الأحد 2 يونيو 2024

سيد درويش.. الثائر الموسيقى الأعظم

فن22-10-2020 | 09:36

كل المجددين الذين أتوا بعده هم – فى واقع الحال – امتداد له أو قبس من فنه

نعم ظهر سيد درويش فى وقت كان فيه كل شىء فى مصر قابلا للتغيير لكن يكفيه أنه كان البادئ بالسباحة ضد التيار

صادق فى الإسكندرية أبناء الجاليات الأجنبية وخبر فنونهم وأذواقهم فانعكس ذلك على موسيقاه فيما بعد

نزع عن الموسيقى الشرقية ارستقراطيتها وحررها من قيود الصنعة العثمانية

اعتمد على التصوير الموسيقى فى أعماله المسرحية وأحسن من الاستخدام الدرامى للموسيقى

وصفه العقاد بأنه صاحب الفضل فى إدخال عنصرى الحياة والبساطة فى التلحين والغناء

ليس هناك فى تاريخ الموسيقى العربية من هو أطول قامة وأبقى أثرا من فنان الشعب ابن الإسكندرية الموسيقار خالد الذكر سيد درويش رغم كل محاولات تلميذه النجيب محمد عبد الوهاب وشيعته فى بعض الأوقات النيل من تلك المكانة , فسيد درويش المولود بحى كوم الدكة بالإسكندرية فى السابع عشر من مارس 1892 هو صاحب الثورة الموسيقية الأبرز التى وضعت حدا فاصلا بين الموسيقى الكلاسيكية العثمانية بكل ما بها من زخارف الصنعة وقيود القوالب الجامدة وبين روح العصر ومقتضياته التى قادت فن الموسيقى – مبدعين ومتلقين – إلى اللحاق بركب الحياة فى القرن العشرين , وكل الذين أتوا بعده من المجددين خلال المائة عام الماضية  أمثال عبد الوهاب والقصبجى ومدحت عاصم ومحمد فوزى وبليغ حمدى وعمار الشريعى هم فى واقع الحال – شاءوا أم أبوا اعترفوا أم كابروا – امتداد له أو قبس من فنه أو بعض منه على أبسط تقدير , ولو لم يحدث ابن الإسكندرية هذا التأثير الهائل فى موسيقانا الشرقية ربما لم يكن هؤلاء قد استطاعوا تقديم فنهم أو على الأقل وجدوا عنتا فى الوصول بفنهم إلى الناس.

وربما يتصور البعض أن نجاح سيد درويش فى تحقيق نقلته الموسيقية رغم ركام عقود الحكم العثمانى لمصر يعنى أن أحدا كان من الممكن أن يأتى بعده ويحدث الأثر ذاته فى موسيقانا , وهذا التصور صحيح من الناحية النظرية , لكن ينبغى الانتباه إلى أن الرجل جاء فى ظروف بالغة الاختلاف كان فيها المجتمع المصرى كله فى حالة فوران ثورى , وكل شىء فيه قابلا للتغيير , وهى ظروف مواتية للخروج على المألوف طالما توافرت العقلية صاحبة المشروع الواضح لتحقيق هذه الثورة , ويكفيه أنه كان البادئ بالسباحة ضد التيار , وعليه فإن مناخا مناسبا كهذا ربما لم يكن يتوفر على ذلك  النحو لمن أتوا من بعد سيد درويش , فإذا تأملنا ولو حتى فى عجالة هذا المناخ الذى تهيأ فى رحاب ثورة 1919 – إرهاصاتها وأحداثها وتوابعها - لوجدنا أن النقلات المصرية الهامة على كل المستويات هى ابنة هذه المرحلة , فسياسياً كانت الحرب العالمية الأولي تضع أوزارها , وحالة الغليان الشعبي ضد الاحتلال البريطاني لمصر تنبئ بثورة عارمة تحققت بالفعل في العام التالي مباشرة تحت قيادة الزعيم الوطني سعد زغلول ( 1860- 1927 )   وما ترتب عليها من حصول مصر علي استقلالها حتي ولو كان صورياً متمثلا فى  تصريح 28 فبراير 1922 , ودخولها الحياة البرلمانية بصدور دستور 1923 , وعلى المستوى الاقتصادى كانت هناك نخبة من المصريين الوطنيين علي رأسهم طلعت حرب ( 1876 – 1957 ) توشك أن تصبح كيانا اقتصاديا ملموسا يرفع شعار"  مصر للمصريين " ربما منذ صدور كتابه المهم " علاج مصر الاقتصادى " عام 1910 , ثم تأسيس بنك مصر وكل روافده منذ عام 1920 , أما اجتماعيا فكانت دعوة قاسم أمين ( 1863 –  1908 )  ورفاقه لتحرير المرأة قد وجدت صداها عند مجموعة من سيدات مصر في مقدمتهن السيدة هدى  شعراوى  , كذلك فإن الوازع الوطني وتأجج مشاعر العداء ضد الاحتلال جعل عنصري الأمة مسلمين وأقباطاً أكثر انصهارا مما ترتب عليه خفوت العامل الديني في العلاقات الاجتماعية بين المصريين  بل وحتى  مع اليهود باعتبارهم العنصر الثالث فى المجتمع قبل أن تغيبهم عن المشهد المصرى نكبة 1948 فى فلسطين .

وحتى علميا كانت هذه الفترة هى التى شهدت إيفاد العالم الرائد على مصطفى مشرفة ( 1898 – 1950 )  إلى أوروبا لاستكمال دراساته العليا والتى عاد منها سنة 1923 حاملا درجة الدكتوراه لتبدأ مرحلة مهمة من مراحل النهضة العلمية فى مصر .

وعلي المستويين الأدبي والفكري كان أمير الشعراء  أحمد شوقي ( 1870 – 1932 ) العائد من منفاه في برشلونة سنة 1919 قد انحاز تماما إلى جانب العامة بعد أن كان من قبل يعرف بشاعر الأمراء ,  ايضا كان عباس محمود العقاد ( 1889 – 1964 )  وطه حسين  (1889 - 1973)  ومن قبلهما أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد  ( 1872 – 1963 ) قد شقوا للعقلية المصرية طريقا نحو حضارة القرن العشرين , إما فنيا فقد انعكست هذه التطورات كلها علي حركتي المسرح والموسيقي بالذات , فانتعش المسرح الفكاهى على يد كل من نجيب الريحانى ( 1890 – 1949 )  وعلى الكسار ( 1887 – 1957 ) , والسرح التراجيدى بفضل جهود جورج أبيض ( 1880 – 1959 ) وعبد الرحمن رشدى ( 1881 – 1939 ) وعزيز عيد ( 1884 - 1942  ) , ثم يوسف وهبى ( 1898 – 1982 ) بإنشائه فرقة رمسيس عام 1923 كذلك ازدهر المسرح الغنائي علي يد الشيخ سلامة حجازي ( 1852 – 1917 ) ومن بعده منيرة المهدية ( 1885 – 1967 )  التي كانت أول فتاة مصرية تقف علي خشبة المسرح بعد أن كان ذلك - ولأسباب اجتماعية - حكراً علي المتمصرات فقط , فإذا ما جاء سيد دوريش بذائقته الموسيقية المختلفة ومشروعه الفنى الثورى وجد الأرض ممهدة ليحدث نقلته الموسيقية المهمة بتشجيع ودعم من نجيب الريحانى بداية من عام 1917 وحتي وفاته عام 1923 تلك النقلة التي حررت الموسيقى الشرقية من ارستقراطيتها النغمية , ونزعت عن الغناء العربي ثوب الصنعة العثمانية , فأصبح أكثر قدرة علي التعبير ومجاراة إيقاع العصر .

عاش سيد درويش إذن واحدا وثلاثين عاما بين مولده سنة 1892 ورحيله عام 1923 كانت من أكثر الفترات تقلبا وتحولا فى تاريخ مصر الحديث , واستفاد الرجل من تلك التطورات جميعها ما انعكس على الموسيقى التى أبدعها , فقد أبصر درويش الحياة مع تولى الخديو عباس حلمى الحكم فى ظل أزمة كبرى عرفت فى التاريخ بأزمة "الفرمان" التى كادت أن تقتطع من مصر نصف سيناء لولا تدخل المعتمد البريطانى فى مصر لورد كرومر , وانتهت حياته عشية عودة زعيم الأمة سعد زغلول من منفاه وصدور دستور 1923 الذى أصبح بمقتضاه رئيسا للوزراء , وبين التاريخين زاد النفوذ الأجنبى فى مصر وتتابعت الأزمات بين القصر ودار المعتمد البريطانى قبل إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914 , وعليه زاد عدد الأجانب وتوالت الهجرات إلي مصر من يونانيين وأروام وشوام , وارتفع عدد البارات والخمارات وخاصة فى الإسكندرية مسقط رأس سيد درويش , وعمد الإنجليز إلى تقليص عدد المدارس الرسمية والابقاء فقط على الكتاتيب والتعليم الدينى فى الأزهر الشريف , فى ظل هذه الأجواء تلقى الفتى الصغير تعليمه الأولى فى كتاب كوم الدكة , ثم انتقل إلى المعهد الأزهرى حتى أصبح شيخا معمما , أيضا صادق الجاليات الأجنبية فى الإسكندرية وحفظ موسيقاها , فانسحب هذا كله على كثير من ألحانه اللاحقة من أول " اقرأ يا سى قفاعة " وحتى " الجرسونات " والأروام " وغيرهما , وفى ظل سيادة الدولة العثمانية حتى ولو صوريا على مصر والشام استطاع سيد درويش القيام برحلتيه إلى سوريا ولبنان دون قيود مع فرقة أمين عطا الله المسرحية وتتلمذ على يد بعض اساطين الموسيقى هناك مثل صالح الجذية وعلى الدرويش وعثمان الموصلى فزاده ذلك قدرة على الحفاظ على أصالته الموسيقية رغم جنوحه إلى التجديد مثلما بدا واضحا فى أعمال مثل " يا بهجة الروح " أنا هويت " و"ضيعت مستقبل حياتى " .

 على جانب آخر ومع اشتغال سيد درويش فى طائفة البناءين فى ظل تنامى طبقة الحرفيين التى تخدم الاستعمار الإنجليزى والمستفيدين منه عرف الصبى مبكرا أغانى هؤلاء الحرفيين وإيقاعاتها واستطاع أن يطوع ذلك فى أعمال بقيت خالدة حتى اليوم مثل : يعوض الله , الحلوة دى , القلل القناوى , وغيرها .

أما عن الوازع الوطنى فحدث ولا حرج وخاصة مع إعلان الحماية البريطانية على مصر وعزل عباس حلمى سنة 1914 وإعلان الأحكام العرفية وتضييق الحريات وتحمل مصر كلفة الحرب العالمية الأولى دون أن يكون لها ناقة فيها ولا جمل , الأمر الذى أجج الإحساس بضرورة الخروج إلى الشارع رجالا ونساء بعنصرى الأمة مسلمين وأقباطا للمطالبة بالاستقلال تأييدا لموقف وفد سعد زغلول ورفاقه , فكانت ثرة 1919 والأحداث التى تلتها انتهاء بوفاة سيد درويش والشبهات التى حامت حولها وتولى سعد زغلول الوزارة فى كنف دستور جديد هو دستور 1923 , وهذه السنوات تحديدا هى التى شهدت درر سيد درويش الوطنية : بلادى بلادى , أنا المصرى , قوم يا مصرى , أهو ده اللى صار بكل ما فيها من استنهاض للهمم وإزكاء للروح الوطنية والتنبيه بخطورة الاحتلال ومحاربة الطائفية , أضف إلى ذلك نجاحه مع بديع خيرى تحديدا ومن إنتاج نجيب الريحانى فى تطويع أغانى الأعمال المسرحية لخدمة القضية الوطنية على نحو لم تكن الدراما المسرحية قد عرفته من قبل .

 وهذا يقودنا للتوقف أمام ما أحدثه سيد درويش من تجديد , فمسرحيا ارتقى بفن الأوبريت بعد الدور البارز الذى كان قام به الشيخ سلامة حجازى فى هذا المجال , ويكفيه العشرة الطيبة والبروكة وكليوباترا ومارك أنطوني الذى أكمله من بعده تلميذه محمد عبد الوهاب , فقد اعتمد على التصوير الموسيقى كما فى أغنيات الطوائف : العربجية والسقايين والممرضين وغيرها , وأحسن من الاستخدام الدرامى والحوارات الغنائية كما فى أغنية " الشيطان " فى مسرحية البروكة , وأغنية " اتمخطرى يا عروسة " فى " العشرة الطيبة , وهذه المواصفات كان يفتقدها المسرح الغنائى قبل الشيخ سيد درويش .

وربما لم يجدد سيد درويش كثيرا فى شكل الدور كقالب غنائى لكن يحسب له تنوع مقاماته الموسيقية واستحداث استخدام بعضها بصورة لم تكن سائدة قبله , وتحرر إيقاعاته نسبيا من رتابتها , أما الطقاطيق والموشحات والقصائد والديالوجات والمواويل والأناشيد الوطنية الحماسية فقد أبدع درويش فى صياغتها والسير بها نحو الأداء التعبيرى الذى يناسب المعنى دون الارتكان إلى التطريب العثمانلى المعتاد فى ذلك الوقت مع استخدام بعض الإيقاعات الجديدة كالمارش على سبيل المثال , ووفق جامعى تراث فنان الشعب ودارسى موسيقاه فقد قدم الرجل واحدا وثلاثين عملا مسرحيا ضمت ما يقرب من مائتى وأربعين أغنية بخلاف أعماله الغنائية المنفردة , ولا يجب إغفال ما لوحظ على بعض ألحان سيد درويش من إدخال الصياغة البوليفونية ( تعدد الأصوات اللحنية ) ما يعنى أن رغبة سيد درويش فى التجديد لم لتتوقف عند هذا الحد العظيم الذى تركه , وهو ما يتجلى مثلا فى " دقت طبول الحرب " من رواية " شهر زاد " و" ليه يا قلبى وعقلى " من رواية " البروكة " كما اعتمد على التدوين الموسيقى لأعماله وهو ما حفظ لنا بعضا من تراثه الموسيقى.

والشىء المدهش أن كل هذا الإرث العظيم والعطاء المبهر أنجزه فنان الشعب فى ست سنوات تقريبا بين عامى 1917 حين قرر ترك الإسكندرية والاستقرار نهائيا فى القاهرة وبين رحيله المفاجئ عام 1923 عشية عودة الزعيم سعد زغلول من الخارج وكأن الرجل كان يدرك دنو أجله فراح يفيض من عبقريته ما يعجز أن يقوم به غيره فى عشرات السنين , وربما هذا الذى دعا الأديب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد لأن يكتب بعد عامين من رحيل سيد درويش منتقدا حالة الإهمال التى لازمت فنان الشعب فى حياته وطوال عامي رحيله من جانب الحكومة المصرية فى ذلك الوقت بينما الصيت والاهتمام لأشخاص يأخذون الفن وينزلون به إلى أسفل حيث يقول :

لو كان سيد درويش من أحاد هذه الفئة لما ليم كبير ولا صغير على إهماله , ولما لحق هذه الأمة ضير من غفلتها عن تثمين مكانته وتكميل شوطه , ولكنه رأس طائفة لم يتقدمها متقدم , وطليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الموسيقى المصرية , ولا أحاشى أحدا ممن اتصل بنا نبأهم فى العصر الأخير .. فضل سيد درويش – وهو أكبر ما يذكر للفنان الناهض من الفضل – أنه أدخل عنصرى الحياة والبساطة فى التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مثقلا كجميع الفنون الأخرى بأوقار من أسجاعه وأوضاعه وتقاليده وبديعياته وجناساته التى لا صلة بينها وبين الحياة , فجاء هذا النابغة الملهم فناسب بين الألفاظ والمعانى وناسب بين المعانى والألحان وناسب بين الألحان والحالات النفسية التى تعبر عنها ..."

نعم لقد كان سيد درويش – كما قال العقاد – طليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الموسيقى المصرية , كان ابن الإسكندرية ثائرا كبحرها , هادرا كموجها , ولذلك سيبقى إلى الأبد أثر سيد درويش البحر ما بقى فى الإسكندرية البحر .