الجمعة 27 سبتمبر 2024

بين الملكية والجمهورية

فن22-10-2020 | 09:55

ما من حضارة ظهرت في حوض البحر المتوسط أو امتدت جذورها إليه إلا تردد صداها بين أرجاء مدينة الإسكندرية، بل لقد كانت في أكثر عصورها مركز العلم ومنار العرفان والتنوير، فما إن فقدت شيئًا في عصر إلا استعاضت عنه بغيره.

اشتد الإقبال على التعليم الجامعي كنتيجة لنهضة مصر الحديثة فأصبحت جامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة" لا تتسع لقبول الطلبة الذين أخذ عددهم في الازدياد ؛ فقرر مجلس هذه الجامعة بجلستيه المنعقدتين في 24 و 31 مايو عام 1938، إنشاء فرعين بالإسكندرية لكليتي الحقوق والآداب، وصادق مجلس الوزراء على ذلك بجلسته المنعقدة في 6 أغسطس 1938 ؛ وفي العام الجامعي 1941-1942، أنشئ أيضًا فرع لكلية الهندسة في الإسكندرية.

كانت هذه الفروع الثلاثة نواة لجامعة فاروق الأول بالإسكندرية، وفي 2 أغسطس 1942، صدر القانون رقم 32 لسنة 1942، منظمًا للجامعة بكلياتها السبع وهي: الآداب، الحقوق، الطب،العلوم،الهندسة، الزراعة، التجارة؛ واتخذت جامعة الإسكندرية شعارها الذي يصور منارة الإسكندرية في العصر اليوناني.

 نشأت جامعة فاروق الأول أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان طلاب الجامعة يعبرون عن ضمير ونبض مصر السياسي، فلعبوا دورًا فعالا في مواجهة الاحتلال البريطاني، ففي 9 فبراير 1946، اجتمع طلاب جامعة فاروق الأول بمدرج كلية الحقوق، وخرجوا للتظاهر وانضم لهم بعض طلاب المدارس والمعاهد الدينية، واصطدم بهم البوليس في شارع محطة الرمل، ما أسفر عن إصابة ثلاثة من الطلبة واعتقال 31 طالبا، وتم إرسالهم إلى قسم العطارين، وأرسل الطلبة الباقون برقية احتجاج لرئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي منددين بما حدث لزملائهم.

وفي 12 فبراير 1946، خرجت مظاهرة من جامعة فاروق الأول وانضم إليها عمال المصانع، وارتفعت الهتافات المنددة بالاستعمار، وصدرت الأوامر لقوات البوليس بالتصدي للمظاهرة بكل حزم، وانطلقت الرصاصات، وبدأ سقوط الضحايا من المتظاهرين.

وفي أوائل مايو 1946، حاول طلاب جامعة فاروق الأول التظاهر حول مبنى الجامعة في محرم بك ولكن تصدى لهم البوليس، فتحصنوا في مبنى كلية العلوم، وأطلق بعض الطلبة الرصاص؛ فقُتل أحد الضباط، وتم محاصرة الجامعة بالطلبة وأعضاء هيئة التدريس، وتقرر إغلاقها، ولم تستأنف الدراسة إلا في منتصف شهر مايو بالنسبة لطلبة السنوات النهائية، وتم فصل ستين طالبًا من مختلف الكليات بسبب اشتراكهم في المظاهرات.

في أواخر عام 1951، بدأت الأعمال الفدائية ضد القوات البريطانية في منطقة القناة وقدمت جامعة فاروق الأول، أول شهدائها في معركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز في مدن القناة، عندما استشهد طالب كلية التجارة عباس سليمان الأعسر في 9 يناير 1952.

ومن ثم، يمكن القول إن الطلاب في جامعة فاروق الأول لعبوا دورًا كبيرًا في الحركة الوطنية المصرية، واستمر الطلاب وأعضاء هيئة التدريس يعبرون عن الضمير الوطني المصري طيلة السنوات التي سبقت ثورة 23 يوليو 1952، وظلت جامعة الإسكندرية تحمل اسم "جامعة فاروق الأول" عشر سنوات، وبعد قيام ثورة يوليو 1952، أصدر مجلس الوصاية علي العرش المرسوم بقانون رقم 200 في 17 سبتمبر 1952، وتنص مادته الثانية على أن يطلق على جامعة فاروق الأول اسم "جامعة الإسكندرية".

رحبت جامعة فاروق الأول بثورة 23 يوليو 1952، وأعلنت تأييدها لها؛ حيث اجتمع مجلس الجامعة وتم إرسال برقية تأييد للجيش في اليوم التالي للثورة، وأعرب الرئيس جمال عبد الناصر عن بالغ شكره لتأييد جامعة الإسكندرية لثورة يوليو أثناء زيارته للجامعة في 1954 قائلاً: "وأذكر مساء 23 يوليو بالذات حينما تلقيت أول تأييد من جامعة الإسكندرية، اعتبرت أنها البداية التي سيتلوها اندفاع شعبي كبير، وأنتم تقدرون أن أهم حدث في هذه الأحداث البداية، وما يتبع ذلك يكون تابعًا للبداية، فحينما وصل تأييد جامعة الإسكندرية شعرت باطمئنان قلبي كبير".

في عام 1956، استعدت جامعة الإسكندرية لمواجهة العدوان الثلاثي بإنشاء لواء الجامعة، وشارك أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا ضباط احتياط في تدريب الطلبة، وكانوا على أُهْبة الاستعداد خاصةً بعد تواتر الأنباء عن احتمال إنزال ضفادع بشرية أو مظلات على سواحل الإسكندرية.

بعد وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970 تولى محمد أنور السادات الحكم، وأرسلت جامعة الإسكندرية برقية تهنئة للرئيس السادات. وبدأ ظهور التذمر الطلابي في الجامعات المصرية تجاه الرئيس السادات منذ عام 1971، بسبب حالة عدم الحرب، وعمل السادات على تهدئة الطلاب فزار جامعة الإسكندرية في 3 أبريل 1972، للقاء الطلاب وكان رد الطلاب أن كتبوا بدمائهم نحن فداء مصر ونريد الحرب.

سرعان ما تغيرت ملامح الصورة الحزينة للحياة السياسية في مصر بعد حرب 1973، وشارك شباب الجامعة في تحقيق نصر أكتوبر، وهكذا لم يتقاعس شباب الجامعة عن أداء واجبهم نحو وطنهم، كما لعب الطلاب دورًا أساسيًا في تشجيع الحركة الديمقراطية للقوى الاجتماعية الأخرى.

ومع اغتيال الرئيس السادات، وتولي الرئيس محمد حسني مبارك في عام 1981، ساهمت جامعة الإسكندرية في تخطيط وتنفيذ السياسات التنموية، والتصدي للمشكلات المجتمعية، كما ساهمت الجامعة في إعداد البحوث والدراسات العلمية التي تخدم المجتمع.

فضلا عن ذلك، شارك الطلاب بجامعة الإسكندرية في الكثير من الأحداث السياسية في مصر والوطن العربي مثل اشتراكهم في مظاهرات حاشدة تأييدًا للانتفاضة الفلسطينية الأولي عام 1987، والثانية عام 2000، وخروجهم في مظاهرات حاشدة معترضين على اشتراك مصر في حرب الخليج الثانية، وفي عام 2003، خرجوا للتنديد بالموقف المصري من الغزو الأمريكي للعراق.

ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، شهدت جامعة الإسكندرية تحركات واسعة النطاق للمطالبة باستقلال الجامعة وتطهيرها من القيادات التابعة للنظام السابق، وأصدر مجلس الجامعة بيانًا إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد تأكيده على الحفاظ على مكاسب الثورة.

ومع تطور الأحداث انطلقت مسيرات وطنية من أمام مبنى إدارة جامعة الإسكندرية في الشاطبي قبل 30 يونيو 2013، واستمرت بعدها حتى جمعة التفويض، وقاد هذه المسيرات مجموعة من عمداء الجامعة وأعضاء هيئة التدريس مرتدين أرواب الجامعة بالإضافة إلى الموظفين والعاملين في الجامعة، وكانت تنطلق هذه التحركات من أمام مبني الإدارة وتنطلق إلى ساحة مسجد القائد إبراهيم ثم تسير في شارع بورسعيد حتى سيدي جابر، في وسط هتافات تشجيعية واسعة النطاق.

وإلى يومنا هذا تقوم جامعة الإسكندرية بدورها التنويري والوطني لخدمة الوطن على كل المستويات العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.