاني طبيبي
مع العصر.. وف إيده ماسك عصاية
أتاري
طبيبي قليل أصل .. من خصمي جابلي الوصاية
***
كلام الغرابا
حِمِلناه .. فات علينا كما ريح هاوي
كلام
القرابا آخ منَّاه .. وياجي فوق فرش الكلاوي
***
فَرَطت قِلعِي ما جانيش ريح .. وعاودت ع البَر ناوي
ياما ناس زيِّنا مجاريح .. لكين صابرة ع البلاوي
وفن الواو يلعب فيه الشاعر على الجناس التام والناقص بين مفردات الكلمات في
اللغة عامة واللهجة خاصة ومن خلال هذا الفن الذي ابتدعه الشاعر "ابن
عروس" والذي قيل إنه مولود في قفط جنوب محافظة قنا وقيل إنه من أصل تونسي
وهناك من شككوا في وجوده ولكن بقيت مربعاته الشعرية حية نابضة هى الحقيقة التى لا
جدال فيها سواء صحت نسبتها إليه.
ولابد من يوم معلوم .. تترد فيه المظالم
أبيض
على كل مظلوم .. أسود على كل ظالم
من منا لم يسمع هذا المربع الشعري ويردده في
طرب؟
وأسمع على المنوال نفسه:
خايف أقول له يقول "له" .. والقلب مرعوب وخايف
ابقي قولي له يا قلة .. حين توردي ع الشفايف
وهذه الأبيات لا تكاد تشعر بطعم لها ولا تؤثر فيك إلا إذا سمعتها باللهجة
الصعيدية وقد ظل فن الواو متواريا حتى قيض الله له شاعرا من نجع حمادي هو الشاعر عبد الستار سليم، حين دعا
إلى إحيائه بتجربة عملية بأن أصدر كتابا عن هذا الفن عن الهيئة المصرية العامة
للكتاب أورد في مقدمته نماذج من مربعات شعر الواو الذي سمي بهذا الاسم بسبب أن
الشاعر - الذي ارتبط في الصعيد بآلة الربابة الموسيقية- لأن الشاعر كان يقول في
مقدمة المربعات: "وقال الشاعر".
ونسج سليم على الواو شعرا من قريحته استخدم فيها مفردات شديدة المحلية
وتكاد تندثر ويجهلها كثير من الأجيال المعاصرة ولكنها بعثت بتجديد الواو
فاسمع مثلا
جملي "الموَّلد" لما يهل.. يقفوا ويقولوا جا فلان
كان قولي يربطها ويحل.. وصبح كما "الجلبة" "جفلان"
والموَّلد هو نوع جيد من الجمال والجلبة هو الجمل العجوز
وأسمع:
سنطة بلدنا عابوها ..
ولا حد نقا قرضها
فيه ناس ع تبيع أبوها .. علشان
ما توصل غرضها
وكذلك:
حالف زماني ما يصفا ..
ولا جسمي تُقطب جروحه
مشواري ما لقيت له
وصفة .. غير إنى لازم أروحه
فقد سبر عبد الستار
سليم غور شعر الواو ومعه اللهجة الصعيدية فأظهر أسرارها وجنى ثمارها وأخرج من
جوفها أنهار اللبن والعسل.
وسيطول بنا المقال لو
حاولنا تلمس مواطن الجمال الخفي في شعر الواو بموافقاته المذهلة بين مفردات
القوافي وكيف يمكن أن يأتى الشاعر بكلمتين لموافقة حروفهما أو حروف منهما لقافية
من كلمة واحدة وهو ما يكثر في فني الموال والواو.
"والعديد"
أبت المرأة الصعيدية
أن يتفرد الرجل دونها بالإبداع، فانفردت بساحة فن من أكثر الفنون وجعا وتوجيعا
تمثل في ابتكارها العديد بلهجتها التى طوعتها في فنها المتفردة به من حيث بناء
الكلمة واللحن فأنتجت العديد وقامت بتلحينه بمقامات جنائزية من فعل صوتها بدون
آلات موسيقية، فكانت المرأة تقول العديد في المآتم أو المناسبات الحزينة فترد
عليها مجموعة من النساء يمكن أن يشملن كل الحاضرات من حافظات أبيات العديد أما عن
جدة.
والعديد هو فن
المراثي والبكائيات التى ظلمت في تتبعها وجمعها ولم يجمع منها إلا القليل وهو الآن
لا يكاد يبقى له أثر بعد انقراض جيل المعددات اللائي أخرجن للفن الشعبي آلاف
البيات الشعرية العامية بأوزان وقوافي خاصة بهذا الفن المهدر والذي لم يجمعه إلا
قليلون سجلوا منه النذر اليسير مثل تجارب فردية قام بها رجال حاولوا إنقاذ هذا
الفن من الاندثار البحثي بعد الاندثار الذي وقع له بالفعل، أمثال الدكتور عبد
الحليم حفني وأحمد توفيق ودرويش الأسيوطي وكرم الأبنودي، ولا ننسى إشارة العقاد في
يومياته التى كان يكتبها في جريدة الأخبار على أن العديد الصعيدي دليل على عشق
السليقة الشعبية للشعر وأورد أبياتا من العديد.
وهناك عديد خاص
بأحوال الموتى فلكل فئة عديد خاص بها مثل الطفل والشاب والفتاة والمرأة الكبيرة
والتى لم تنجب بنات أو التى لم تنجب ذكورا وللميت في الغربة وللغريق والحريق
والقتيل وغير ذلك من الأحوال.
والملاحظ على هذا
الفن أنه نسائي 100% فقد تفردت المرأة الصعيدية به ولم ينافسها فيه الرجل الذي ظل
موضوع رثائها في أحزانه فلم تقتصر أنواع العديدعلى الموت فقط، فهناك عديد للسجين
وللمرض الشديد وللغائبين في الغربة.
ونشير هنا إلى أشهر
أبيات العديد والذي يعبر بحق عن حزن المرأة ويجسد شدة الرهبة والحسرة على الموت
ولعله امتداد لاهتمام المصريين القدماء بالموت بالفعل وبالكلمة.
فاسمع العدودة التى
تجسد حوارا بين الإنسان والقدر:
كنت فين يا وعد
يامقدر؟!
: جوا خزانة وبابها
مصدر
- كنت فين يا وعد يا
مكتوب
جوا خزانة بابها
مغلوق
وكذلك:
قعدوا الحزانى تحت
رعريعة.. لا جات لهم شروة ولا بيعة
والرعريعة هي الشجرة
القصيرة
واسمع كذلك:
·
قالوا شقية قلت من يومي قسموا النوايب طلع الكبير كومي
·
ريت اليتيم في سند بوابة.. حزين دليل يقول
لمين يابا
·
دخل الحكيم قعدت قدامه.. قال يا شقية خلصت أيامه
·
مال العظيمة نعشها مايل.. مالهاش ولد بين الرجال شايل
·
لا تسالوا إيش وخر الغندور.. وخر بنية جناحها مكسور
·
يا أبو البنيات أوعي تقول نايم.. عدى البحور وتعالالهم
عايم
·
حطوا دراع السبع فوق بابه .. إنا طال غيابه يحسبوا حسابه
·
ياولاد عمه عدوا عمايمكم .. عمامة كبيرة غايبة منكم
·
يا مندرة عدي كراسيكي .. كرسي كبير غايب فيكي
ولكن أكثر بيت إبداعا وتصويرا قالته بنت الصعيد لتنافس -
حسب ظني- بقدرتها على تصوير الحزن والحسرة أعتى الشعراء في كل اللغات والعهود:
كتب الجبين لاريتني ولا ريته.. كسرت القلم والحبر كبيته
وكانت المعددات لابسات السواد يجفلن عن ترديده لقسوته في
الاعتراض على المكتوب مما يدخل في باب العديد الحرام.
وهكذا فالمهدر من العديد ليس فقط الذي فات جمعه وتسجيله ولا سبيل إليهن لكن
اللحن والأداء قد اندثرا أيضا مع موت آخر معددة مجهولة أو صمتها عن ممارسة فن
العديد لو كانت باقية على قيد الحياة الآن ولم يصل إليها أحد.