بقلم: منى أبو النصر
الكاتب السعودي، عبد الله الناصر، يتلمس دروب القهوة، كمن يتتبع خيطًا من نور، ينظر لذلك الإكسير الأسود بعين المُسافر، والشاعر، والهائم، تقوده إلى منابع التاريخ، ومسالك الحج الأولى إليها، مُتأمِّلًا تركة الشعر والفن الهائم في ملكوتها، وصولًا لتاريخ نبتة البُنّ الأولى وشجرته الغناء، التي قادته إلى فضاء لانهائي من الحكايات، جمعها بين دفتي كتابه: "قهوة نامه – مرويّات القهوة والنور".
يُعرّف الناصر نفسه في هذا الكتاب مرارًا بوصفه "الباحث عن القهوة"، في ترديد وتذكير واحتفاء بالمَهمة الخاصة التي يستعذب كل خُطاها، وكأنه منذور لعشق لانهائي، عشق له جلاله الخاص، كما يصفه "الباحث عن القهوة (الحق)، لا يتوقف عن تعلم لغة رُهبان الجبل ولهجة الغيم وإيحاءات الفواكه وفحص سُلالات القهوة، لكنه أيضًا لا يكف عن النسيان".
صدر الكتاب عن دار "روايات"، وقامت دار "الكرمة" للنشر في مصر بتقديم طبعة خاصة له بمصر وشمال أفريقيا، وهي طبعة تقع في 225 صفحة من القطع المتوسط. وعبر صفحات الكتاب يصعب عدم التوقف عند النزعة الحسّية والشعرية التي تُغلف "رحلة" عبد الله الناصر في دروب القهوة، فهو - بمحض مصادفة - بدأ رحلة شغف طويلة لاكتشاف تلك "النجمة الخضراء النائمة في شجيرة القهوة"، وهي رحلة يوازيها اكتشاف لمحات جديدة عن ذاته، بمنظور ينحاز إلى التمرد وتقديس المعرفة، يقول: "خلعت نظرتي القديمة للأشياء، وقررت أن أصعد الجبل". والجبل هنا، في لغة الكتاب، مجاز لعملية البحث الشاقة، التي استغرقت من صاحب الكتاب سنوات وصولًا إلى حكاية القهوة، وهي ليست فقط سنوات من المطالعة بين مواد الأرشيف، وإنما رحلة سارت به إلى بيوت القهوة وتحميص البُنّ، اقترابًا من أسرارها الوثيرة. يقول: "صعدت جبل القهوة، قارئًا ومُحبًّا، ثم تلميذًا في مدارس القهوة، ونادلًا في الإجازات القصيرة، ثم مُعَلِّمَ تحميصٍ مشاء بشكل أكبر في مقاهي الكون. وخلال تلك الرحلة - التي استغرقت سنوات عدّة - حمّصَت دواخلي القهوة، كما يقول بلزاك".
وبوصفه "تلميذًا" كما يُطلق على نفسه، فقد درس الناصر - عبر رحلته - كيمياء القهوة والماء، ومن درس الكيمياء إلى دروس التاريخ، ذلك الذي وجد به فصولًا عن علاقة القهوة بالحُب، وكذلك بالحرب، واقترابها من دائرة العقائد، ونيران الفلسفة، وكذلك بالنسبة للموسيقى، والشعر، وحدود الجغرافيا، وتلك الروابط التي تحيط بخاصرة أشجار القهوة في العالم، ففتحت له ثمرة البُنّ بحورًا من العلم والتأمل. يقول: "فعرفت كل الأشياء، وتيقنت أنْ لا أحد يصل إلى القهوة". في عبارة تشف عن نزعة تأملية ذات حُلَّةٍ صوفية، منذورة للشغف والمعرفة.
يجتر الكاتب في مخيلته الأسلاف الأوائل في الحبشة، الذين عاشوا جنبًا إلى جنب مع ثمرة القهوة الأولى، عاقدًا مقاربة حسّية شفيفة على أرضية هذا التكوين الأول. يقول: "أخذت ثمرة القهوة من أسلافنا الأوائل في الحبشة لون سحناتهم، وشربت عصارة أرواحهم العاصية المتمردة. كان لا بُدَّ للقهوة أن تتعلم العصيان من إنسان ما قبل التاريخ، كي تصبح مشروب العُصاة والمبدعين والثوار والموسيقيين والمتصوفين المسلمين والمتمردين التطهيريين في الكنيسة".
ولعل هذا "المزاج" المتأصل تاريخيًّا، هو الذي يتتبع عبد الله الناصر خيطه التاريخي، فأول شيء علمته القهوة للناس - على حد تعبيره - هو أن يتجردوا من كل الأصوات ويطيلوا الصلاة. ويتوقف عند جمال الدين، أحد متصوفة اليمن التابع للطريقة الشاذلية، الذي يعود إليه فضل اكتشاف القهوة. يتوقف عند اسمه في لفتة تفيض بالرمزية والفطنة، يقول: "اشتقاق اسمه بالعربية من الحُسن والجمال مُلْهِمٌ بالنسبة لمن لا يتحدث العربية، ويكتشف أن أول شخص في العالم اكتشف جمال القهوة كان اسمه مرتبطًا بالجمال وبالدين". ثم يتتبع سيرة جمال الدين الذي يُرْوَى أنه لم يكتشف القهوة إلَّا حين سافر إلى مكة للحج، وهناك شاهد أحد حجاج الصين يغلي أوراق مشروب يساعده على السهر ليطيل العبادة في الليل، وقاد هذا المشهد جمال الدين للبحث عن نبتة مماثلة لها نفس التأثير، حتى توصل إلى شُجيرة تنبت في جبال اليمن، ذات أزهار بيضاء، وثمار كرز أحمر، وأسماها "القهوة". وبفضل خلفيّته الكيميائية، توصل جمال الدين إلى وصفة صحيحة لغلي بذور القهوة، لإخراج كيميائها وإكسيرها الروحي الذي يُعينه على الليل وصلواته وأناشيده.
شغل "جمال الدين" وحكايته مع ثمرة القهوة كثيرًا من كتاب الغرب، منهم أنتوني وايلد مؤلف كتاب "القهوة: تاريخ أسود"، يسردها الكتاب، كما يسرد كذلك تناول العديد من تلك الكتب لمفردة القهوة، وترجمتها بأنها "نبيذ العرب"، باعتبارها بديلًا روحيًا للنبيذ بعد تحريمه في الإسلام، كما في كتاب لستيفن توبك يُجَذِّرُ لولادة القهوة في التاريخ، ويبحث الكاتب في تلك الحرب الخفية التي جعلت الأتراك يُخفون القهوة عن أوربا، ومحاولاتهم الحثيثة لنسبة القهوة إليهم، مدركين أهمّيتها لهيبة إمبراطوريتهم، في تَنَاصٍّ جمع بين القهوة وموازين القوى السياسية في جملة واحدة، كما الجملة الواحدة التي جمعت بين القهوة ورجال الدين، فكما ارتبط الشاي بالبوذيين في اليابان، ارتبطت نشأة القهوة بالمتصوفين اليمنيين منذ جمال الدين أو "جمال القهوة"، كما يحلو للمؤلف أن يطلق عليه في كتابه.
يَمُرُّ الكاتب على رحلته الميدانية في نور القهوة، تلك التي تعاظمت حينما كان في اسكتلندا، حيث تعلّم تحميص القهوة على يد معلمه العجوز "سايمون"، معلم تحميص أسترالي متخصص في مزرعة نائية. وسرد قصة هذا المعلم، إذْ رأى في منامه "دَلَّةً" عربية، قادته إلى عالم يُجاوز الأحلام، عالم من الرسائل والأسفار، استقر به لتقديم القهوة المُحَمَّصَة الطازجة لأهل مدينته الصغيرة، لتبدأ أحلامه في النصوع على موقد القهوة. ولعل هذا النور أو "التبصُّر" الذي يمشي المؤلف في هدي علاقته بالقهوة، هو ما جعله يلتفت إلى قصة "الشيخ عمر" المنفي في مدينة المخا في اليمن، وحكاية انتصاره على الجوع والعطش والخوف برحيق ثمار القهوة. ولعل هذا "النور" هو ما كان يبحث عنه محمود درويش، وهو رابض تحت الحصار داخل شقته البيروتية، مشحونًا بالخوف والتوتر عام 1982، ليكتب في هذه الأثناء أطول وأعذب نص سردي عن القهوة، يستجدي العالم الذي لا يعرف سوى لغة القصف: "أريد فقط هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة، خمس دقائق لأتمكن من وضع هذا الفجر على قدميه". يتأمل عبد الله الناصر هذه الدقائق الخمس التي كان يحلم بها درويش، ويضم إليها ما يصفها بالتأملات الدرويشية عن القهوة، وإصراره على أن "القهوة هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام"، وإلى آخر تلك التعاليم التي لا تزال، حسب الكاتب، "يرددها ذواقة القهوة وبيوت القهوة في العالم العربي".
وكما يتكئ الكاتب على النظرة الشعرية الشرقية للقهوة، يتأمل طويلًا تلك العلاقة التي سطرها مؤرخو النهضة الأوربية، واصفين القهوة بأنها كانت شمس التنوير في أوربا، وكذلك البذور الأولى لحركة التوسع في المقاهي في أوربا، وتنوع "الثيمات" لكل مقهى في هذا الوقت. وعلى سبيل المثال، كان مقهى "باتون" في لندن - في القرن السابع عشر – يُمَثِّلُ مقهى الأدباء، والمقر الذي ولدت فيه صحيفة "الجارديان" العريقة، أمّا مقهى "الإغريقي" الذي افتتحه اليوناني جورج قسطنطين فهو مقهى الفلسفة والمنطق والفلك والفيزياء، في نسيج يوثق العلاقة بين القهوة والتنوير عبر التاريخ، وهو في حد ذاته من ثمار القهوة. وحسب الكتاب، يُنْسَبُ إلى عالم الاجتماع الكندي جون مانزو قوله: "إن علم الاجتماع لم يكن ليوجد لولا القهوة والمقاهي".
ومثلما كانت القهوة حليفة التنويريين، كانت كذلك حليفة المحاربين، ليس فقط في تزكية الحرب، ولكنها كانت لحظة السلام النادرة، وكما يقول المؤلف: "هذا الربط بين القهوة والمحارب لا يعني أن القهوة كانت تُغذي غريزة القتل كما كان مشروب محاربي أسبرطة الأسود، بقدر ما كانت قهوة البُنّ دار السلام التي تحتضن جروح المحارب وعزلته، وتهذب أعشاب الوحدة والخذلان، وتعيده من جديد إلى عائلة الحياة والمحبة والتصوف".
في قدح هذا المشروب الأسود، يتعثر عبد الله الناصر بعشرات الحكايات، في محاولة منه للقبض على "مانيفيستو" القهوة السري، ذلك الذي ينظر فيه إلى أثر درويش المُحَاصَر بأمل صمت مُحبب في حضرة قهوته، وإلى بوب ديلان الذي أسهب في الحديث عن أثر المقهى في ضخ الدم للموسيقى الأمريكية، ليُسلمه ديلان إلى تشارلز ديكينز في قوله: "في بيت القهوة كنت أُسلم روحي للقهوة، وكانت روحي تتطامن وتخشع". هذه الحكايات، ومعها حكايات ربما كان أصحابها أقل شهرة، ولكنها لا تقل شاعرية، تسطع جميعًا في مرويّات هذا الكتاب، الذي لا يُغادر النظرة الكونية والثقافية والمشهدية في أي من مواضعه، "تشممت الكون الكامن في جِرْمِ حبّة البًنّ، فعرفتُ وأحببتُ وتغيّرتُ، ثم رَوَيْتُ".
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 يونيه ويوليو 2020