الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

فن

شريف صالح يكتب:«في أثر عنايات الزيات».. لُعبة الزمن والمرايا

  • 18-10-2020 | 18:02

طباعة

بقلم شريف صالح


في روايتها اليتيمة "الحب والصمت"، تُوقف الكاتبة الراحلة عنايات الزيات بطلتها "نجلاء" وسط حدين متباعدين: أوّلُهما ذلك الشعور بعبثية الحياة "انكسر شيءٌ كان بداخلي وانهار، والآن أشعر أني لم أعد أتمنى شيئًا، لا الموت ولا الحياة"، "ليتني أتحلل إلى ذرّات غير مرئية، وأنتشر حُرَّةً في الزمان والمكان". أمّا الحد الآخر فهو تلك الرغبة في الإنجاز والتعبير عن الذات: "كنتُ أحلم أن أكون امرأةً خالدةً تصنع شيئًا خالدًا، وتؤثر في الأجيال". وذلك باعتبار أن "نجلاء" ما هي إلَّا قناع "عنايات" نفسها؛ وبانتحارها عام 1963 تكون قد استسلمت للشعور الأول، ألا وهو محو حضورها.

رغم أنها من أسرة ميسورة، وحظيت بمزايا لا يحظى بها معظم المصريين، فقد غلب عليها شعورها بالوحدة والتعاسة. كان من الواضح حساسيتها إزاء المعارك التي خاضتها، على صعيد الحب والزواج الفاشل، وحرمانها من طفلها، وصولًا إلى عدم نشر روايتها التي راهنت عليها.

بحسب إيمان مرسال، في كتابها "في أثر عنايات الزيات"، الصادر عن "الكتب خان"، اكتشفت أسرة عنايات انتحارها بعشرين حبة منوم في 5 يناير عام 1963. وكان بجوارها رسالة إلى طفلها الوحيد: "ابني الحبيب عباس، أودعك.. وأقول لك إنني أحبك.. غير أن الحياة غير محتملة".(ص34)

ذهبت عنايات إلى المحو مثلما أرادت، وسقطتْ من أرشيف الأدب المصري، لأن روايةً أولى يتيمةً لا تعطي أحدًا حق البقاء فيه. ولكن، بعد نصف قرن من النسيان، وبينما كانت مرسال تشتري كتاب "كرامات الأولياء" للنبهاني من سور الأزبكية، استوقفها غلاف "الحب والصمت" لكاتبة لم تسمع بها، ظنتها أختًا صُغرى للكاتبة لطيفة الزيات، فاشترت الرواية بجنيه. ربما لو بالغ البائع في السعر قليلًا لفقدت إيمان حماسة الشراء، وربما كانت هذه المصادفة هي إحدى "كرامات الأولياء"، الكتاب الذي كانت تبحث عنه إيمان. كرامة خفية همست لها: "عليك أن تستعيدي عنايات عباس الزيات من النسيان، ربما تمنحينها قدرًا من "الخلود" الذي داعب أحلامها أحيانًا". أو كما قالت إيمان في نهاية كتابها بأن عنايات هي التي تقرر من تمشي تجاههم. (ص235)

صدفة عشوائية، صنعت مصير عنايات مُستعادًا، ومصير إيمان التي قررت أن تتفرغ لاقتفاء أثرها. كانت إيمان في تلك اللحظة مجرد قارئة، التقت بكاتبة مصرية من زمن آخر، مثلما نلتقي نحن القراء كُتَّابًا من كل العصور. لكنها تفترض: "ماذا لو كان ثمة لقاء حقيقي بينهما عام 1993؟!"، وتعبر عن مشاعرها إزاء انتحارها: "أشعر بالحزن وبالذنب معًا، ذلك أني صدقت موهبتها، وترقبتها أن تعيش لتكتب، ذلك أني فهمت آلامها، ولكني لم أعرف كيف أقول لها ذلك". (ص191). كأنها تشرح مبرر كتابها، وأرادت أن تكافئها بنفض الغبار عن سيرتها، فأرادت أن تواسيها وتعتذر إليها، بحس المرأة التي فهمت آلام امرأة من زمن آخر.

جاء عنوانها: "في أثر عنايات الزيات" بحمولة شعرية رهيفة، بعنوان طيفي مراوغ، يتخلص من العبء الأكاديمي وفجاجة التصنيف، فهو ليس سيرة جافة لكاتبة مغمورة، وليس استقصاء للُغْز انتحار. بل يقع الكتاب في تلك المسافة المراوغة بين "الرواية" المستندة على وقائع، وبين "أدب السيرة"، و"الاستقصاء الصحفي"، والدراسات الثقافية، التي تنطلق من نواة صغيرة، لا تزيد عن عمر شابة انتحرت دون الثلاثين، كي تُرينا تحوُّلات بلد طيلة عقود. من ثَمَّ، تخلصت إيمان من أي تبويب جاف: مثل الطفولة والنشأة والدراسة.. إلخ، وتلاعبت بالزمن والمرايا.

لدينا أولًا مرآة عنايات الزيات (23 مارس 1936 - 5 يناير 1963)، تقوم إيمان باستكشافها وتجميع قطع "البازل" الخاص بها، لأنه لا توجد معرفة جاهزة ومُسبقة يُعاد اجترارها، بل عملية نشطة، لاستكمال فجوات. لأن ما كتبه عنها مصطفى محمود ومحمود أمين العالم ولطيفة الزيات، وما تبقّى من نعي رسمي، وأوراق قليلة من يومياتها.. كل ذلك لا يكفي لرسم "بورتريه" لها.

ثانيًا، لدينا مرايا مَنْ عاصروها، ويحتفظون بحكايات عنها، خصوصًا صديقتها المقربة نادية لطفي، وأختها عظيمة، والكاتبة نعم الباز. فنحن كنا نقترب من عوالم هؤلاء عبر عدسة إيمان، نتعرف عليهم وندخل بيوتهم. في الوقت نفسه نرى من خلالهم زوايا مختلفة من شخصية "عنايات". نرى نُسَخًا مختلفةً منها حسب ذاكرة كل منهم. هنا تنشغل إيمان – الأكاديمية - بمفهوم "الأرشفة"، هذا المفهوم الجبار الغامض، الذي يُبقي أشياء في الصدارة ويُخفي أشياء. من يعطي قرار الإخفاء؟ من يحدد أهمية الوثيقة؟.

الكتاب لا يكشف عن شبكة من العلاقات والحكايات فحسب، بل يكشف أيضًا عن شبكة موازية من الفجوات والإخفاء العمدي والعفوي، إلى درجة أن ابن عنايات نفسها قد لا يدرك الكثير عن أمه، رغم أنه لَقِيَ مصيرًا مشابهًا.

ثالثًا، لدينا مرآة إيمان مرسال نفسها (1966)، فهي لم تكتف بدور الراوي المحايد، ولا الصحفي الاستقصائي، بل ورَّطت نفسها - منذ البداية - باعتبارها بطلة في اللعبة السردية. هي أيضًا لديها مرآة تتقاطع مع مرآة عنايات، رغم أنها وُلِدَتْ بعد انتحارها بثلاث سنوات، وبينهما فجوةُ جيلين.

ترفع إيمان مرآة حياتها مقابل مرآة عنايات، كلتاهما لها جذور في المنصورة، كلتاهما لديها طفل، وهموم إبداعية. ولا شك أن كلتيهما خاضتا تجارب صعبة على صعيد الحب والزواج والأمومة وقلق التحقق. مع الفارق انتهت إيمان إلى الخروج عبر الهجرة، وانتهت عنايات إلى الخروج من الحياة بأسرها.

تفكر إيمان في حلولها الخاصة للهموم ذاتها، تروي شذرات عن أسرتها وطفلها وزوجها، وعلاقتها بالوسط الأدبي. تطرح بدورها حلولًا ربما كان بالإمكان أن تنقذ عنايات. أبسط هذه الحلول ما قالته نادية لطفي، إنها لو كانت معها يوم الانتحار ربما خففت عنها وفوتت عليها هذا القرار. أو ما قالته إيمان: "ربما لو كانت من أسرة مُسيّسة - مثل لطيفة - وذهبت إلى الجامعة قبل أن تتزوج، لكانت قد تعرفت على شبيهات وأشباه لها، ولكانت دخلت في مجموعات وتركتها". وإذا كانت هذه حلولًا مفترضةً لإعاقة قَدَرٍ قد نَفَذَ بالفعل، فهي أيضًا محاولة بحث في أسباب الانتحار.

رابعًا، مرآة مصر نفسها، فإيمان تمد البصر إلى جذور عنايات العائلية، وصولًا إلى باشوات عصر محمد علي، وحرب أثيوبيا، ودور الإرساليات واليهود والأوربيّين المتمصّرين. كما تمرر وثائق وبيانات أرشيفية سياسية واجتماعية وقانونية، متعلقة بأسماء الشوارع وقوانين الأحوال الشخصية ودور النشر الحكومية، وهجرات الأبناء والأحفاد، والقصور والمقابر وتقلبات الحياة بينهما؛ لترسم سياقًا يتجاوز عصر عنايات، ويمتد قبله وبعده إلى نحو مائتي عام. إنها مرآة كبرى وانتقائية لمصر، بغرابة تحوُّلاتها المتسارعة، في محاولة فهم مرآة عنايات، ومرآة إيمان أيضًا.

وقد توزعت المرايا الأربع على خمسة وعشرين فصلًا مُكثفًا، أقرب إلى بِنية ودرامية المشهد الذي يضيء زاوية جديدة في مسار الأحداث، بما تطلبه ذلك من تلاعب بالزمن. فمنذ الصفحة الأولى تستعيد حوارًا مع نادية لطفي، والحوار بدوره يستعيد مشهد الانتحار قبل عقود، ثم في الفقرة التالية تحكي إيمان عن توجهها إاى مقبرة عنايات عام 2015. وهكذا تتقاطع ثلاثة أزمنة في صفحة واحدة.

إن مصير المحو - الذي اختارته عنايات قبل الأوان - طال أيضًا مقبرتها، حيث أمضتْ إيمان الكثير من وقتها في رحلة البحث عنها، لتكتشف أنها عاشت في قبر أقرب إلى "المنبوذة". هنا يصبح استرداد قبرها بمثابة استعادة رمزية لرفات الجسد، بينما يكون كتاب إيمان استعادةً رمزية لروحها.

يصعب تلخيص المُتعة الكامنة وراء سطور "في أثر عنايات الزيات"، وليس هناك ختام أجمل من كلام عنايات في يومياتها: "أنا التائهة.. وجودي كعدمي.. البيوت أمامي مُسدلة الستائر.. والنور مُضاء. في داخلها أناس يُحسون الدفء والأمان.. وأنا بلا بيت.. بلا سقف ولا جدران". (ص57)

"في حاجة إلى يد تخرجني من داخلي".


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020

    الاكثر قراءة