لوحظ أن النهضات الحضارية الكبرى تحتاج إلى
تحاور إيجابى بين حضارات مختلفة حتى وإن حمل العبء الأكبر فى هذه النهضة جنس أو
شعب معين فى لحظة تاريخية محددة، فلم يكن بمستطاع العرب أن يحققوا النهضة التى
شهدها العصر العباسى الأول دون وجود هذا التحاور والتلاقح والتمازج بين مكونات
الحضارة العربية الناشئة والحضارات الأخرى مثل اليونانية والفارسية والهندية،
وكذلك حققت أوروبا نهضتها الحديثة عندما تفاعلت إيجابياً مع ميراث الحضارات
اليونانية واللاتينية والعربية.. وهذه الملاحظة المهمة قد تكون هى الإجابة
النهائية على سؤال: لماذا الإسكندرية ؟ لماذا هى بالذات كانت أول مدينة فى الشرق
تستقبل وتستلهم بل وتطور أحياناً نتائج الحضارة الأوروبية الحديثة.. إنها طبيعة
المدينة الجغرافية والديموجرافية التى جعلتها بوتقة لتمازج الأجناس والحضارات
المختلفة.
فقد
كانت الإسكندرية حتى أربعينيات القرن العشرين هى العاصمة الجقيقة لمصر، لأنها كانت
العاصمة الاقتصادية لها، بسبب وجود مينائها العريق الذى كانت تتم من خلاله معظم
عمليات الاستيراد والتصدير فى مصر، وعن طريق هذا الميناء أيضاً كانت الإسكندرية
أول بقعة فى مصر تستقبل الوافدين من جميع أنحاء العالم وبالذات من الغرب، وبسبب
الحركة الاقتصادية الفوارة كان كثيرون من هؤلاء الوافدين يقررون البقاء فى
الإسكندرية لمدد قد تطول حتى تستغرق العمر كله، مما أعطى للمدينة طابعها
الكوزموبوليتانى، وجعلها ذات طبيعة حية فوارة بالحياة إذ أصبحت أكثر المدن العربية
حضارة لاتصالها المباشر بأوروبا عن طريق البحر المتوسط.. ولنلاحظ هنا أن
الإسكندرية قد تكون هى المدينة الشرقية الوحيدة التى يمكن أن نقول عنها صادقين:
إنها مدينة الأولياء ، فهم فيها بالعشرات وأغلبهم من الوافدين وبالذات من المغرب
العربى والأندلس.. ويمكن أن نقول بنفس الدرجة من الصدق: إنها مدينة الأجانب، فقد
كانوا يسكنون فى أحياء كاملة ويديرون حياة اقتصادية وثقافية نشطة ومتشعبة.. لذلك
لا نستغرب أن يقدم لورنس داريل فى "رباعية الإسكندرية" صورة للمدينة
تختلف تماماً عن الصورة التى قدمها محمد جبريل فى "رباعية بحرى" التى
تختلف بدورها عن الصور الكثيرة التى قدمها أدباء آخرون مثل إبراهيم عبد المجيد
وإدوار الخراط ومصطفى نصر وسعيد بكر وغيرهم، كل هذه الصور صادقة تماماً من الزاوية
التى رأت الإسكندرية من خلالها، وفيها أيضاً قصور ما إذا علمنا أنها رأت
الإسكندرية من "زاوية"، فالإسكندرية أكبر وأعمق من أن ترى من زاوية مهما
كانت، فهى مدينة الألف وجه، والألف قلب، وأنا لا أستخدم رقم ألف هنا للعدد لأنه
بالتأكيد رقم قليل!!
لا
أظن أننا ابتعدنا كثيراً عن موضوعنا الرئيسى، لأن هذه المدينة، بهذه التركيبة، هى
التى كانت مهيأة لأن تشهد أول عرض سينمائى
فى الشرق مساء 5 نوفمبر سنة 1896 بإحدى
صالات بورصة طوسون باشا، وذلك بعد أول عرض سينمائى فى العالم الذى كان فى
28 ديسمبر سنة 1895 فى الجراند كافيه بباريس لفيلم "وصول القطار لمحطة
سنيوتا" للأخوة لوميير. وفى الإسكندرية تكونت أول شركة سينمائية أسسها
إيطاليون فى 30 أكتوبر سنة 1917باسم " الشركة السينمائية الإيطالية
المصرية" التى أنشأت أول استديو عرفته مصر، وهو الاستديو الذى عرف باسم "استديو
النزهة" الذى أقيم بجوار حديقة النزهة بالإسكندرية، وفى هذا الاستديو تم
إنتاج أفلام قصيرة لا تزيد مدتها عن 40 دقيقة مثل "شرف البدوى"
و"الأزهار المميتة" اللذين عرضا فى أواخر سنة 1918 بسينما سانت كلير
بالإسكندرية، وكان المخرج الكبير –فيما بعد- محمد كريم هو الشاب المصرى
الوحيد الذى شارك فى هذين الفيلمين.. وبعد فشل الفيلمين وتصفية الشركة اشترى
المصور الإيطالى "الفيزى أورفانللى" معظم معداتها وأنشأ استديو فى فيلا
بشارع القائد جوهر بالمنشية.. كما شهدت الإسكندرية ميلاد أول جريدة سينمائية عربية
على يد الرائد محمد بيومى وذلك بفيلم "عودة سعد زغلول من منفاه عام
1923" وهو أول فيلم مصرى قصير ينتج بأموال مصرية وكل العاملين فيه من
المصريين.. وكذلك شهدت الإسكندرية ميلاد أول معهد سينمائى فى مصر وهو "المعهد
المصرى للسينما" الذى أقامه محمد بيومى عام 1930، وكذلك أول جمعية سينمائية وهى
"جمعية مينا فيلم" التى تعاون بعض أعضائها، ومنهم الناقد السيد حسن
جمعة، مع الأخوين الفلسطينيين "بدر وإبراهيم لاما" فى إنشاء شركة
"كوندور" واستديو لاما فى صحراء فيكتوريا حيث تم فيه تصوير فيلم
"قبلة فى الصحراء" الذى عرض بدار سينما الكوزموجراف الأمريكانى
بالإسكندرية فى 5 مايو سنة 1927، وهو أول فيلم مصرى روائى طويل يتكون من سبعة
فصول.. وفى الإسكندرية أيضاً صنع الأخوان لاما فيلم "فاجعة فوق الهرم"
1928، و"معجزة الحب" 1930، قبل أن ينتقلا إلى القاهرة.. لقد كانت
الإسكندرية هى هوليود الشرق وبالذات فى الفترة من 1927 إلى 1932، إذ كان بها ثلاثة
استديوهات سينمائية بها معدات للطبع والتحميض، فى حين لم يكن فى القاهرة غير
استديو فى فيلا عزيزة أمير، وبلاتوه أقامه يوسف وهبى فى حديقة رمسيس، ومعمل وحيد
للطبع والتحميض.. وقد ارتبطت بالإسكندرية أسماء كثيرة لرواد حملوا على عاتقهم مهمة
إيجاد واستمرار فن وصناعة السينما فى مصر منهم محمد بيومى ومحمود خليل راشد وتوجو
مزراحى والأخوين لاما وفاطمة رشدى وبهيجة حافظ والسيد حسن جمعة وعشرات الأسماء
الأخرى.. وكان طبيعياً أن تصدر أول مجلة متخصصة فى السينما بالإسكندرية باسم
"سينيجراف جورنال" وكانت شهرية باللغة الفرنسية ومقر إدارتها بشارع
كليوباترا، وصدرت من أول أغسطس سنة 1919.. بل إن الريف السكندرى شهد أول سينما
صيفى ريفية فى مصر بدأت عملها حوالى سنة 1951 بعزبة خورشيد.
لا
أعرف هل أكتب بفخر أم بأسى.. بشعور من يمتلك المجد أم المفلس منه.. فالإسكندرية
التى شهدت منذ أكثر من قرن كل هذا النشاط أخذت تتراجع حتى أصبح الموهوبون فيها
يوقنون أن بقائهم بها يقتل موهبتهم، وليس عليهم لإثبات وجودهم إلا الهجرة إلى
القاهرة.. فما سر هذا التراجع أو أسراره ؟ وهل يمكن أن تعود الإسكندرية لما كانت
عليه عندما كان الاعتراف بالموهبة يبدأ من الإسكندرية ومن ينجح فيها يضمن النجاح فى
العالم العربى كله ؟ وكيف يحدث ذلك ؟.. أسئلة كثيرة حائرة يتداولها السكندريون
كثيراً فيما بينهم.. أما الإجابة أو الإجابات عليها فلها قصة أو قصص أخرى.
مراجع:
(الإسكندرية مهد السينما المصرية- مجموعة من الباحثين- الهيئة العامة لقصور
الثقافة 1995.- تاريخ السينما فى مصر- أحمد الحضرى- الجزء الأول- مجلة أمواج
سكندرية على الإنترنت وعنوانها www.amwague.com)
هذا الملف
بمحبة ونعومة استدرجني الأستاذ خالد ناجح رئيس تحرير مجلة الهلال العريقة
لأكون مسؤولًا عن إعداد ملف عن مدينتي المحبوبة؛ الإسكندرية. طلب مني أن أكتب
مقالًا، ثم طلب أن أعد له الملف، وهو يعلم أن صداقتي ومحبتي له ستمنعاني من
الاعتذار عن تنفيذ طلبه.
المشكلة أن من يعد ملفا عن الإسكندرية عليه أن يعتذر لآلاف إن لم يكن
ملايين من يحبون ويستحقون الحديث عن الإسكندرية سواء من أهلها أو من عشاقها في كل
مكان بالعالم.
ثم ما ماهية الملف المراد إعداده؟ هل هو عن تاريخ الإسكندرية أم جغرافيتها؟
أم آثارها؟ أم الفن التشكيليبها؟ أم السينما؟ أم المسرح؟ أم الأدب؟ وفي الأدب:
الشعر أم السرد؟ وفي الشعر: الفصيح أم العامي أم الزجل؟ وفي السرد: الرواية أم
القصة أم القصة القصيرة جدا؟ أم عن ذكريات الناس وحكاياتهم مع المدينة؟ أم.. أم..
أم؟؟؟
ولأننى أعرف أن هذه المشكلة لا حل لها، فقد توكلت على الله، وطلبت من بعض
الأصدقاء من أهل الإسكندرية (سكندريون وغير سكندريين يعيشون بالمدينة) أن يكتبوا
عن مدينتهم، ولم أحدد لهم وجهة محددة يكتبون فيها، اخترتهم من تخصصات مختلفة لأضمن
تنوعًا فيما يتناولونه، ولم يخذلوني.
فالكاتب والأثري د.حسين عبد البصير يتكامل مقاله مع مقال الفنان التشكيلي
ماهر جرجس ليقدما لنا صورة عن التاريخ الأثري للإسكندرية، وأهم معالمها الجمالية،
ثم يقدم لنا الإعلامي حسام عبد القادر مقالًا عن الكنيسة المرقصية التى تمثل
معلمًا جماليًا ودينيًا مرتبطًا بالكثير من الأحداث السياسية قديمًا وحديثًا،
يتضافر ذلك مع ما قدمه الشاعر الروائي أحمد فضل شبلول عن الفنان التشكيلي السكندري
الكبير محمود سعيد، ثم يأتى مقال الفنان التشكيلي د.وليد قانوش ليقدم علاقة شخصية
بالمدينة وصرخة لإعادة الجمال بها.
ثم يقدم الدكتور محمد رفيق خليل الشاعر والطبيب الجانب الإسلامي في
كوزومبوليتانية الإسكندرية، وهو جانب لا يتم الالتفات إليه كثيرًا عند الحديث عن
الإسكندرية الكوزمو.
ويستعرض الناقد والباحث السينمائي سامي حلمي استعراضا للرواد الذين جعلوا
من الإسكندرية مهدا للسينما بالإسكندرية.
وكما كانت الإسكندرية رائدة في مجال السينما فهى رائدة أيضا في الدراما
الإذاعية قدمت أعمالا عظيمة وأسماء كبيرة في التأليف والإخراج والتمثيل وهو ما
تشير إليه السيناريست والمخرجة فيفيان محمود في مداخلتها.
أما الشاعر والكاتب المسرحي ميسرة صلاح الدين فيكتب عن حالة المسرح
السكندري الآن في ظل أشكال جديدة من التلقي والتفاعل مع الجمهور.
ويقدم الإعلامي الشاب أحمد عصمت ما يشير إلى الريادة المستمرة للإسكندرية
وبالذات في جانب الإعلام الرقمي والتى كانت الإسكندرية واحدة من المدن السباقة في
استخدامه في الوطن العربي وليس مصر وحدها.
وتقدم الباحثة د.شيرين جابر مقالا عن جامعة الإسكندرية منذ افتتاحها باسم
جامعة فاروق الأول حتى الآن.
وتقدم الأديبة والنقادة دينا نبيل اكتشافا أدبيا لكتاب لأديب يوناني ولد
وعاش في الإسكندرية ثم هاجر منها لم يترجم إلى اللغة العربية بعد، وتواصلت دينا
نبيل مع الكاتب اليوناني وحصلت منه على صور تنشر لأول مرة، وكان هذا التواصل
بواسطة المترجمة غادة جاد التى ترجمت عملين لهذا الكاتب.
أما مقالات الشاعرين أيمن صادق وجابر بسيوني والأديب شريف عابدين فهى تقدم
نماذج من مبدعي المدينة من أجيال مختلفة في الشعر والسرد، تقدم إدوار الخراط وعبد
العليم القباني وحسام قبردي وعمرو التركي وتامر عمرو. في الوقت الذى يقدم فيه
الباحث محمد سيد ريان استعادة للقطة ثقافية مهمة على شاطئ الإسكندرية.
وملف عن الإسكندرية يجب ألا يخلو من مقالات من غير سكندريين لكنهم يعيشون
في المدينة كأبنائها، فكتب لنا الشاعر العراقي عذاب الركابي والأديب السوري أدهم
مسعود القاق، عن علاقة كل منهما بالإسكندرية.
أما الأديب مصطفي نصر فكتب عن جانب منسي في تاريخ المدينة وهو الجريمة
وأشهر السفاحين في تاريخ الإسكندرية الحديث من ريا وسكينة إلى محمود أمين سليمان
بطل رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ.
في حين تقدم مقالات الروائي أحمد الملواني والشاعران عبد الرحيم يوسف
وشهدان الغرباوي وجهات عديدة لعلاقات خاصة بالمدينة قد يجد القارئ نفسه في إحداها.
أستطيع أن أكتب هنا عدة صفحات أخرى فيما لم يتناوله الملف وكان من المهم أن
يتناوله، لكن اعتبارات المساحة وإمكانات الجهد البشرى لن تستطيع أن تقدم لمدينتنا
الحبيبة (كل ما تستحق) فنكتفى دائما بإهدائها القليل مما نقدر عليه مع الكثير جدا
من المحبة.