السبت 27 ابريل 2024

شيرين سامي تكتب: «حكاية الجارية».. قهر المرأة «العابر للزمن»

فن18-10-2020 | 19:48

بقلم شيرين سامي


"أنا أروي، إذًا أنت موجود".. جملة كُتِبت على غلاف رواية "حكاية الجارية"، لتستثير مشاعر القارئ، وتُشعره بأن النص القادم له. أوجزت الجملة لُبَّ الرواية، وفكرة أن الساردة يدور داخلها حكايات تُحكى ولا تُكتب؛ لأن الكتابة في قصتها مُحَرَّمَة، وأنها ما دامت تُرْوَى فهناك آخر موجود، يسمع الحكاية. وهنا يكمُن أسلوب مارجريت أتوود المُعجز، المُبهر، الصادم بجودة كل كلمة من البداية حتى النهاية.

 صدرت رواية "حكاية الجارية" للمرة الأولى عام 1985م في كندا، للكاتبة الكندية مارجريت أتوود، لم تتوقف عن إعادة طباعتها حتى الآن. في عام 2019م صدرت في طبعة خاصة لمصر عن دار "روايات" بالتعاون مع دار الكرمة، من ترجمة أحمد العلي، وتُعَدُّ هذه أفضل ترجمة عربية للرواية، بأفضل تقسيم للفصول وانسيابية تناسب لغة أتوود.

تنتمي الرواية إلى أدب المدينة الفاسدة، الديستوبيا. في "جلعاد" (أمريكا) حيث يعيش المجتمع حياة ظلامية. تنقسم الرواية إلى قسمين، الليل حيث الحكي بوجهة نظر البطلة، والنهار للأحداث الأخرى حول حياة الجاريات. تدور أحداث الرواية حول امرأة اسمها "أوفرِد"، تروي في رأسها حكايات عن حياتها القديمة، وبين الحكايات يظهر المجتمع الجديد الذي يسلب النساء حقوقهن، وتظهر شخصية أوفرِد السلبية إزاء كل ما يخصها، والتي لم تطالب يومًا بأكثر مما تناله. أغرب ما في الحكاية أن الساردة عاشت حياة عادية قبل أن تصبح خادمة، كان من القسوة أن تواجه تهشم الكينونة الأنثوية، وسيطرة النظام الذكوري عليها، وكأنها تدفع ثمن سلميتها في الماضي. تقاوم بداخلها كل ما علّموها إياه، تملك بعض الاختيارات في حياتها، تُعَرِّض نفسها للخطر، تخوض في علاقة مُحَرَّمَة، تعيش في صراع. تخاف، فتتمنى لو تفرغ نفسها لتصبح طاسة مقدسة، ترضى وتضحي وتتوب وتزهد. تسلم جسدها بحُرّية للآخرين وتبقى ذليلة. 


تشابه مع الماضي 

العالم الذي خلقته مارجرت أتوود لم يكن عالمًا من فراغ، بل إن كل تفصيلة فيه حقيقية ولها أصل في التاريخ القديم. تقول أتوود في أحد اللقاءات التليفزيونية إنها تملك دليلًا تاريخيًّا على وجود كل أنواع التمييز ضد المرأة، الذي طرحته في روايتها عبر التاريخ، حتى فيما يخص ألوان الأزياء. من اللافت أنه لم يمكن تمييزًا ضد المرأة فحسب، إذْ إن الشخصيات الذكورية كذلك كانت تعيش مسلوبة الحقوق، بداية من السائق الذي لم يهبه النظام الحاكم امرأة لأنه - من وجهة نظرهم - لا يستحق، مرورًا بأجساد الرجال المعلّقة على الكنائس لارتكابهم جُرم عدم موالاة النظام الجديد، وصولًا إلى الرئيس ذاته الذي يمارس حريته سِرًّا في نادٍ ليليٍّ للقواد، ولم يستطع أن يمنع زوجته من معاقبة كل خادمة تتخطى دورها المحدد، حتى إن رفيقته السابقة شنقت نفسها عندما انكشف أمرها معه، وهو نفسه - كما ذُكر في المعلومات التاريخية - حُوكِم وقُتِل عقب اختفاء أوفرد.

إن المعاناة الحقيقية التي يعيشها المجتمع الذي تصورته أو توقعته مارجريت أتوود في روايتها، هي معاناة إنسانية أكثر منها أنثوية، وإن كانت الأنثى هي من تهشَّمت فيه إرادتها بالكامل، وحياتها الصحية والجنسية وكينونتها كامرأة. لذلك، لا تنبع هذه المعاناة من الذكورية فحسب، بل من جراء الحكم الاستبدادي، وهو تصور مستقبلي رسمته أتوود بشكل عكسي، إذ إن ذكريات البطلة هي حياة المستقبل عند بعض المجتمعات. 

 

تشابه مع الحاضر

رغم ظلامية الرواية، فإنها تتشابه مع الواقع في التمييز ضد المرأة، لكن على نحو مختلف. بعض المجتمعات ما زالت تنظر إلى النساء باعتبارهن أرحامًا تمشي على الأرض، وأن الزواج وتربية الأطفال هي الوظيفة الأساسية للمرأة، وأن المرأة  بدون زوج هي "شبه امرأة"، كما إن ظاهرة "الاغتصاب الزوجي" موجودة وتعاني منها الزوجات، وهو ما سردته الكاتبة من خلال وقائع "الحفلة" التي تُغتصب فيها البطلة من الرئيس وهي مسلوبة الإرادة ومجبرة بحكم قانون جلعاد.

 نجد المرأة تبحث عن الجمال حتى وهي ذليلة، وذلك يذكرنا بالسجينات اللاتي يستخدمن أعواد الكبريت المتفحمة لتكحيل عيونهن، وتخبئ أوفرد قطع الزبد في حذائها ولا تأكلها، لتستخدمها ليلًا كمرطب لبشرتها، وحتى عندما جاءتها الفرصة لطلب أي شيء وهي مع الرئيس، كان طلبها كريم مُرطب للبشرة، وهي أقصى أماني امرأة سُلِبت كل أحلامها بالحُرية، ومع ذلك لا تريد أن تفقد شبابها فتفقد حياتها.

تحاول المرأة - دائمًا أبدًا - الفرار من السلطة الذكورية، "إنهم لا يخشون هروبنا، فلا يمكننا الهرب مسافات بعيدة، بل يخشون تلك المهارب الأخرى". حتى في هذا المجتمع السوداوي، نجد مويرا، صديقة أوفرد، ترفض الانصياع، تضع خطة وتنفذها للهروب من الدار التي يعشن فيها، بعضهن يُقمن جماعة سرّية لمقاومة المجتمع. حتى أوفرد نفسها فضّلت الاحتفاظ بعود الثقاب حينما أتيح لها أن تدخّن سيجارة، رغم اشتهائها للتدخين ربما يساعدها على الهروب يومًا ما. بعض محاولات الفرار أتت على شكل الخلاص من الحياة بالشنق، كطريقة أخيرة لقول "لا". وهو ما يحدث في بعض المناطق شديدة التمييز ضد المرأة، من حالات الهروب والتسرب والانتحار. 

قُبيل قيام الثورة الدينية، واجهت أوفرد موقف طردها من العمل هي وزميلاتها، ذلك لصدور قوانين تُجرّم عمل المرأة، ووقف صاحب العمل موقفًا سلبيًّا، حيث طلب من النساء في العمل الرحيل فورًا. ما يحدث الآن أن بعض جهات العمل تتحكم في مظهر المرأة أو في شخصها، بعضهم يرفضون عمل المرأة ولو بشكل غير رسمي، بعضهم يستغل النساء كسلعة مثل الإعلانات التجارية، أو يستغلها جنسيًّا، الرواية تثير الرعب من مستقبل عمل المرأة وسطوة المجتمع الذكوري.

في الرواية، لا تتعامل النساء بالنقود، حتى التسوُّق يتم ببطاقات محددة لأنواع البقالة المطلوبة. نجد في مجتمعاتنا بعض الأفراد يبثُّون أفكارًا دينية مغلوطة، مثل أن مصروف الولد يجب أن يفوق البنت، أو أن "عيدية" العيد يجب أن يكون نصيب الولد فيها ضعف نصيب البنت، الولد أحق بالإنفاق عليه في التعليم، وشراء سيارة أو منزل، أو غيرهما من متطلبات الحياة المادية، وهو مَنْحًى ليس بجديد، لكنه متكرر ويزداد أثره السيئ على مستقبل المرأة مع مرور الوقت.


الوصايا من النساء

 أكثر الأمور تشابها بين "حكاية الجارية" وبين الواقع هي فكرة أنه في الكثير من الأحيان تكون المرأة هي الأشد تمييزًا بين النساء. نجد "سيرينا جوي" زوجة الرئيس، تعامل الخادمات بعداوة، تتجنب رؤيتهن وتتجاهل وجودهن. تمنت أوفرد لو أن سيرينا جوي أخت كبرى لها، أو تتعامل معها بنوع من الأمومة، وهو ما لم يحدث قَطُّ. تشهد سيرينا جوي عملية اغتصاب زوجها للخادمات، تهددهن وترهبهن وتؤذيهن عندما ينتهي الأمر. أما الخالات، وهن نساء وُظِّفْنَ للسيطرة على الخادمات، فيقمن بتأديب الخادمات، ويجبرنهن على التصرف كعرائس لُعبة. حتى الحفاظ على صحتهن هو بغرض أن يُبقين على عطائهن. وهو ما نراه في المجتمع من دور الوصايا الذي تلعبه بعض النساء في حياة كل امرأة، وهو المصيدة التي تُنصب للنساء من جنسهن، حين يحرض بعضهن بعضًا على البقاء مُنكسات ومُنبطحات ومُتحملات، حتى لا يخرجن من دائرة السلطة الأبوية والتقاليد المجتمعية المتهالكة.

تنتهي قصة أوفرد نهاية مفتوحة، حيث تقوم جهةٌ ما بالقبض عليها، لا تعرف إن كانوا يقتادونها للمستعمرات، أم لإنقاذها بالاتفاق مع "نِك" السائق، الذي يُشار إلى كونه عضوًا في المعارضة. "أخطو صاعدة في ظلمة الداخل، أم إنه الضوء؟"، تنتهي الرواية بملحق تاريخي عن اجتماع عالمي يُقام عام 2195م للنقاش حول "حقبة جلعاد"، والتسجيلات الصوتية التي تركتها أوفرد. ورغم ذلك لا نعرف مصير الساردة، تنتهي الرواية وقد سلطت الضوء في 386 صفحة من الأسلوب الشِّعري العذب، القوي والمُرعب، على عذابات المرأة، وحواراتها الداخلية، ومخاوفها، وصراعها ضد التمييز من أجل أن تملك إرادتها. جديرٌ بالذكر أن الرواية تحولت إلى فيلم، وأوبرا، ومسلسل إذاعي ومسرحية، ثم إلى مسلسل من أنجح المسلسلات، كما صدر للرواية جزءٌ ثانٍ عام 2019م، تدور أحداثه بعد خمسة عشر عامًا من اختفاء أوفرد.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020

    Dr.Randa
    Dr.Radwa