أصبح العالم مرعبًا عندما باغت فيروس كورونا المستجد (كوفيد19) العالم بسرعة تفشيه، فلم يرحم أحدًا ولم يعد على وجه الأرض بلد بمنأى عنه، ولم يتوقع العلماء منذ ظهوره بأن المارد يخرج وينتشر مثل النار في الهشيم من ووهان الصينية بهذه السرعة ويغزو القارات البعيدة ويدمر المجتمعات ويقطع الأوصال.
اجتاح فيروس كورونا العالم مما جعل العلماء يرجعون إلى تاريخ تفشي الأوبئة عالميًا منذ الجدري، وإنفلونزا هونج كونج في آواخر ستينيات القرن الماضي، والإنفلونزا الإسبانية، مرورًا بالطاعون والكوليرا والكثير من الكوارث التي اجتاحت الكرة الأرضية وأودت بحياة الملايين من البشر.
ظهرت بعض الأعمال الأدبية التي تنبأت بمثل كارثة كورونا، حيث تناول رواد مواقع التواصل الاجتماعي كيف تنبأ خالد توفيق في جزء من روايته " شربة الحاج داود" عن فيروس كورونا، وحول إذا كان الفيروس سيسبب خطرًا على المصريين أم لا، وأيضًا رواية " ستاند" لـ ستيفن كينج، و" ووهان 400" للكاتب الأمريكي دين كونتز التي تتطابق أحداثها مع ما نعيشه في اللحظة الراهنة.
وهنا يأتي دور الأعمال الأدبية وهو التخفيف من حدة التوتر، وذلك عن طريق التعامل مع النصوص الأدبية لاستعادة التوازن النفسي، إذ تذكرنا هذه الأعمال بأن البشرية قد انخرطت في حروب ضد الأوبئة والأمراض المميتة ولكنها، رغم الخسائر الفادحة، تمكنت من بناء الحضارة من جديد وبدأت دورة الحياة الطبيعية.
ظهر الطاعون في أوروبا والشرق الأوسط في عام 1347، وحصد في خمس سنوات ما يقرب من 24 مليون قتيل، وأُعتُبر هذا المرض أسوأ كارثة حلت بأوروبا، وتسبب في وفاة أكثر من ربع السكان في الشرق الأوسط، وأيضًا قبل مائة عام، بالتحديد عام 1918، ضرب فيروس قويٌ الكرة الأرضية وتفشى إلى درجة أنه أصاب ثلث البشر في ذلك الزمان، ليترك بصمة سوداء عُرفت باسم "الإنفلونزا الإسبانية"، التي انتشرت في مكان محدود، تماما كما في حالة فيروس كورونا الذي كانت شرارة تفشيه في سوق المأكولات البحرية بمدينة ووهان الصينية.
صارت أخبار فيروس كورونا تملأ الدنيا، وأًصبحت الشغل الشاغل لجميع بني الإنسان، وطال تأثير الفيروس يضرب جميع المرافق الاقتصادية والدينية والسياحية والثقافية، مما أثر ذلك بالسلبً على المستوى النفسي للأفراد، وسارعت الحكومات في القيام بالإجراءات الاحترازية والوقائية لمواجهة ذلك المارد، وبعد اتساع انتشار المرض جغرافيًا وارتفاع عدد المصابين، صنّفت منظمة الصحة العاملية فيروس كورونا "وباء" عالميًا، وزادت المدن الموبوءة وتغيرت سلوكيات الحياة العادية، وأصبحت الشوارع خالية من المارة، وتم إلغاء الطقوس الدينية، وأُوقفت الأنشطة الثقافية والرياضية، وصارت المصافحة بـ "الكوع" بدلًا من اليد، ومناداة كل مسؤول في العالم بعبارة واحدة "خليك في بيتك"، فلم يعد صوت يعلو غير صوت كورونا، وأصبح العالم في حالة "حجر صحي" لمحاصرة المرض ومنع انتشاره.
لكننا يمكن أن نجد الطمأنينة في تعاليم الفلاسفة الذين عرفوا كيف يتعاملون مع الأزمات، ويعتقد الكثير من غير المشتغلين في ميدان الفلسفة بأنها سعي تعليمي وأسلوب حياة اختاره رجال يعيشون في الكهوف، ولكن الفلسفة مناسبة لكل العصور ولكل إنسان على وجه الأرض أيًا كان الزمان أو المكان الذي يعيش فيه، فالفلسفة - لا تعلمنا كيف نفكر فحسب بل تعلمنا كيف نحيا - فنجد المدرسة الفلسفية الرواقية القديمة (تأسست في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد) التي مثلها فلاسفة بارزون مثل سينيكا Seneca، وإبكتيكس Epictetus، تمثل العالم الواقعي، نحن حين نواجه اليوم رعب وباء كورونا، نجد تعاليم هؤلاء الفلاسفة مٌعينة لمواجهة هذا الرعب من كورونا، وعندما يكون الحاضر والمستقبل مرعبًا، نستطيع العثور على الطمأنينة من حكمة أولئك القدماء الذين واجهوا المجاعة والأوبئة والكوارث الطبيعية.
فهناك فرق شاسع في الفهم بين العقل اللاوعي الذي لا يرى أبعد من اللحظة الراهنة في تحليله للحدث، والعقل الواعي الذي يحاول إدراك حقيقة ما يقع ضمن دورات الزمن الكبرى ليزيد من مناعة الإنسان في تحمل الأحداث والتقلبات البيئية ليتأقلم ويتكيف مع الظروف الراهنة ويُحيل العوائق إلى أداة لإنجاز المزيد من النجاح والتطور.
في هذا الصدد نذكر مقولة " إبكتيتس Epictetus" " إن ما يهم ليس ما يحدث لك وإنما الكيفية التي تستجيب بها لما يحدث"، فتقلبات الطقس، أفعال الآخرين، الطريقة التي يتعامل بها الأبوان معك حين كنت طفلًا، تفشّي الفيروسات، كلها أشياء خارجة عن سيطرتك، اِحرص أن يكون تركيزك وقدراتك فقط على الأشياء التي تستطيع التأثير فيها.
ينفذ المواطنون التعليمات الطبية التى تُنشر بشأن الوقاية من مرض كورونا بوسائل الإعلام وشبكات مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تكفُ الجهات المعنية من التأكد على ضرورة التمسك بالتعليمات الطبية، ولكن هل تكفي الكمامات والسُترات الطبية واستخدام المعقم لمواجهة الفيروس؟ نعم كل ذلك قد يحميك من الإصابة بالعدوى لكن ماذا عن الرعب الذي يغزو الأعماق؟ " ليست الأشياء ما يكربُ الناس ولكن أفكارهم عن الأشياء" كما يقول ماركوس أوريليوس "سعادتك تعتمد على نوعية أفكارك"، فافهم أنك المصدر الوحيد لمشاعرك، الأحداث لا تخلق مشاعرك – وإنما القصة التي تحكيها لنفسك عن تلك الأحداث هي التي تقرر وجهة نظرك، فكل الصراعات تبدأ داخليًا.
الرواقيون اعتقدوا بأفضلية أن تكون منتجًا على أن تكون مرتاحًا، منطقيًا قرّر ما مطلوب عمله وأنجز تلك الأشياء، أبق مشاعرك تحت المراقبة، واهتم بعملك، كن على وعي بالوقت وتجنب إضاعته. هنا يبدأُ دور العقل أي الفلسفة فلا تنفعك الوصفات الطبيبة في إنهاء حالة الرعب ومعالجة الشعور بالسأم من الترقب وتكرار المشاهد، فالإنسانَ هو الحيوان الوحيد الذي قد يشعرُ بالملل ولا يريد أن يكونَ على ما هو عليه، حسب تعبير ألبر كامو، كيف يكونَ ردُ الفعلِ إذا تطلبَ الموقف أن تفرض حجراً صحياً على نفسك ؟ طبعاً لا توجد عقاقير للتخلص من الملل، لذلك من الأفضل أن تتقبل قدرك - أن تكون حاضرًا – كما قال فيلسوف الرواقية سينيكا "كل المستقبل يكمن في اللايقين عِش اللحظة الفورية". الرواقيون كانوا ضد الانهماك في التفكير الذاتي، نحن نعيش في عصر الإلهاء والارتباك، ماهرون في تكرار العيش في الماضي وتعبئة أنفسنا للمستقبل، الرواقيون كانوا عنيدين في ضرورة التعامل مع الواقع في المكان والزمان الحاليين "ماذا سننجز لو تجوّلنا في الماضي أو ركّزنا على المستقبل؟".
إذن علينا أن تقتنعَ بمبدأ هيجل "كل ما يحدث في الواقع منطقي"، عطفاً على ماسبق، فإن فهمك للحياة يتعمقُ كلما شعرت بأنك تعيشُ في الخطر. يقولُ نيتشه "أنا أعرف الحياة معرفة جيدة لأني كنتُ على وشك فقدانها"، فكان المرضُ أول شيء هداه سواء السبيل، ويقاربُ نيتشه الأوبئة على نطاق أوسع، لافتاً بأنَّ أوروبا تدين بعظمته لدائه الذي لا يشفى وآلامه المتنوعة العديدة، فإن هذه الآلام والأخطار المتجددة بنظر نيتشه بمثابة قابلة للأفكار.
نبقى مع فيلسوف الريبة، إذ يؤكد سالومي بأنَّ المرض كان مصدر إبداعه وكل تعافٍ إحياء بهيج وتجديد لنشاطه العقلي. ومن جانبه وصف نيتشه هذه الحالة بـ "تذوق جديد" ماذا بجعبة الفلاسفة عن الموت، وقد عرف سقراط التفلسف بأنه استعداد للموت، مطالباً بأنَّ نواجه هذا المصير الحتمي مثلما نواجه الحياة. ويرى" أنكسمندريس" أن كل ما ينشأ يصيبه الفناء، وكل ما يولد جديرُ بالموت، ولولا الخوف من الموت لما كانت فلسفة ولا دين، على حد قول شوبنهاور.
إذن فإنَّ دور الفلسفة يتمثلُ في تهدئة المشاعر السلبية، ومنع تناسل الأهواء الحزينة، وحمايتك من الوقوع في منزلق الرعب والهلوسات، فالموت من منطلق الفلسفة دافعُ للتأمل والتفكير وإدراك الصراع بين الرغبة في البقاء والوعي بالنهاية.
أكبر إنجاز للرواقيين كان عيش الحياة الفاضلة بصرف النظر عن الظروف المحيطة، فالتصق بقيمك حتى عندما تكون التحديات كبيرة. الفلسفة لا تغير الحياة ولا تمنع وقوع الأحداث كما يقول أتباع المدرسة الرواقية، ولكنها تعطي معنى للحياة تبعث بداخلنا روح التأمل، تقدم لنا فهمًا وعقلًا واعيًأ يسيطر على مشاعر الرعب لتعود أحداث الحياة مقبولة وممتعة، لذا تصبح قراءة الفلسفة في الأزمات ضرورة ملحة لوضع الأحداث في سياق أزمات الزمن الكبرى، فالفلسفة ليست وسيلة للتعقيد والتشدق بألفاظ غير مفهومة، ولا يمكن لنا أن نتفلسف إلا ونحن متفائلين مبتسمين، كما يجب التعامل مع رعب كورونا باعتباره فرصة للتأمل وإنجاز الأشياء وإعادة النظر في نمط الحياة.
وأخيرًا، كن شاكرًا، وتجنّب التركيز على الأشياء التي تفتقر إليها، كن سعيدا بما لديك من نِعم، كن سعيدًا، فبغيابك الطبيعة الآن تتنفس.