لم يعد الشعر ديوان العرب، ليس بسبب ندرة الشعر العربى الجيد، ولكن بسبب تراجع منزلة الشاعر فى مجتمعات تم جرها إلى علاقات غير شعرية سوّرت حياته، وجعلت أفرادها رهينة إعلام يروّج للاستهلاك والعصبية والكراهية، والرواية ليست ديوان العرب كما يروج لذلك النقاد المتحذلقون الكسالى الذين يصعب عليهم متابعة وتذوق الشعر الجديد المعاصر العفى المتنوع، وإذا أردت الصراحة لا يوجد فن يعبر عن المصريين طوال قرن أو يزيد غير فن الغناء، وهو الذى تستطيع أن تقول إنه هو ديوان المصريين، لأنك من خلاله تستطيع أن ترصد تحولات الوجدان صعودا وهبوطا، وتتبع تاريخ أمتك مع النهوض والانكسار والانتصار، ولأن هذا الفن ملك الجميع وليس ملكا لفئة بعينها، لعب دوراً عظيماً فى تماسك المجتمع وخلق مشتركات إضافية بين الناس الذين تجمعهم لغة واحدة ومكان واحد وتاريخ مشترك، فى نهاية القرن التاسع عشر بدأ التحرر تدريجيا من طغيان النموذج التركى فى الموسيقى على يد عبده الحامولى ومحمد عثمان، ولكن ظلت الكلمات متشابهة وموضوعات الأغانى أيضا، وفى مرحلة الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918، وبسبب الخلل الذى أصاب المجتمع، ازدهر غناء يعبر عن هذا الخلل لإرضاء طبقة جديدة مشغولة بتقضية الوقت وتمتك المال وتتردد على الكباريهات التى تكاثرت فى تلك الفترة، وبدأت الألحان السريعة تنتشر بين الناس لارتباطها بالغرائز، لكن ثورة 1919 صنعت المعجزة وأطلقت أجمل وأعذب ما فى المصريين ليس فى الغناء فقط ولكن فى شتى المجالات، هذه الثورة جعلت المصرى يستعيد مصريته ويدافع عنها كل بطريقته، بدأت نهضة عظيمة على يد سيد درويش ومحمد القصبجى وزكريا أحمد وداود حسنى) ابن موسيقى القرن التاسع عشر الذى كان همزة وصل مهمة بين القديم والجديد) وبعد قليل دخل محمد عبد الوهاب ورياض السنباطى، ازدهرت مدرسة التلاوة أيضا، وازدهارها يتبعه بالتأكيد ازدهار فى الغناء والتوشيح والذكر وكل فن مرتبط بالحنجرة، الملحن هو صاحب مشروع التطوير لا شك فى ذلك، وعندما يلتقى الكلام الجديد مع اللحن الجديد نستطيع أن نلحظ القفزة، ظهور بيرم التونسى وبديع خيرى أحدث ثورة حقيقية فى فن الأوبريت (وفيما بعد السينما)، وأيضا الأغنيات القليلة الفاتنة التى كتبها أمير الشعراء بالعامية لمحمد عبد الوهاب، وفى وجود الشيخ يونس القاضى وعدد قليل من الذين تحمل كلماتهم شيئا مصريا خالصا يجمع الناس عليه، لأنه يضيف لهم، المدرسة القديمة فى كتابة الأغنية ظلت موجودة وأجادت فى التعبير عن شريحة كبيرة لا تثق كثيرا فى الجديد، وهذه الشريحة ليست قليلة، وموجودة طوال الوقت، وهى التى تستطيع أن تقول عنها إنها محافظة، وهى التى تتبنى التحديث لاحقا بعد التأكد من انسجامه مع الوجدان الجمعى الذى إذا استمع إلى أغنية تمثله وتعبر عنه ولا تستهين بذائقته، دعمها، هذه المدرسة عبّر عنها باقتدار أحمد رامى، وواصل السير فيها كثيرون بينهم حسين السيد ومأمون الشناوى وعبد الوهاب محمد، أما مدرسة بيرم وبديع فتخرج منها مجموعة مرتبطة بما يحدث فى فن الشعر بشكل عام وليس الشعر الغنائى فقط، مثل عبد الفتاح مصطفى ومرسى جميل عزير ومحمد على أحمد وفتحى قورة وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب ومجدى نجيب وغيرهم من كبار الشعراء.
مرسى جميل عزيز) المولود فى يونيو (1921الذى هو موضوعنا، موضوع كبير، ليس فقط بسبب غزارة إنتاجه وتنوعه) أكثر من 1000 أغنية)، ولكن بسبب فراسته وموهبته فى الوصول إلى قلبك من أقصر طريق، وبنعومة ومودة شخص قريب منك، شخص ميسور الحال أهله يتاجرون فى الفاكهة، درس القانون، ومهموم بالتصوير الفوتوغرافى وتعترف بموهبته فيه مجلات دولية، يعرف الإنجليزية والفرنسية، يتعلم فن كتابة السيناريو بعد تجاوزه الأربعين من عمره، يكتب فى الصحافة، يكتب الصورة الغنائية والقصة القصيرة، شخص ظهرت أولى أغنياته "الفراشة" وهو فى الثامنة عشر من العمر مع ألحان السنباطى وصوت نجاة على، ليلتقطه الحس الشعبى الجميل ممثلا فى عبد العزيز محمود فى الأغنية الجميلة "يا مزوق يا ورد فى عود"، واستعان به فى التوقيت نفسه إبراهيم حمود فى أربعة الحان، اكتشف الملحنون نهرا عذبا رائقا رقراقا جاء مع شاب قدم من من الزقازيق محملا بأشواق منطقة جغرافية يجمع بين طراوة وخضرة ريف الدلتا ورحابة وصفاء الصحراء المتاخمة، من الصعب رصد كل إنتاجه، ولكن لا تخطئ الأذن كلماته، بدون تفكير ستعرف أن" الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا فى البساتين"، ليس لأن له علاقة بالفاكهة، ولكن بسبب طريقة القنص التى يفاجئ بها المتلقى، كلام يبدو عاديا، ولكن ولكن إذا تأملته ستكتشف أنه محمل بوعى راسخ، يشترك معك فيه، ويجعلك تنصت اليه باعتباره يخصك، وجاء من صاغ الإحساس به من هو أمهر منك، تشعر أنه جاء لحراسة الأشواق القديمة، مع عبد الحليم حافظ الذى غنى له 35 أغنية، ظهرت مهاراته وتنوع أساليبه فى القنص بالإضافة الى رقته المعهودة، تشعر أنه يستأنف حوارات قديمة، "ليه تشغل بالك، بلاش عتاب، يا خلى القلب، حبك نار، فى يوم فى شهر فى سنة"، مع صوت فايزة أحمد قدم شيئا مختلفا ينهل من التراث الشعبى ويعتمد على البداهة وعلى التاريخ غير المكتوب الذى يجمعنا، مثل "يامه القمر ع الباب، أنا قلبى اليك ميال، ويالأسمرانى، وقلبى عليك ياخى، وبيت العز يا بيتنا"، أغنيات جعلتنا ننسى أن الصوت الذى يغنيها ليس مصريا، مشاعر ريفية خام، طازجة، مشحونة بطيبة قديمة، مع محمد فوزى تشعر أنك ذهبت معهما إلى طنطا عاصمة الدلتا، وأنك في رحاب شيخ العرب وفى حالات من الغناء الطقسى المرتبط بالأفراح )أو الأحزان) القديمة، مثل "أى والله أى والله، الشوق الشوق"، وأبدع أيضا مع صوت حورية حسن "الطنطاوية" عددا من الأغانى الشعبية العظيمة مثل "زمان حبيبى كان، يابو الطاقيه الشبيكه، جميل يا نيل، يادى الليالى الهنيه، والله على دين وندر شمعتين، نسيتى ايامى" ومع نجاة قدم أعمالا شعبية فريدة مثل "أما براوة، وعطشان يا اسمرانى"، وأخرى عاطفية في غاية الرقة مثل "غريبة منسية، حبيبى لولا السهر، أنا باستناك"، له مع كل صوت حكاية، مع فيروز وشادية وفريد الأطرش وصباح وفايدة كامل وشهرزاد ونجاح سلام ونور الهدى، محمد عبد المطلب، محمد قنديل وكارم محمود، تعاون مع كل مدارس التلحين وتغنت بكلماته كل الحناجر ظللت سماء مصر ثلاثة عقود على الأقل، نجح هو وبليغ حمدى مع أم كلثوم في الثلاثية الجميلة "سيرة الحب، فات الميعاد، ألف ليلة وليلة"، ومع عبد الوهاب في أغنية "من غير ليه" الفاتنة، له تراث آخر لا يقل أهمية، تاه في الزحام، ربما بسبب عدم نجومية المغنى أو المغنية، أو داخل صور غنائية إذاعية لا تذاع، أو بسبب قلة ذوق القائمين على اختيار ما يحتاجه المزاج العام، مثلا توجد له أغنية وطنية يغنيها سيد إسماعيل ولحنها أحمد صدقى، تقول "الله يجازى الليل فكرنى بالأحباب .. ياجى من مصر أمانه تجيب لى من ترابها حجاب"، ولا ننسى أغنية "بلدى أحببتك يا بلدى" لمحمد فوزى، والتى لم تجد الإذاعة غيرها بعد هزيمة 1967 والتى طبطبت على قلوب الناس، من الصعب الإحاطة بمنجزه الشاسع والغنى في مقال، لأنه نهر عفى، شاعر يحمل أشواق أهله ورغبتهم الملحة في الفرح، موهبة استثنائية آمن صاحبها بقدرة المصريين على تجاوز الأحزان.. والغناء معا في كل الأوقات.