الخميس 6 يونيو 2024

"الأكثر تهجيصًا.. والأكثر تأثيرًا".. من كتاب السيبراني لـ"أكرم القصاص"

فن19-10-2020 | 12:40

"الهلال اليوم"، تنشر فصلًا من كتاب "السيبراني.. أضغط هنا" للكاتب أكرم القصاص. الفصل بعنوان "الأكثر تهجيصًا.. والأكثر تأثيرًا"، وجاء فيه: 

«هيصة البحث عن لايكات»

أقرب طريق لعين المتفرج «الإفيه».. ولهذا أصبحنا في زمن السياسي والنائب والرياضي والإعلامي «الإفيه»، من عقود بعيدة كانت هناك توقعات أن تتغير أشكال السلطة بفضل ثورة معلومات لا تترك شيئًا على حاله، وهو ما يجرى في العالم وليس فقط عندنا، لكن الجرعة لدينا تبدو أكثر، هناك فرق بين التأثير والإثارة، وبين سياسى أو فنان يقدم عملاً، وآخر يقدم عروضًا أقرب للحاوي الشعبي الذي يتشقلب ومعه قرده، ويعمل نوم العازب وعجين الفلاحة ليحظى بالفرجة، ونرى فنانة أشهر أدوارها خبر موتها، وعودتها للحياة، ونائبًا أكبر إنجازاته هو القدرة على صناعة الشتائم ومهاجمة غيره.

وإذا كان الحاوي معذورًا، يبحث عن أكل عيش، فلا حجة لحواة السياسة والإعلام.. لا فرق هنا بين مؤيد ومعارض، المهم أن يحتل مساحة من الفرجة والإعجاب، ويظل السؤال: هل الضجيج يمكنه تغيير واقع أو تصحيح خطأ؟ الإجابة غالبا بالنفي، خلال السنوات السبع التي تلت 25 يناير على الأقل ظهرت مئات الحملات على مواقع التواصل انتهت كما بدأت من دون أن تترك أثرا، ومع هذا فإن أقرب طريق لإثارة الإعجاب هو «التهجيص»، والبحث عن أعلى نقاط الإثارة، مثلما يفعل ممثل المسرح الذي يريد سرقة الكاميرات، فيخرج عن النص، أو يعمل حركات.

نبدو أحيانا أمام سيرك.. خناقات أو معارك أو خلافات وتصريحات.. وتصريحات مضادة، وشتائم وانسحابات وسحر وشعوذة، من هواة و محترفين.. يتقمص المواطن سياسيًّا أو ناشطًا دور العبيط الجاد، أو دور العالم ببواطن الأمور والزعيم المتزعم، نائب يهاجم زملاءه أو ينتقد التكتلات والائتلافات، ممثلا لتمويل ما أو شخص أو جهة ما، ويرتضي أن يكون «ألعوبة»..والنتيجة أننا لم نعد نرى سياسة وإنما سياسيون يتنافرون ويتعاركون حول «أي كلام» ومحامون لا يترافعون أمام المحاكم، وكل منهم يعرض قضيته أمام الجمهور في برامج «التوك شو» أو صفحات «السوشيال ميديا»، غالبًا يخسر القضية لأنه يتأخر ويعجز ويتلعثم أمام القاضي، لكنه يلعب دور المفوه والفظيع أمام جمهور التوك شو.

حتى الإعلاميين والكتاب بعضهم أصبح يكتب بحثًا عن «اللايكات»، وهناك معجبون ينتظرونه على ناصية «فيس بوك أو تويتر» ليزينوا صفحته بـ»لايكات» القلوب الحمراء أو الكفوف المضمومة ذات الإصبع، متصورا أن هؤلاء هم الجمهور والأمر كله مجرد نميمة، والنتيجة أن التأييد أصبح هيصة وتطبيلا ونفاقًا، والمعارضة أصبحت شتائم وهجومًا، يختفي الشخص الطبيعي الذي يمكن أن يرى الصح والخطأ، أو يتعامل بلا تهوين أو تهويل.

والنتيجة أن كتابًا كانوا مبشرين غرقوا في آبار البحث عن «لايكات»، وفقدوا تأثيرهم وسط حالة من «الفحيح»، لا أحد يتوقف.. يؤيد ما يستحق، ويرفض ما يثيرالرفض، أو يقدم وجهة نظر وليس مجرد «تطبيل أو لطم»، والنتيجة أن السيادة لـ«الأكثر تهجيصًا» وتطبيلا ولطما، وإذا كان النواب والسياسيون لهم سوابق في «التهجيص» فقد غرق كتاب وإعلاميون يزعمون الجدية في «هيصة البحث عن لايكات»، معارضة أو تطبيلاً.

 

القرد والكاراكتر.. تشتغل أكتر

أحضر قردا بشكل يومي، وأعطه مساحة يومية أمام الكاميرا، وأطلقه يتحدث ويحلل في كل القضايا بلا انقطاع.. كرر الفعل مرات ومرات وعشرات المرات.. بعد فترة سوف يصبح القرد نجمًا شهيرًا وله جمهور، وإذا اختفى فسوف يسأل الناس عنه، ثم إنه سيكون موضوعًا لآراء الناس ومناقشاتهم: القرد قال كده.. لا القرد ما بيقولش كده.. وهكذا يصبح القرد محورًا للحديث والجدل.. هذه هى خلاصة نظرية كتب عنها الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين في الثمانينيات من القرن الماضي، ولم يكن الانفجار الفضائي «والسوشيالي» أصبح على ما هو عليه الآن.

نظرية الإلحاح و«الكاراكتر» هى التي تفسر ظاهرة النائب توفيق وغيره من صناع «الضجيج» في البرلمان أو الإعلام أو السوشيال ميديا، تدعمها نظرية أخرى في الفن تقول «عيش كاراكتر تشتغل أكتر».. يعني الفنان يظل متخصصًا في دور الشر أو العبيط، وإذا أرادوا ممثلا شريرا أو عبيطا يقولون «هاتوا فلان»، وبالتالي يعمل كثيرا، وإذا تطور الكاراكتر يمكن أن يصبح «اللمبي» يقدم عشرات الأفلام بتنويعات على الدور والحالة.

ومن هذا المنطلق يمكن تفسير حالة «الكاراكتر» للنائب السياسي الإعلامي الناشط الذي أعلن نفسه «مفجر ثورات وزعيم جماهيري سياسي محلل عميق مقبل مدبر معا»، وهو ليس وحده في زمن السياسي والنائب والرياضي والإعلامي «الإفيه»، ممن يقدمون عروضًا تجاوزت الحاوي والقرداتي، بحثا عن الفرجة، نائب يتخانق مع دبان وشه، ومشاجرات وخناقات، والرأي وعكسه، والنظرية ونقيضها، واستخفاف من أجل الفوز بالمشاهدة.. المهم أن يحظى بالفرجة ويبقى في الصورة.. «التهجيص» أقرب طريق لجمع اللايكات والفرجة وسرقة الكاميرات بالخروج عن النص، أو حتى عن الأدب.

وهؤلاء النواب ممن تركوا الرقابة والتشريع وتفرغوا للاستعراض، «كاراكترات تمشي للكاميرات»، ربما كان نموذج توفيق عكاشة هو الأبرز، لكنه ليس وحده، لا نعرف إن كان فاعلاً أم ضحية، فقد بدأ بالمنافسة على رئاسة البرلمان، وانقلب إلى الضجة، وبدا مندهشًا من غياب رد الفعل المناسب بحثا عن «أعناق الجماهير»، وهو الذي رأى متفرجين ومستمعين، وبدأ لعبة أخرى، مخاطبة إسرائيل، ثم تبادل النظرات والدعوات واللفتات مع السفير الإسرائيلي في القاهرة، متصورًا أنه ينقل النجومية إلى نقطة درامية كبرى سوف تأتيه بالهجوم والنقد والاتهام بالتطبيع، وتعيده إلى صدارة الصورة.

ليس وحده وإنما عشرات الكاراكترات من نجوم الدوشة والهيصة، منهم مطبلون أو منافقون أو حتى معارضون، المهم الكاميرا والنجومية التي حولت نوابا وفنانين وإعلاميين ورياضيين إلى كاراكترات، طبقا لنظرية «القرد والكاميرا.. أو عيش كاراكتر تشتغل أكتر».

 

«ثعالب» التوك شو و«نشالين» الأتوبيس

ظاهرة يعرفها ركاب أتوبيسات النقل العام، عندما يتعرض راكب للسرقة ويتم استدعاء البوليس ويأتي ليقبض على نشال، ترى عددًا من الركاب يعبرون عن ابتهاجهم بضبط النشال، تشجيعًا للبوليس، وربما يتبادلون صفع النشال ومحاولة الفتك به، ومن بينهم نشالون يبالغون في رد الفعل لتأكيد أنهم أبرياء ومتعاطفون مع الضحية.. ونفس الأمر عند سقوط «متحرش» ترى أصحاب الأصوات العالية ممن يصرون على المجاملة والضرب معهم، مثل هؤلاء نرى أمثالهم في الإعلام، زملاء ممن احترفوا الإثارة وبرامج الشتائم أو السحر والشعوذة والطائفية والمذهبية، تراهم وهم يلعبون دور الثعلب الذي خرج يوما في ثياب الواعظين «مشى في الأرضِ يهدى.. ويسبُّ الماكرينا».

على أدوات التواصل نرى المزيد من «الثعالب» المعروفين في عالم الإثارة وصنع الخناقات على طريقة أفلام الأكشن.. هؤلاء بقدرة قادر يتحولون إلى خبراء في أخلاقيات الإعلام، ومواثيق الشرف، وانتقاد ما يتعلق بحماية خصوصية الناس وحمايتهم، وبعض هؤلاء استضافوا فتاة تعرضت للتشهير والهجوم من المذيعة ريهام التي اشتهرت بخلطة من فقرات تجمع بين الشعوذة والمعارك الوهمية.. استضاف المذيعون الفتاة التي رأوا أنها تعرضت للتشهير، ودافعوا عنها وعن خصوصيتها، مع أن بعضهم ضالعون وغارقون حتى آذانهم في الإثارة وبرامج الخناقات، وبرامجهم لا تختلف كثيرًا عن أفلام المقاولات التي ينتقدونها ويستضيفون من ينتقدها.

الإعلاميون الثعالب أنفسهم يعرفون أنهم يفعلون نفس الفعل، وأنهم متورطون في تسليط الناس على بعضهم، وينطبق عليهم قول السيد المسيح «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وأيضا قوله «كيف ترى القشة في عين أخيك ولا ترى الخشبة في عينك؟»، يرتكبون نفس الجرائم التي يستنكرونها، ويرمون حجارة على غيرهم، ولا يرون أي خشب في أعينهم.

برنامج العفاريت أو انتهاك الخصوصية جزء من ظاهرة واسعة تحتاج التوقف؛ لأن نفس الخطايا نراها في برامج «توك شو» تعتدي على الخصوصية وتنشر فضائح، ناهيك عن محترفي الإثارة ممن يسلطون الناس على بعضهم ويثيرون الصراعات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، أو المذهبية بين الشيعة والسنة، ويستعينون بشتامين يمارسون أعلى درجات «قلة الأدب»، وبعضهم تسبب في حرائق طائفية من قبل، ولم يبد منهم أي ندم، والمفارقة أن بعض محترفي الإثارة سارعوا باتهام «زميلاتهم أو زملائهم» بصنع الإثارة، ومازالوا يقدمون برامج مسمومة.. صناع الإثارة يستنكرون الإثارة على طريقة النشال الذي نجا من قبضة البوليس، لكن الرأي العام يعرفهم ويرفضهم، وإذا كانوا نجوا حتى الآن فسيأتي عليهم يوم يقعون ولن يمكنهم لعب دور الثعالب.

 

تسود الشائعات لأن الحقيقة لا تجلب التصفيق

«الجمهور عاوز كده» الرد السحري لمنتجي سينما المقاولات منذ سادت مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، في مواجهة أي انتقادات أواعتراضات بأن أفلامهم سطحية عبارة عن خناقة ورقصة.. يقولون إن الأفلام تحظى بإقبال، وإن التذاكر تنفد، بينما تفشل الأفلام الجادة.. نفس الحالة يطرحها بعض الإعلاميين ممن يصرون على تقديم السحر والشعوذة أو الشتائم والملاكمة.. يقولون إن نسبة مشاهدتهم عالية والجمهور «عاوز كده».

هذه نصف الحقيقة، وبعض هؤلاء يقدمون خلطة يعرفون أنها تعجب قطاعًا من الجمهور، لكنهم يتناسون أن أفلام المقاولات حتى في عزها كانت تنجح بلا تأثير، وأن كبار منتجي السينما مثل سليمان نجيب وغيرهم كانوا ينتجون أفلامًا عظيمة وبجانبها أفلام خفيفة بلا إسفاف مما هو ظاهر الآن.

وبالتالي فإن الجمهور ليس وحده اللي «عاوز كده»، لكن المذيعين والمنتجين يريدون تحقيق كسب من خلطة، لجذب المزيد من الإعلانات والتمويلات والفوز، بصرف النظر عما يريده الجمهور وما لا يريده، أو ما يمكن أن تؤدي إليه هذه البرامج من انتهاك لخصوصية المواطنين، أو التسبب في إشعال حروب طائفية أو مذهبية.

وعليه فإن صناع الإثارة وبرامج السحر والشعوذة وركوب الجن ونبش القبور، يقولون إنهم ناجحون وإن الجمهور يحبهم ولديهم الكثير من المعجبين، ومنطق «برامج» المقاولات يستند بالفعل إلى حالة معروفة لدى قطاعات من منتجي التسلية، بل وحتى منتجي صناعة «البورنو» التي تحقق مبيعات أضعاف ما تحققه البرامج السياسية الناجحة التي تعتمد على المواجهات.

وفي متابعة نسبة القراءة والمتابعة في الإعلام يظهر دائمًا أن الحوادث الغريبة أو الأحداث المثيرة تحظى بمتابعة أكثر من الأخبار الطبيعية، وخبر مولد قطة بعين واحدة أو قاتل يسلخ ضحاياه، يحظى بمشاهدة أضعاف حادث طائرة، أو مقال أو تحقيق عن قضية جادة، كما أن نجوم مواقع التواصل أيضًا يفضلون وقوع المزيد من الأخطاء ليجدوا موضوعا ينشغلون به، ولو كانت كل الأمور منتظمة ما وجدوا أمرا مهما، ثم إن المنافسة على النجومية هي الأخرى ظاهرة من ظواهر انفجار المعلومات، لدرجة أن هناك أفرادا يسعون لصناعة «فيديوهات» مثيرة تجذب ملايين أكثر مما تفعل برامج محترفة.

أما صناع الإثارة فهم يستندون لقاعدة سادت خلال السنوات الأخيرة تتلخص فى  أن الآراء المتطرفة الحادة في التأييد أو المعارضة هي التي تجلب التصفيق من فريق مؤيد والتصفير من فريق رافض، ونفس الأمر مع برامج السحر والشعوذة والنميمة والشتائم التي تجذب مشاهدين أكثر مما تفعل برامج الحوار والرأي، وأن الاستقطاب سيد الموقف، وأن كل فريق يميل لاستخدام نصف الحقيقة، أو الشائعات، باعتبار أن «الحقيقة لا تجلب الكثير من التصفيق» مثلما تفعل المواقف المتطرفة والحادة.

 

عن «السوشيال» والذي منه

أمر واقع.. أدوات التواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر ويوتيوب وملحقاتها ومتشابهاتها، هي في النهاية أدوات، يمكن استخدامها في الخير أو في الشر، تمامًا مثلما يمكن استعمال السكاكين في القتل أو إعداد الطعام، والناس على شبكات التواصل الاجتماعى ليسوا كلهم ملائكة ولا كلهم شياطين، فمنهم الطيب والخبيث والعميق والتافه.. الأغلب أن أي مكان يتزاحم فيه البشر بأنواعهم لا يكون مجالا لـ«الاستعماق» بقدر ما يصبح طريقًا للتسلية وتمضية الوقت.

أما المناسبة فهي الضجيج الذي ينطلق على مواقع التواصل، ويرى البعض أنها هي التي تصنع التغيير، وتقود الرأي العام، بينما يرى آخرون أنها مجال للنميمة والكذب ونشر الشائعات وإطلاق الحملات المغرضة، ولا يمر يوم من غير شائعة أو نميمة أو خبر موت كاذب عن نجم أو فنان أو سياسي، لكن، وللحق، فإن أدوات التواصل كثيرًا ما تنصب حملات ناجحة لإلقاء الضوء على موهوب، أو الدفاع عن مظلوم، أو السخرية من تافهين ومدعين ومنافقين وطبالين، أو مواجهة كذابين.. كله موجود ومتوفر.

وفي كتابي «عولم خانة» رصدت مبكرًا جدًا هذه الأدوار المزدوجة التي تلعبها أدوات التواصل، بل التكنولوجيا كلها، وتجعل من الصعب اتخاذ موقف مطلق من أدوات تطور نفسها وتقوم على الجدل، وتسبق كل من يستخدمها، وأعتقد دائمًا أن من يريد الاستفادة والحوار يمكن أن يجدها في مئات المواقع التي تقدم الكتب والموسيقى والأفلام والثقافة والتعليم، واللقطات الإنسانية والمبادئ، مقابل مواقع أخرى تروج للإباحية والسرقة وتمارس النصب والتسول والخداع، وحتى فيروسات الإنترنت هناك من يصنعها ويرسلها ليدمر أجهزة الناس أو يخترقها وهو لا يعرفهم.

ومن المفارقات في تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأت شبكات التواصل، رأينا مشايخ كانوا يطلقون فتاوى تحريم الإنترنت، وينشرونها على شبكات الإنترنت نفسها، وهناك من حرم، ولا يزال، فيس بوك أو يوتيوب، وينشر الفتاوى على ذات نفس هذه المواقع، وهو نوع من الديمقراطية غير مسبوق.. تمامًا مثلما ظهر بعد الربيع العربي، في تونس ومصر وغيرهما، حيث تصدرت المشهد تنظيمات وجماعات دينية بعضها عاش لعقود يؤكد بالفتوى والتنظير حرمانية الانتخابات والديمقراطية، ومع هذا كان هؤلاء في صدارة المشهد السياسي، الأمر الذي تسبب في تعقيد الأمر وساهم في الارتباك، وظل هؤلاء يرفضون الإنترنت، حتى وهم يستخدمونه لترويج فتاوى تحرمه.

الأهم في كل هذا العالم المعقد أن هناك من يتعاملون باحتراف، ومن يكتفون بالتصفح ويصبحون مجرد مستخدمين أو جمهور يرددون ما يجدونه بلا تفكير أو مناقشة، وهؤلاء غالبًا عرضة للشائعات أو الأخبار والتقارير المضروبة، ويتحولون هم أنفسهم إلى قطعان مفعول بها.

قليلون هم من يمكنهم أن يناقشوا أو يسألوا أو يبحثوا عن فائدة، لأن المواقع والأدوات هي مجرد وسيلة، والمستخدم يمتلك وقته الذي يساوي المال، فهو إما يشتري طعاماً أو زهورًا أو سلاحًا أو أشباحًا، وإن كان من الصعب أن يحتفظ الواحد بعقله وسط هذا الزحام، وعلى كل واحد أن يختار النوم على الجنب الذي يريحه والفيس الذي يعجبه، فهو عالم يصنع نجومًا وأبطالًا وضحايا.

 

عفاريت ومتحولون من أجل التوك شو

غريب أمركم يا أهل التوك شو، كيف تحولت البرامج إلى منافسة بين الزار والعفريت الراكب والماشي، والمتحولين من جنس لآخر؟ وتتناسى الفضائية أنها تعرض ما تراه، لكن الأمر تجاوز العرض إلى تبني وجهة نظر العفريت أو الجن الأزرق والكاروهات.

في برنامج من برامج الخلطة السحرية للسحر والجنس والفضائح، استضافت المذيعة شخصًا قالت إنه رجل متحول ممن يسمون في مواقع الإباحية «شيميل» أو خنثى، ومن تابعوا قضية المذيعة والشيميل أصابتهم دهشة خفيفة مع رعشة وانذهال تراتبي معوج، لماذا؟ لأنهم طوال شهر كامل يتابعون حلقات مقطعة حتت على يوتيوب، تقوم فيها المذيعة بدور المحقق «كوندانو» ويجلس أمامها فتاتان تكشف السيدة بما لها من مواهب مدفوسة وأعماق عميقة أنهما رجلان متحولان شيميل، ثم تعيد وتزيد وتقوم وتقعد وتتحول إلى كائن ضد المحولات، وتهاجم البنتين وتصرخ منادية على الأخلاق والتراجع البرنيطي للبني آدم المحول.. وقد يبدو أن السيدة تعلن براءتها من التحول.

لكن الموضوع أخذ أكثر من حقه، ولم ينغلق، بل ظل صاحيًا بلا سبب وجيه، وكلما تصور المتفرج أن الموضوع سيغلق، إذا بالسيدة تفتحه، بعد أن أعلنت نفسها خصمًا للمتحولين والمستذئبين.

ولم تكتف السيدة بحلقة ولا اثنتين، لكن كثير، لا يعرف المشاهد هل هو دعاية للمتحولين أم أنه حملة ضدهم أم أنه محاولة لكشف ما وراء الوراء.. وتخرج مستندات وأوراق لتكشف أن مايسة أصلها فوزي، وميرفت كانت رشدي، وأوراق ومستندات تثبت التحول الكبير، وأنه شيء من أجل الجنس.. وبعد كل هذا التعب لا يعرف المشاهد المسكين، ما ذنبه في كل هذا العذاب وما هي القيمة التي ترتفع من أجل أن يظل يتفرج على خلطة بوليسية جنسية متحولة وما هو الهدف.

الأمر اللافت هنا أن السيدات اللائي تواجههن السيدة لا يهربن مثلا من أمامها وهي تحاول الإيقاع بهن، كما أن أيًّا من المتحولين لم يهرب ولا تم القبض عليه بأي تهمة، وكان يمكن أن يتركوها ويخلعوا، لكنهم بقوا وكانوا باردين في الرد والأخذ.. والنتيجة أنه لا نتيجة، ولا أحد يعرف رأس الموضوع من قفاه، مجرد محاولة أخرى لاقتحام الغريب من الموضوعات، بعد أن تحولت سيدات الفضائيات إلى محققات لإثبات ما يمكن إثباته، مثل محاولة البرهنة على أن العفريت يمكن أن يدخل في الحقنة ويركب البني آدم ويلعب كيلوبامية، وكل هذا وأكثر في أكثر عروض التوك توك غموضًا ورهبة وكعبلة.

وإذا كان المتحدث أهبل فالمستمع أو المتفرج يفترض أن يكون عاقلا؛ لكن البعض يأبى إلا الاستمرار في التفرج على عفاريت ومتحولين وشهتفات، وننتقل بين الأشواط إلى الزار والسحر الأسود والكاروهات.. ويبقى لنا من كل هذه المقاطع خلطة عفاريت على متحولين ومفيش فرق طبعًا، المهم اللي ما يشتري يتفرج.

 

لوثة الكاميرا.. والاستهبال شو

انتهى زمن البطل المطلق، الأسطوري، وحل مكانه زمن البطل المؤقت، لشهر، أسبوع، يوم، سنة بالكثير، ولا يهم أن يكون للبطل إنجاز واضح أو وظيفة محددة، المهم أن يكون في الصورة، حاضرًا أمام الناس بالحق أو الباطل، حتى لو كان مجرد صورة تمشي أمام الناس وتتناقلها وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام.. ومن يمكنه أن يعرف المهنة أو الوظيفة التي تقوم بها «كيم كارديشيان» في العالم لتحتل كل هذه المساحات من الميديا العالمية ومواقع التواصل، غير أن خلفها مؤسسة تسوقها وتصنع لها أخبارا وأحداثا، حتى لو كان تحول زوج أمها إلى أنثى، ونسيان طفلتها في الفندق.

كيم كارديشيان هى أعلى مراحل توظيف ثورة التسويق وصناعة الصور والأمثلة، ومن هنا يمكن تفهم الكثير من الظواهر والنجوم الذين يكتسبون نجوميتهم من أخبار عنهم وليس عن إنجازاتهم، ليصبحوا أشهر من أعمالهم، وبعض الكتّاب يراهنون على تحقيق شهرة من تداول أخبار عن منع مقالاتهم ومحاصرتهم، أكثر مما يحققونه من نشر مقالات فارغة يصعب على القارئ تذكر جملة منها.  كما يصبح السياسي أشهر وهو يرسم صور مؤامرات كونية تحاك ضده، و أنه مستهدف من كل أجهزة العالم..

نظرية «الكاراكتر»، لا يهم ماذا يقول فلان أو ماذا يفعل، المهم أن يصل ببرنامجه إلى نقطة تضطر الضيوف للانسحاب أو للتعارك، وهى مدرسة مشهورة وسهلة تعتمد على صنع معركة مثل معارك الحارات في الأفلام القديمة.

ويبذل كل إعلامي جهده ليصل إلى نقطة الجذب، بالسحر والشعوذة، بالمشاجرات، بالاستهبال والاستعباط «والهبل على الشيطنة»، المهم أن يظل فى الصورة، لا يهم من يقول ماذا عن ماذا.

وللحق فإن الإعلام في العالم كله يتضمن الجاد وكثيرًا من الهلس للتسلية، لكن هناك بعض الموضوعات والأشخاص الجادين، بل وحتى في المحطات العربية والدولية هناك خبراء كلٌّ يتحدث في مجاله، لكن عندنا كل مذيع يتحدث في كل القضايا، باعتباره عالمًا في الذرة والمياه والحروب والاستراتيجية والتكتيك والسياسة والثقافة والطبيخ وقراءة الكف، ومن أجل أن يشد الجمهور يراهن عادة على أن المشاهد بلا ذاكرة يقع في تناقضات أو يخترع «كأنها» جادة أو حقيقية، وهي مجرد مشي في المكان.

كل هذا بفعل «الكاميرا» التي لها فعل السحر، ومن كثرة الإلحاح على المشاهد، يصبح هناك نجوم لا يهم من منهم يقول ماذا، المهم أنهم يحتلون الصورة طبقا لنظرية الإلحاح، يتساوى الجاد بالمهرج، ربما لذلك أصبحنا أمام منصات لإطلاق الكلام.. وكما قلنا انتهى زمن البطولة وحل مكانه، أبطال الصور، بعضهم تصيبه لوثة الكاميرا، وتسقط الحواجز بين الحقيقة والخيال، أو بين الجدية و«التهجيص».