الأربعاء 5 يونيو 2024

الإسكندرية علامة إبداعية في التاريخ الروائي

فن22-10-2020 | 10:37

الشاعر الإسكندرية الكبير قسطنطين كفافيس، أو كونستانتينوس بترو كفافيس، المصري اليوناني قال في قصيدته الشهيرة "المدينة" : " سأذهب إلى أرض ثانية، وبحر آخر، إلى مدينة أخرى، أفضل من تلك المدينة؛ كل محاولتي مقضي عليها بالفشل، وقلبي دفن كالميت هنا"، هكذا صور تعلقه بالمدينة بعبارات بسيطة كتبها قبل مغادرته الحياة عام 1933، وجعل منها وصية لعائلته ليدفن في الإسكندرية التي تتعلق بها القلوب، ولا يستطيع من يأتيها زائرًا الابتعاد عنها، سواء بتكرار العودة إليها أم بالإقامة الدائمة فيها.

اقترب فن الرواية من مدينة الإسكندرية بعدة طرق، حتى أصبحت لدينا أشكال مختلفة، بل متضاربة ومثيرة للجدل عن هذه المدينة، تناوبت على تفسير وقراءة جمالياتها بعدة طرق: من تقنية مونولوج  الأصوات في " ميرامار" لنجيب محفوظ، مروراً بتيار الشعور في رباعية لورنس داريل، وانتهاء بتحليل الشخصيات ومضمونها النفس اجتماعي في " لا أحد ينام في الإسكندرية"  لإبراهيم عبد المجيد.

لكنها اتفقت جميعها على نقطة واحد : إعادة تركيب صورتها بالاستناد لوضعها الحالي، وليس كشاهد حي على حضارات ميتة، وأستثني من ذلك عملا يتيما، على الأرجح، وهو "عزازيل " ليوسف زيدان الذي خص الإسكندرية بالربع الأول منه. هذا يعني أن المدينة لم تعد في نظر الروائيين أحفورة من الماضي تحتاج لإعادة تعريف، كما هو شأن معظم الأعمال، وربما هذا هو الفارق الأساسي في الروايات المكتوبة عن وادي النيل ومثيلاتها، التي تناولت مشكلة بلاد الشام ووادي الرافدين.

وفي مقدمة الأعمال التي شكلت صورة الإسكندرية، رواية  "ذلك الصيف في إسكندرية " لبرهان الخطيب، وفيها يتحدث عن قصص حب مكبوت ورحيل وفراق وذكريات مريرة، ولذلك يكون السؤال المهم الذي لا بد منه: لماذا هذه المدينة بالذات، ألا يمكن أن نحب، وأن يفشل غرامنا في أية مدينة ساحلية أخرى؟.

يجيب برهان الخطيب على هذا السؤال في رسالة خاصة للكاتب بقوله: من يضيق به العالم يتأمل البحر، ومن يضيق به الكون يتأمل نفسه. إلا أن الإسكندرية في روايتي ليست تعويضا لنكوص عاطفي، ولكنها حافز لتخطي المثبطات. وروحها الخالدة، ولا سيما في فترة الستينيات، لعبت دورًا كبيرًا في رفع معنويات الضعفاء، وتسويغ الواقع ليكون محتملا.

لقد عُنيت " إسكندرية" برهان الخطيب،  بلا مواربة، بالتبدلات التي غيرت من طبيعة المجتمع وسيرورة التاريخ القريب والمنظور؛ لذلك أرى إنها تأملات في الذات. وكان المكان فيها عبارة عن فضاء، ناهيك أن تفاصيله أضاءت العالم النفسي لأبطال الرواية، فهو مكان من غير خلفيات حضارية ، حتى البحر لم يختلف كثيرًا عن الصورة التي رسمها له حنا مينة في رواياته عن إسكندرونة.

في رواية ميرمار تحدث محفوظ عن صاحبة البنسيون العجوز اليونانية التي بقيت من آثار الاستغلال الأجنبي كما صورها، وكان المكان نفسه شاهدًا على مرحلة فاصلة في التاريخ المصري وقتها بزيف شخصياته والأجانب الذين يعيشون على ماضيهم الأثير في المدينة، حرص نجيب على استخدام أربعة تكوينات للرواية كما فعل داريل في رباعيته الشهيرة، ولم يقف استخدام محفوظ لسردية الرباعية على ميرامار وحدها، بل كرر نفس النمط في روايتي أفراح القبة والمرايا، بينما كتب أيضًا رواية " السمان والخريف " تأثرًا بأجواء عروس البحر التي كان يعيش فيها طوال الصيف.

بنسيون ميرامار ما زال كما هو منذ تصويره بنفس الديكور وكما تأثر نجيب محفوظ بأدب جورج داريل، تأثر فتحي غانم صاحب أشهر الروايات العربية "الرجل الذي فقد ظله" التي رصدت أربعة أشخاص فقراء في مجتمع رأسمالي متوحش، ويحاول كل منها التسلق والهروب لإيجاد مكان له تحت الشمس، وتشابهت إلى حد كبير مع خلطة داريل وصراعات أشخاصه في رباعية الإسكندرية.

الأديب السكندري " محمد جبريل "ربما كان أكثر وضوحًا في تأثره بداريل في رائعته "رباعية بحري"، ولكنه هنا عمد إلى إظهار وجه الإسكندرية الأصيل، وحوت روايته حواديت الحب والرومانسية وكتبها بشكل بانورامي رحب، يحمل دلالة الأحداث المرتبطة لديه بصور من الطفولة والصبا، بجانب الروح الصوفية للمدينة، فذكر الأولياء الإمام أبو العباس والشيخ البوصيري وعلي تمراز، وهم رؤوس وأعلام تصوف المدينة في تاريخها الإسلامي.

كما تظهر براعة محمد جبريل أيضًا ومهارته في توظيف التاريخ الأسطوري والوثائقي المتناص مع الفكر الصوفي في شخصيات معروفة ومشهورة في تاريخ التصوف لمدينة الاسكندرية؛ حيث أدمج أحداثها في روايته " أهل البحر " بين تداعيات أسطورية واسترجاعات تاريخية تروي إبداعات الكاتب في استخدام المفردات الصوفية التي تنطوي على دلالات أسطورية غلف بها فصول روايته التي تطرقت إلى تاريخ الفكر الصوفي في الإسكندرية؛ لتعمق من هذه الدلالات الأسطورية وتاريخ الصوفية الوثائقي بما حمله من مظاهر فنية تتصف بالغرابة، وتشتمل على نواحٍ معرفية صوفية متعددة ومتنوعة؛ لإشاعة جو من الأسطورة التي وثقت صلتها بالتاريخ والنظرة الصوفية التي أسهمت في تشكيل رؤية الكاتب، وقد تناولت هذه الرواية ضمن رسالتي للدكتوراه تحت عنوان " التوظيف الفني للعناصر التاريخية في الرواية المعاصرة " حصلت من خلالها على مرتبة الشرف الأولى من كلية الآداب جامعة عين شمس، إشراف أستاذي الكبير دكتور سعيد الوكيل.

كما لا يفوتنا الإشارة إلى إدوار الخياط الروائي السكندري الكبير الذي استمد روح الرباعية أيضًا في رواياته، وركز فيها على الشخصية السكندرية وطبيعتها وخاصة القبطية منها، وكانت رائعته "المدينة الرخامية البيضاء" خير مثال على ذلك، واستدعي فيها روح طفولته والتاريخ القبطي في مخيلته لها، وتداعيات الزمن والرموز المرتبطة به وقصص ألف ليلة وليلة وترانيم الأحد.

وكما سار الخياط، أثرت الإسكندرية في الروائي "مصطفى نصر" الذي وضع بصمته في أعماله من الحارة السكندرية، ومن منطقة غربال العتيقة التي لم يذهب إليها داريل، رغم استخدام نصر أيضًا للرباعية في أعماله، وتجسدت بشكل واضح في راوية "الصعود فوق جدار أملس" التي نشرت في مراحل لاحقة تحت عنوان شارع ألبير.

من الروايات المهمة التي أثارت الخيال والجدل "عزازيل" ليوسف زيدان الذي يعيش حاليًا بالإسكندرية، وتدور أحداث الرواية فى القرن الخامس الميلادى ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سوريا، عقب تبنى الإمبراطورية الرومانية للدين المسيحي، وما تلا ذلك من صراع مذهبى داخلى بين آباء الكنيسة من جهة، والمؤمنين الجدد والوثنية المتراجعة من جهة أخرى.

وأثارت "عزازيل" جدلا واسعًا؛ نظرا لأنها تناولت الخلافات اللاهوتية المسيحية القديمة حول طبيعة المسيح ووضع السيدة العذراء، والاضطهاد الذى قام به المسيحيون ضد الوثنيين المصريين فى الفترات التى أضحت فيها المسيحية ديانة الأغلبية المصرية.

رواية "لا أحب هذه المدينة" لعمر حاذق من الأعمال الهامة التي تناولت حقبة تاريخية لمدينة الاسكندرية وتدور فى أواخر القرن الثانى الميلادى، فى الفيوم ــ المدينة الأثرية التي أعيش فيها حاليًا" والإسكندرية وترصد أحداث الرواية فى عصور اضطهاد المسيحيين أيام الدولة الرومانية، وتغطى الرواية ثلاث مراحل فنية هى فن الأقنعة الموضوعة على تابوت الفراعنة والمصريين القدماء وفن "البورتريه"وفن الأيقونات.

وتشرح الرواية معاناة المصريين من التفرقة فى المعاملة بين أهل البلد الأصليين والأجانب، وتحكى عن فنان شاب يهجر قريته الصغيرة بالفيوم، ويسافر إلى الإسكندرية ليتعلم فن "البورتريه" والذى أنتج من ذلك "بورتريهات" الفيوم.

" لا أحد ينام فى الإسكندرية " رواية لإبراهيم عبد المجيد " توثق في إطار درامي العلاقات المتشابكة للمجموعات المختلفة من سكان مدينة الإسكندرية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث استعرضت العلاقة بين السكان المحليين للإسكندرية و الوافدين عليها من دلتا و صعيد مصر، والعلاقة بين اتباع الديانات المختلفة في خلال رحلة التعايش اليومى مع الظروف الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التى شكلت الحياة اليومية من بداية اندلاع الشرارات الأولى للحرب العالمية الثانية، و حتى اقتراب نيران هذه الحرب للحدود الغربية لمصر باندلاع معركة العلمين الأولى و معركة العلمين الثانية.

و تتمحور أحداث الرواية حول علاقة الصداقة بين اثنين من الوافديين على مدينة الإسكندرية، مجد الدين المسلم القادم من إحدى قرى دلتا مصر، و دميان المسيحى القادم من صعيد مصر،  وفي إطار هذه العلاقة يتم استعراض رحلتهما اليومية معاً للصمود في وجه صعوبات الحياة المدنية و تحدياتها، إلى جانب رحلتهما الذاتية لاكتشاف الذات و نظرة كل منهما للأديان والاختلافات الثقافية و الاجتماعية. و تستعرض الرواية العديد من الشخصيات النسائية المميزة التى تلقى الضوء على الأدوار الاجتماعية المختلفة التى لعبتها المرأة المصرية خلال هذه الحقبة.

كانت " عروس البحر الأبيض المتوسط " على مدار تاريخها محل إلهام للكثير من النصوص السردية التي اتخذت من المكان شخصية خصبة لما يدور في فلكها، من أحداث تجسد توجهاتهم وواقعهم ورؤاهم تجاه الذات والآخر.