ابن الصعيد الذي أتى إلى القاهرة
يحمل تراث الأجداد وثقافة الوالد حيث كان والده أحد علماء الأزهر وحصل على الإجازة
عام 1940 سنة ميلاد صغيره فأطلق عليه "أمل" تيمنًا بالنجاح الذي أحرزه
في نفس العام، وكان لديه مكتبة عظيمة تضم كتب فقه وشريعة وتفسير وذخائر التراث
العربي، وكانت هذه النواه الأولى لثقافة وتعليم الفتى الصغير الذي أصبح مسؤولا عن
أسرته في سن العاشرة حيث توفي والده.
أنهى امل دنقل دراسته
الثانوية وألتحق بكلية الآداب على الرغم من انه كان يخطط للدراسة العلمية ودراسة
الهندسة او الطب حيث كان يتميز بالذكاء والنبوغ وتحكي عنه والدته أنه كان متفوقًا
في الدراسة منذ صغره وقرأ كتب والده وغيره من الكتاب الكبار وقرأ الشعر والقصة
والقرآن والإنجيل والتوراه، وأنها كانت تشعر أنه سيصبح شاعر كوالده الذي كان يكتب
الشعر العمودي.
نظرا لمسؤوليات أمل لم
يستطع أن ينتظم في الدراسة ولم يكمل دراسته ولم يحصل على الليسانس، وعاد إلى قنا
مرة أخرى ليعمل في المحكمة مع صديقه عبد الرحمن الأبنودي، ولكنه لم يستمر وغادر
مرة اخرى إلى القاهرة.
يحكي أمل أن والده منعه
من اللعب أوأي مظهر من مظاهر الطفولة مثل
أكل الحلوى ليصبح رجل ولأنه كبير أخوته، ويضيف كانت أمي تعاملني كطفل بينما والدي
كان يعاملني كرجل وأنا لازلت في العاشرة من عمري.
وتحكي عنه زوجته الكاتبة
الصحفية عبلة الرويني: أن اليتم علمه الألم والمرارة، لم يعرف اللعب مع الصغار في
شوارع القرية، وظل لسنوات طويلة يرفض أكل الحلوى لأنها مرتبطة معه بالطفولة
والميوعة وعدم الرجولة، واشتهر بأنه الشخص الذي لا يعرف الابتسام.
كانت بدايته الحقيقية مع
الشعر عام 1969 حين كتب" البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وهو الديوان
الذي جسد فيه مشاعر الهزيمة والنكسة عام 1967.
أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنًا بالطعنات
والدماء
أزحف في معاطف القتلى
وفوق جثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين
والأعضاء
أسأل يا عذراء عن فمك
الياقوت
عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع
وهو مايزال ممسكًا
بالراية المنكسة
كان الشعر سيده وسيد بيته
كما قالت عنه عبلة الرويني فكان كالممسوس بمس الشعر، كان يخرج فيه كل غضبه وحنقه،
وكان بديل الانتحار، فكان إذا تملك منه اليأس والتعب وقرر أن يضع نقطة النهاية،
فكان ينتحر على جدار القصيدة.
ذلك الرجل القادم من بلاد
الأساطير والسحر الدفء، والذي تعلم هناك ألا يقول نعم عندما يجب أن يقول لاوأصبح
رمز الرفض المعلن والثورة الصارخة في وجه كل الظلم وأي ظلم.
كان معروف عنه حدته
وغلظته التي كانت تفسد عليه علاقاته مع الآخرين حيث كان يهرب منه الكثيرون لعدم
تحملهم طباعه الحادة، وهذا ما واجهته زوجته عبلة الرويني عندما كان عليها أن تجري
معه حوار حذروها منه ومن غلظته وحدته، ولكنها لم تهتم بذلك وتوجهت حيث يجلس في
مقهى ريش، ولكنها لم تقابله فظلت تتوجه للمقهى اكثر من مرة، وفي يوم أخبرها أحد
عمال المقهى أنه لا يظهر إلا في المساء فكتبت له رسالة تطلب منه اللقاء لإجراء
حوار معه وتركت رقم هاتفها، فيرد عليها باتصال ويحدد معها موعد في مقهى دار
الأدباء بالقصر العيني، وفي الموعد الثاني ذهب بها إلى مقهى ريش، ثم انتقلا إلى
بار كوزموبزليتان بسبب زحام المقهى الذي تذمرت هي منه. وتحكي أنها شعرت بالحرج حيث
كانت هذه أول مرة تدخل بار وتجري حوار مع مصدر يتناول البيرة أثناء اللقاء.
انفجر أمل في الشعر
بهدوءه العجيب، وعاد إلى قنا مرة أخرى ولكنه لم يتسطع فرجع إلى القاهرة ليكتب
الشعر وترك الوظيفة، ليصبح الشعر هو ملاذه وملجأه.،وهدفه للثورة على الواقع
وأحيانا السخرية من الحياة بصورة إبداعية غاية في الشفافية تطلق في ذهن القاريء
معاني شعرية.
كان أمل من القلائل الذين
لم تبهرهم ثورة يوليو رغم أنها كانت أمل الكادحين والمنهكين وكان هو احدهم ولكنه
كان منتبهًا لأخطاءها وخطاياها، وسجل رفض الثورة للحرية الحقيقية وكيف جمدتها في
صورة شعارت ليس إلا، ففتح نار سخريته عليها، حيث يرفض الحرية المزعومة من الثورة
التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها لمعارضيها:
إن اليمين لفي خسر
وأما اليسار لفي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون
يحشون بالمصحف المشتراه
العيون فيعيشون
إلا الذين يوشون
إلا الذين يوشون ياقات
قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك
والصمت وسمك
تحكي عبلة الرويني أنه في
اللقاء الرابع قال لها بمنتهى الحدة "يجب ان تعلمي أنك لن تكوني أكثر من
صديقة.
فردت بنفس الحدة:
"أولا أنا لست صديقتك، ولا أسمح لأحد يحدد مشاعري وإلى أي مدى تزيد وتنقص،
فأنا صاحبة القرار".
فتراجع للوراء واختفت
حدته واسترسل في الحديث عن نفسه وعن بحثه عن الأمان وعن حصونه وأسواره التي يحيط
بها نفسه ويمنع احد من الاقتراب، وعلاقاته التي أصر أن تتسم بالرفض والعصيان حتى
لا يكتشف احد ضعفه وهشاشة روحه واحتياجاته، وفي نهاية اللقاء مد يده مسلمًا
وسألها: هل أراك غدًا فأجابت نعم فقد احببتك".
وعن هذه اللحظة تقول أنها
المرة الوحيدة التي شاهدته مرتبكًا عاجزًا عن الكلام.
تحكي عبلة الرويني أنه أهداها
قصيدة مقابلة خاصة مع ابن نوح واخبرها أنها أول قصيدة يكتبها لها فأبدت اعتراضها
أن هذه القصيدة غاية في الترميز والاتجاه نحو الوضع الاقتصادي والسياسي الذي تمر
به مصر، فأجاب أنها هي صلب القصيدة حيث اعادت له الإحساس بالوطن الجميل وأن سطورها
لأخيرة بالتحديد تصفها.
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته
الشروخ
يرقد الآن فوق بقايا
المدينة
وردة من عطن
هادئا
بعد أن قال لا للسفينة
وأحب الوطن
وارتبط الحبيبان وتزوجا
وعانا سويًا من شظف العيش وقلة الموارد فكانا يتنقلان بين الفنادق والغرف
المفروشة، وكانت ترى عبلة أنه أجمل وألطف مما يراه الأخرون وكانت تعترض على أي
جملة اعتراض على علاقتيهما أو سخرية منها.
ولكن بعد مرور تسعة أشهر
من الزواج اكتشف أمل دنقل إصابته بالسرطان وبدأ رحلة العلاج، ولأنه لم يكن يملك
تكاليف العلاج فبدأت حملة لجمع تبرعات بين أصدقاء الشاعر ومعجبينه لاستكمال علاجه،
وكان أولهم يوسف إدريس الذي طالب الدولة بعلاج أمل دنقل وتحمل تكاليف العلاج.
واستقر الشاعر في
المستشفى في الغرفة 8 واستمر يكتب الشعر على علب الثقاب وهوامش الجرائد ، وأتم
ديوانه " اوراق الغرفة 8"
في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض، أردية
الراهبات
الملاءات
لون الأسرة، أربطة الشاش
والقطن
قرص المنوم، أنبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني
بالكفن.
لقب أمل بأنه شاعر الرفض
لأنه اختار من اللحظة الأولى أن يكون على يسار السلطة وأن ينحاز للفئات المنهكة
والمتعبة ولم يتكسب من شعره ولم يكتب الشعر بغرض الشهرة أوالمال أو إرضاء أحد،
فكان هاجسه الحق والحرية والجمال، والحرية في أشعاره وروحه لها المكانة الأولى
والأولوية لأن الحق مرتبط بتحقيقها ويأتي الجمال نتيجة لكل ذلك.
قالت عبلة الرويني: كان
وجهه هادئًا وهم يغلقون عينية وكان هدوئي مستحيلًا وأنا أفتح عيني.