الأحد 16 يونيو 2024

فن الحرب.. وتصارع العقول

فن20-10-2020 | 12:25

منذ القرن السادس قبل الميلاد، وعندما احتدم الصراع واشتعل، فى قلب آسيا؛ للفوز بأكبر مساحة من الأرض، يمكن السيطرة عليها، أدرك صن تزو، ذلك المقاتل الصينى العبقرى، الذى وضع أسس أوَّل جيش نظامى فى التاريخ، أن الانتصار فى الحروب لا يتم عبر المقاتلين والأسلحة فحسب، ولكن العقول لها النصيب الأكبر فى إحراز النصر، مهما كان نوع أو زمن أو مكان الحرب ... وعلى الرغم من أنه كان يقود عدداً قليلاً من الجنود المقاتلين، بمقياس ذلك الزمن، إلا أنه نجح فى إخضاعهم لقواعد جديدة، لم تعرف من قبل، خلال أية حروب سابقة، حتى أنه استطاع بقيادة هذا العدد، لذى لم يزد على ثلاثين ألف جندى، الانتصار على جيوش ؤيزيد عددها عليه بعشرة أضعاف، وكررَّ هذا الانتصار مرة ومرة ومرات، حتى صنع إمبراطورية هائلة، قدمها لامبراطوره على طبق من ذهب.

وفى كل انتصاراته، اعتمد صن تزو على العقل، فى اتجاهين أساسيين ... الاتجاه الأوَّل فى استراتيجيات الحرب وتكنيكاتها، حيث درس طبيعة أرض المعركة، فى كل موقعة، واستخدم الطبيعة وسماتها، وجعلها جزءاً من أسلحته، وابتكر تكنيكات للكر والفر، وخططا لحصار العدو وتحييد أسلحته الأساسية.

أما الاتجاه الثانى، فكان البداية المنظمة الأولى، لأقوى حروب عقل عرفها التاريخ ... حروب المخابرات ... لقد استخدم صن تزو الجواسيس؛ لمعرفة قوة واستعدادات العدو، ومدى أسلحته، ولم يكتف بهذا فحسب، وإنما سعى لمعرفة الحالة المعنوية لشعب العدو وقومه، ومدى تقبَّلهم أو رفضهم للحرب، ودس وسطهم من يحدثهم عن قوته هو، ويبالغ كثيراً فى قدراته؛ لتحطيم معنوياتهم، وبث الخوف فى عروقهم، بحيث ترتجف أياديهم وهم يواجهوه، وينهزمون فى أعماقهم، قبل حتى المواجهة العسكرية الفعلية ... ولقد صنَّف صن تزو الجواسيس، على نحو لم يعرفه أو يدركه أحدٌ من قبله، وجعلهم بينهم جاسوسًا من رجاله، يندس وسط جنود أو قوم العدو، أو جاسوسًا من العدو، ينقل إليه أخبارهم، مقابل أجر أو إغراء، وجعل من بين رجاله المخلصين والمقربين عيوناً، ترصد ما يحدث وسط قومه، لكشف أية محاولات للاندساس بينهم، أو نشر الأكاذيب وسطهم ...  باختصار، لقد وضع صن تزو، وربما دون أن يدرك تماماً، القواعد الأساسية لما عرف فيما بعد بأجهزة الاستخبارات ...

فالجاسوسية فى حد ذاتها ليست بالأمر الحديث أو الجديد، بل إنها تعتبر ثانى أقدم مهنة فى التاريخ، ولكن وضعها فى قالب منظَّم، وتصنيف عملها، كان عبقرية صن تزو، التى وضعها فى كتابه الأشهر "فن الحرب"، تحت عنوان "الحرب السرية" ...

ومنذ زمن صن تزو، راحت الجاسوسية تتطوَّر على نحو بطيء، يخضع لقواعد التجربة والخطأ، بحيث تنمو المعارف رويداً رويداً، دون أن تكون هناك أجهزة متخصصة، فى هذا المضمار ... ومع مطلع العصور الحديثة، وتطوَّر الأسلحة وتكنيكات الحروب، ظهرت الحاجة إلى وجود كيانات منظمة، ترعى عمليات جمع المعلومات، ومنع الحصول على الأسرار، من هنا نشأت أولاً ما تسمى بالمكاتب المعلوماتية الاستراتيجية، التى تخضع لقادة الجيوش، وتسعى لمعرفة قوة أسلحة العدو، ومدى تسليح جيشه، وتدريب جنوده، تحت مسمى الاستخبارات العسكرية، التى حققَّت الكثير من النجاحات، حتى تبين وجود قصور معلوماتى، يعود إلى أن بعض المعلومات المدنية، غير العسكرية، يمكنها التأثير كثيراً فى مسار الحروب ... ومن هنا بدأ التفكير فى وجود كيانات أكثر شمولية، تتولى العملين ... جمع كل المعلومات الممكنة طول الوقت، من الجانبين العسكرى والمدنى، ومنع جواسيس العدو، فى الوقت ذاته، من الحصول على أية معلومات عسكرية أو مدنية، يمكنها أن تعرَّض أمن وسلامة الوطن للخطر .

ومع بدايات القرن العشرين، راحت تلك الكيانات تتطوَّر وتنمو، حتى العقد الثانى من القرن العشرين، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى (28 يوليو 1914- 11 نوفمبر 1918م)، حيث احتدم الصراع بين دول الحلفاء، فرنسا، وبريطانيا، وأستراليا، وكندا، والهند البريطانية، ومستعمرات نيوفاوند لاند، ونيوزيلندا، واتحاد جنوب أفريقيا وغيرها، ودول المحور، وعلى رأسها الامبراطورية الألمانية، والدولة العثمانية، وبافاريا، وبوروسيا والنمسا وأخرى ... ولأن الحرب كانت شاملة وعنيفة للغاية، ولأن الحاجة دوماً أم الاختراع، فقد تطوَّرت الكيانات الاستخباراتية تطوراً كبيراً، خلال تلك الحرب، وكانت لها مساهمة كبيرة فى حسمها، وخاصة عندما سعت أجهزة الاستخبارات المعادية، على تغذية جذوة الثورة فى روسيا الامبراطورية، كوسيلة لدفعها إلى الخروج من الحرب، والانسحاب من المعركة، ولقد قامت المخابرات الألمانية بعملية ناجحة، عرفت باسم (القطار الحديدى)؛ لنقل لينين، من منفاه فى ألمانيا لروسيا الامبراطورية؛ ليقود الثورة، التى انتهت بسقوط حكم عائلة رومانوف، واعتلاء البلاشفة سُدة الحكم فى روسيا، التى قررَّت، تحت حكم البلاشفة الانسحاب من الحرب العالمية الأولى ..

وعلى الرغم من نجاح العملية، خسرت الامبراطورية الألمانية الحرب، وانهار معها الحكم العثمانى، وصارت إنجلترا وفرنسا هما القوتان العظميان، اللتان تحكمان العالم ...

وعبر الدروس المستفادة من الحرب العالمية الأولى، تطوَّرت أجهزة الاستخبارات الإنجليزية والروسية، حيث لم تكن هناك مخابرات أمريكية  أو فرنسية ذات قيمة، فى ذلك الحين ... وبعد صعود أدولف هتلر، زعيم الحزب النازى الألمانى، (20 أبريل 1889- 2-30 أبريل 1945م)،  إلى منصب مستشار ألمانيا، أى ما يعادل رئيس الوزراء رسمياً، فى 2 أغسطس 1934م، بدأ فى تكوين نظم أمن قوية؛ لحماية وجوده وضمان بقاء الحزب النازى فى السلطة، وعلى رأسها المخابرات النازية، التى تم تدريبها وإعداداها بقوة ودقة، حتى صارت خصماً لا يستهان به، لجهازى المخابرات، الروسى والبريطانى ...

ومع أول شرارة للحرب العالمية الثانية (1 سبتمبر 1939- 2 سبتمبر 1945م)، نشطت أجهزة المخابرات الثلاثة، تحسباً لما يمكن أن يحدث، وسعت كل منها للحصول على أكبر قدر من المعلومات، عن كل القوى، فى نفس الوقت الذى راحت فيه اليابان تطوَّر جهاز مخابراتها، استعداداً لخوض الحرب، إلى جوار ألمانيا النازية ... ويمكن اعتبار فترة الحرب العالمية الثانية نقطة انطلاق حرب العقول  إلى ذروتها، والانطلاق إلى آفاق جديدة، غيَّرت تاريخ وشكل الاستخبارات، فى العالم كله، وأرست قواعد جديدة، لم تحظ بالأهمية الكبيرة فيما قبل ... من أهم تلك القواعد إدراك ما يمكن أن تفعله المعلومات العلنية، المتاحة للكل بلا استثناء، فى مسار الحروب، لو أمكن جمعها وتصنيفها، وتحليلها بالقدر المناسب، وفى الوقت المناسب ...

وبدأ هذا قبل بدء الحرب العالمية الثانية فعلياً، عندما كان أدولف هتلر يسعى لتكوين جيشه سراً، ملتفاً على اتفاقية فرساى، التى تمنع بنودها ألمانيا من تكوين جيش مقاتل، فبينما يدور كل شيء على نحو سرى، فوجئ أدولف هتلر، بكتاب نشره صحفى سويسرى، يدعى برتولد جاكوب، يشرح فيه كل ما يتعَّلق بالجيش الألمانى، من حيث توزيع وحداته وأسماء قادتها، وأماكن تمركزها، وبعد تحقيق داخلى عصبى، أمر هتلر بإحضار جاكوب إلى برلين، وهناك، فى مقر المخابرات الألمانية، تكشفت الحقيقة المذهلة، فالصحفى السويسرى جمع كل ما لديه من معلومات، من الصحف الألمانية، وبالتحديد من صفحات الوفيات، حيث كان النعى يحمل نصاً معلوماتياً دون قصد، مثل أن القائد فلان، رئيس الوحدة كذا، المتمركزة فى مكان (...)، ينعى زوجة الجنرال علان، أو رئيس الوحدة كذا، والمتمركزة فى مكان يذكره النعي فى وضوح ... وكان أكثر من أدهشهم الأمر، رجال الاستخبارات النازية أنفسهم، عندما أدركوا خطورة المعلومات العلنية، وأثرها فى مسار الحروب، فلو كشف كتاب جاكوب هذا الأمر، للجانبين البريطانى والفرنسى، لربما لم تنشأ أو تندلع الحرب العالمية الثانية من الأساس ...

لم تكتف المخابرات الألمانية بمعرفة ذلك فحسب، ولكنها سعت لاستغلاله أيضاً، ووضعت قاعدة جديدة فى حرب الجاسوسية والمخابرات ... وبالنسبة لأى دارس، تعد الحرب العالمية الثانية مدرسة كبرى لفن علوم الجاسوسية، بعد العمليات العبقرية المبتكرة، والنتائج المذهلة التى حققَّتها ... فخلال الحرب العالمية الثانية، تم عدد من العمليات الاستخباراتية المدهشة، وغير التقليدية، منها مثلاً عملية عرفت باسم (عملية اللحم المفرى)، حيث تمت الاستعانة بجثة أحد الضباط، من قبل المخابرات البريطانية، لخداع المخابرات النازية، فقد كان الألمان يتساءلون: هل سيسعى البريطانيون لغزو اليونان أم صقلية، ولذلك وضع رجلا المخابرات البريطانيان تشارليز كولونديلى، و أوين مونتاجو، فكرة غريبة ومبتكرة، استقياها من عبارة عفوية، وردت على لسان آيان فليمنج، سكرتير الاستخبارات الشهير، والذى صار فيما بعد صاحب أشهر شخصية جاسوسية روائية فى التاريخ، وهى جيمس بوند، فقد كان بعض رجال الاستخبارات يتحدثون عن ضمان ولاء الجاسوس، فقال فليمنج مازحاً، الضمان الوحيد أن يكون الجاسوس ميتاً، وهنا نمت الفكرة، واستعان تشارليز ومونتاجو بجثة الشاب جليندور مايكل، بعد استئذان والديه، وألبساه زياً عسكرياً، ووضعا فى جيبه كل ما يوحى بشخصية عادية جداً، مثل خطابات غرامية، وتذاكر سينما، وبعض الفستق، وصورة لخطيبة وهمية، وفى يد الجثة، وضعت أغلال، تربط معصمه بحقيبة تحوى بعض الأوراق التى تصف خطة غزو اليونان ... ولقد ألقيت الجثة بجوار الشواطئ الإسبانية، لتجرفها التيارات إلى هناك ... والتقطها الإسبان بالفعل، وعندما رأوا ملابسها العسكرية البريطانية، أبلغوا الألمان، الذين أرسلوا  خبراءهم لفحص الأمر، وتصوَّروا أن القدر قد أوقع فى أيديهم خطة غزو اليونان، ومن هنا أعدوا العدة، واستحكموا دفاعاتهم فى اليونان، وعندما أيقنوا من براعتهم، وبعد ثلاثة أشهر فحسب، غزت قوات الحلفاء صقلية، وكانت بداية السقوط لبنيتو موسولينى (24 ديسمبر 1925- 25 يوليو 1943م).

العملية مجَّرد مثال لعمليات الاستخبارات المبتكرة والجديدة ... وتلك العملية وغيرها، هى التى غيرت مسارات الحرب عدة مرات، أسالت لعاب الدول الأخرى، على ضرورة أن تكون لديها أجهزة مخابرات، وخاصة بعد  أن تسبَّب جاسوس سوفيتى واحد، من أصل ألمانى، وهو ريتشارد سورج، أو ريتشارد زورجه، كما تقال بالألمانية (7 أكتوبر 1895- 7 نوفمبر 1944م)، فى وضع بداية هزيمة الجيش النازى فى روسيا، عندما أنشأ شبكة تجسسية قوية، فى قلب اليابان، مستغلاً  عمله كمراسل صحفى لجريدة نازية شهيرة، واستطاع الاقتراب من القيادة العسكرية اليابانية، ومعرفة قراراهم بعدم شن الحرب على روسيا، بأى حال من الأحوال، وبناء على هذه المعلومة الاستخباراتية شديدة الأهمية والخطورة، سحب الروس كل قواتهم، من الجبهة اليابانية، إلى الجبهة الألمانية؛ لتوجيه ضربة قاصمة للجيش النازى، أدت إلى دحره، وبداية زحفه عبر الثلوج، مطارداً من القوات الروسية، التى تبعته وطاردته، حتى برلين نفسها ... وحتى انتهت الحرب العالمية الثانية، لم يكن لأمريكا جهاز استخبارات، بل فقط مكتب معلومات عسكرية استراتيجية، ولكن أمريكا استعانت ببعض الخبراء البريطانيين، وبمن أسرتهم من رجال الاستخبارات النازية؛ لإنشاء وتطوير جهاز مخابراتها، الذى يحظى اليوم بشهرة دعائية كبيرة، كواحد من أقوى أجهزة المخابرات العالمية، وبعد احتلال اليهود لفلسطين، أدركوا أهمية أن يكون لهم جهاز استخبارات، وبخلاف استخباراتهم العسكرية (أمان)، التى تتبع وزارة الدفاع الإسرائيلية، وجهاز الشين بيت، الذى يتبع وزارة الداخلية، فأنشأوا عام 1950م، الاستخبارات المدنية، أو (الموساد)، والكلمة تعنى المؤسسة باللغة العبرية، واستعانوا فى إنشائها برجال المخابرات الأمريكية، الذين قاموا بتدريبهم وتأهيلهم ...

وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م، فى مصر، ظهرت الحاجة لوجود جهاز استخبارات عام، فأسس جمال عبد الناصر جهاز المخابرات العامة عام 1954م، وصدر قرار إنشائه رسمياً فى 1955م، وتولى رئاسته عضو مجلس قيادة الثورة زكريا محيي الدين، لتدخل مصر حلبة أقوى صراع عرفه التاريخ، وساحة الحرب التى لا تتوقف أبداً، ولو لثانية واحدة ... حرب العقول.