الإثنين 2 سبتمبر 2024

ما زال البحر باقيا.. "قراءة في المشهد المسرحي السكندري"

فن22-10-2020 | 09:59

هل ما زال المسرح يحتل مكانته المميزة فى جسد الفن أم أنه تراجع بفعل ظهور وتطور غيره من الفنون البصرية كالسينما والفيديو  سؤال يطرح نفسه بقوة ويعبر عن العديد من المخاوف وخصوصا مع ظهور أشكال أخرى من الوسائط التفاعلية المتعددة التى  تستطيع بسهولة أن تصل للمتلقى بدون أن يبذل جهد أو حتى يبرح مكانه.

فقد ظهرت أشكال فنية جديدة وظهرت معها مصطلحات جديدة مثل mixed media ، multi media  وغيرها من الطرق والتقنيات فى العروض التى تعتمد على تداخل الفنون السمعية والبصرية بطرق وأشكال متعددة بما يهدف لأن تكون بالغة التأثير وسهلة الانتشار  والوصول للشريحة المستهدفة بأقصر الطرق وأسرعها .

ولكن لإجابة ذلك السؤال يجب أن نعيد تعريف كلمه تفاعلية inter action  التى تعتبر المفتاح السحرى لكل التقنيات الحديثة فى التواصل والإعلام والفن الحديث وكلمة تفاعلية تعنى القدرة على التفاعل بين الجمهور والعمل المعروض عليه وكذلك تعنى من منظور آخر قدرة العمل الفنى فى التفاعل مع الجمهور وطرح نفسه بشكل مختلف مع تغير الجمهور الذى يتفاعل معه ويمكن بالنظر من تلك الزاوية أن نقترح رؤية أخرى قائمة على أن يعيد العمل تشكيل نفسه عند التفاعل مع نفس المتلقى فى كل مرة يتم فيها العرض

ولعل تلك الرؤى التفاعلية العديدة تطرح نفسها بشكل ظاهرى كعدو مباشر يقع على طرف النقيض من فن المسرح التقليدى القديم الراسخ الذى كان مؤسسا لغيره من الفنون التى ظهرت بعده

إلا أنها طرحت أيضا إجابة مفاجئة لم تكن فى الحسبان فالمسرح هذا الشكل الفنى القديم قدم التاريخ والذى صاحب الإنسان ووثق رحلته ورصد مشاعره وأحلامه وأفكاره وذلاته هو فن شديد التفاعليه شديد الخصوبة قائم على العرض المباشر بالشكل الذى يتيح للجمهور أن يشعر ويتفاعل بشكل لحظى مع المؤدين ويتيح كذلك للمؤدين أن يشعروا بنبض الجمهور ويعدلوا بشكل أو آخر من أدائهم بما يعدل من سير الحدث الرئيسى ويؤثر عليه فى بعض الأحيان ولعل مشاهدة النص المسرحى الواحد بمؤدين مختلفين أو برؤية إخراجية مختلفة تتيح هذا القدر من التنوع والتفاعل الغير محدود.

ويمكن أن نضيف أن رؤية النص العرض المسرحى الواحد بدون تغيير أى من عناصره الأساسية فى ليلتين عرض مختلف يخلق شعور مختلف وربما إحساس وتفاعل مختلف بناء على حالة المتلقى النفسية وحالة المؤدى نفسه التى قد تختلف من عرض لآخر ومن ليلة لأخرى وهو شكل عبقرى من التفاعل لا يمكن الحصول عليه فى أشكال الفن التى تعتبر أحدث من المسرح ناهيك عن ذكر مسرح الشارع ومسرح المقهورين وغيرها من أشكال المسرح القائمة فعلا على التفاعلية الكاملة والمباشرة التى تصل لدرجة التلامس بين المؤدى والجمهور.

وبنقل تلك الرؤية للمسرح السكندرى المعاصر وجدنا أن المسرح السكندرى قد طور نفسه ليتماس ويتفاعل مع الجمهور من خلال رؤى وأفكار جديدة أدت لأن يصبح مطروح على الساحة المسرحية السكندرية أشكال من العروض المسرحية شديدة الاختلاف والتباين 

يمكن تقسيم تلك الأشكال المسرحية لثلاثة أنماط رئيسية ويقبع تحت كل نمط منها تقسيمات أخرى فرعية قد لا تهمنا بشكل مؤقت وإن كانت بالتأكيد تحتاج لدراسة وتدقيق أكبر.

ويقع النمط الأول فى المساحة الرسمية التى ترعاها الدولة ويمثلها البيت الفنى للمسرح الذى يقدم عروضه بشكل رئيسى فى مسرح بيرم التونسى العريق ويأتى فى تلك الشريحة عروض المسرح التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن مهرجانات نوادى المسرح وعروض الشرائح وعروض التجارب النوعية وتتسم تلك الشريحة أنها تقدم عروض برعاية وزارة الثقافة المصرية وتحت إشرافها تتسم بالجدية ويغلب عليها إعادة تقديم مسرحيات عالمية برؤى وإعداد جديد عن طريق مجموعة من المخريجن الشبان والمخرجين المخضرمين الذين شكلوا الوعى المسرحى السكندرى وقد تخرج من تلك المدرسة الهامة العديد من المبدعين الذين نالوا قدر وافر من الشهرة كالفنان أحمد رزق والفنان شريف الدسوقى والمبدعة عارفة عبد الرسول وغيرهم الكثير وإن لم تكن تلك السمات تنطبق على كل العروض الخاصة بتلك الفئة إلا أنها هى السمات الغالبة.

  كما تتميز تلك الفئة بالتسابقية فى كثير من الأحيان ويحصل مبدعوها على جوائز وتكريمات طبقا لمعايير مختلفة ويمكن ضم  مهرجان مسرح بلا إنتاج ومهرجان الحرية المسرحى لتلك الفئة نظرا لتأثيرهم الكبير فى المشهد المسرحى بالإسكندرية.

 وتأتى بعد ذلك الفئة الثانية وهى فئة المسرح المستقل والعروض الخاصة التى تفضل التعاون مع المسارح التابعة للمراكز الثقافية الأجنبة وتعمل وفق خطط تتسم فى كثير من الأحيان بالجرأة والانفتاح على تجارب غربية ورؤى جديدة غير نمطية ولتلك الفرق أيضا مهرجاناتها التى نشأت لتمثل ذلك الاتجاه وتعبر عنه مثل مهرجان الشوارع الخلفية والبرفورجية على سبيل المثال وليس الحصر

ويجب أن نلاحظ أن بعض المبدعين يعملون بشكل أو بآخر فى بعض الأحيان برعاية وزارة الثقافة المصرية وفى أحيان أخرى بشكل مستقل أو بدعم من مؤسسات ثقافية خاصة ومراكز ثقافية أجنبية مما يقلص الحدود بين النمطين السابقين وإن كان لا يلغيها ولا يؤثر على خصوصيتها بشكل كامل.

ولا يتبقى أمامنا إلا النوع الثالث وهو أكثر الأنواع سيولة وتدفق ويتصدر له فرق مسرحية ناشئة أغلبها من الهواة الذين يحملون رغبة قوية بتقديم شكل مسرحى خاص بهم وهى التجارب التى تقوم على مجموعة من الشباب الذين يتعاونون لإنتاج نص مسرحى ماديا وأدبيا وفنيا ثم تقديمه على أحد المسارح الخاصة المطروحة غالبا للإيجار كمسرح عبد المنعم جابر أو جمعية الواى أو تياترو النيل وهى تجربة تجتذب شريحة أخرى من الجمهور وتقدم  شكل مختلف من المسرح قد لا يرضى الكثيرين.

وبالطبع لا يمكن أن نغفل تاريخ المسرح التجارى السكندرى الحافل  والمسارح الصيفية العامرة بالنجوم والجماهير وهى التجربة التى  انحصرت بشكل كبير كما تهدمت أهم المسارح التى كانت تقدمها كمسرح السلام ومسرح العبد ولونابارك وغيرها.

ويمكن بذلك الرصد البسيط أن ندرك أن مدينة الإسكندرية تشهد حركة مسرحية قوية ومتنوعة وأن المسرح السكندرى قادر على المنافسه والتفاعل والاستمرار مع كل الطرق الجديدة وأشكال الفن المختلفة بمنتهى الجاذبية والاقتدار تماما كالبحر الذى يواجه كل أشكال العبث والتعدى ولكنه ما زال باقيا.