الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

المثقفون وثورة يوليو..

  • 22-10-2020 | 11:00

طباعة

كأنها الأرقام تطاردنا حتى فى مناماتنا. عندما جلست أكتب اكتشفت أن عمر الثورة هذا العام وفى أيامنا هذه 67 عاماً. وهل هناك رقم حفر وجداننا أكثر من هذا الرقم؟ وهل يوجد فى الوعى الجمعى للمصريين جميعاً رقم يمكن أن يقترب منه؟ إن 1967 هى سنة النازلة الكبرى. والسنة التى لولاها ما انتظمت علاقتى بهذا الحدث العظيم والبطل الخارج من رحم صفحات التاريخ لتأخذ شكلاً فيه قدراً من العقلانية بعد طوفان الحب الجارف المختلط بالوطنية. وما أدراك بالوطنية بالنسبة لكل جيل. ولكل جيل من الأجيال إحساسه الخاص بالوطنية.

عندما فكرت فى الكتابة عن ثورة يوليو هذا العام. طرأ على خيالى سؤال. نحيته جانباً فوراً. كان سؤالى: ماذا لو لم تقم ثورة يوليو؟ ورغم أن التاريخ لا يعترف بمثل هذه الافتراضات الكثيرة. إلا أنه سؤال مهم. ومحاولة الإجابة عنه كانت ستقدم واقعاً آخر لم يحدث فى الحياة وسنرى من خلاله ما لم تقدمه لنا الثورة. لأنه يعنى التوغل فى واقع لم تفاجئه الثورة فجر يوم 23 يوليو 1952، وأنا أعرف أن التاريخ لا يقوم على افتراضات أبداً.

عدت لكتابين. أولهما كتابى: محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة. وهو حوار طويل أجريته مع الأستاذ هيكل حول تجربة عبد الناصر والمثقفين. وبعد أن انتهيت من تدوينه وتم جمعه بمعرفة دار النشر التى أصدرت الطبعة الأولى التى صدرت 2003. فإن الأستاذ هيكل "23 سبتمبر 1923 – 7/2/2016" حذف من الكتاب أشياء كثيرة جداً. كانت لديه اعتبارات أخلاقية وإنسانية وأيضاً تاريخ دفعته لهذا. وأنا لم أكن أملك – وقتها ولا بعدها – حق الاعتراض أو نشر ما لا يريد الأستاذ نشره.

تركز كل أملى فى أن أقنعه مع مرور السنوات وكر الأيام والليالى بنشر الأجزاء المحذوفة من الكتاب من أجل الحقيقة والتاريخ ومن أجل الناس. لكنه لم يقتنع. وفى الوقت نفسه فإن أملى لم يضع. ولم يفتر. لكن رحيله عن الدنيا حال دون هذا الطلب. وأيضاً يمنعنى من أن أقترب مما حذفه الرجل فى حياته. فما يقوم به الناس فى حياتهم يصبح بعد رحيلهم عن الدنيا أقرب للوصايا التى لا بد من احترامها.

الكتاب الثانى الذى اعتمدت عليه هو كتاب رجاء النقاش: نجيب محفوظ، "11/12/1911 – 30/8/2006" صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. ففى هذا الكتاب فصل كامل عن قصة نجيب محفوظ مع ثورة يوليو. وربما كان نجيب محفوظ وتجربته من أهم المثقفين المصريين والعرب الذى عاصر الثورة. وكانت له معها حكايات تستحق أن تكتب وقصص لا بد أن تروى.

فى مقدمة كتابى الحوارى مع الأستاذ هيكل. اجتهدت بناء على طلبه. فهو الذى طلب ذلك منى وكلفنى به. أن أقوم بعمل حصر لحال المثقفين المصريين وقت قيام الثورة. أعمارهم، ماذا قدموا؟، أين كانوا؟، ثم ماذا كانت مواقفهم من الثورة؟ ولأن الإجابة على السؤال الأخير تحتاج كتب التاريخ. فقد اكتفيت وقتها بالسؤال الجوهرى: أين كانوا وقت قيام الثورة؟ ماذا كانوا يعملون؟ وماذا كانت أعمارهم؟.

أبدأ بنفسى – والنفس قد تكون أمَّارة بالسوء - لقد قامت ثورة يوليو 1952، وعمرى: واحد وعشرون يوماً، وثلاثة أشهر وثمانى سنوات، أما عن الساعات والدقائق فمن الصعب معرفتها؛ لأننى إن كنت أعرف جيداً وقائع يوم الثورة بالساعة والدقيقة والثانية، فمن الصعب معرفة اللحظة التى جئت فيها إلى الحياة فى قريتى.

الثـورة

عندما قامت الثورة، لم نكن قد عرفنا التليفزيون بعد، والراديو لم يكن قد انتشر مثلما عرفته مصر فى الستينيات، وكان فى القرية راديو وحيد، موضوع فى مندرة أحد الأغنياء. نذهب لمشاهدته أكثر من الاستماع إليه، لأن ما كان ينبعث منه، كان خروشة أكثر من كونه صوتاً من الأصوات التى يمكن أن نميزها.

وقد عرفت بقيام الثورة، عندما تجمعنا نحن أطفال القرية، ولا بد أن ذلك كان بعد قيامها بأيام وليال، ذهبنا إلى البقال، لكى نشترى صوراً للواء محمد نجيب "قائد الحركة المباركة" هكذا كانوا يسمون الرجل والحدث معاً. وكانت أصول محمد نجيب تعود إلى قرية تواجه قريتنا على الناحية الأخرى من فرع رشيد، وهى قرية النحارية التى كانت تقع بين تخوم محافظتى الغربية وكفر الشيخ، ولم تكن النحارية – فى الناحية – من القرى حسنة السمعة!.

كانت الصور بالأبيض والأسود، والكاب الذى فوق رأسه، كان أبرز ما يبدو من الصورة. وكانت نظراته – فى الصورة – أقرب إلى الطيبة التى يمكن أن تكون "سبهللة" ولأنه كان أسمراً غامقاً؛ قيل إن أمه سودانية. وكانت الصورة تقول إنه متقدم فى العمر. مع أن الناس كانت تتكلم فى القرية، عن أن الذين صنعوا هذه الثورة من الشباب، وكنوع من التبرير، قيل إن المتقدم الوحيد فى العمر، هو هذا الشيخ، وسط مجموعة من الشباب.

صورة جمال

عندما وصلتنا صورة جمال عبد الناصر، كان اسم الحركة قد أصبح ثورة. قالوا عن عبد الناصر إنه من قرية بنى مر. ولأول مرة أسمع كلاماً عن الصعايدة والبحاروة، وإن كان الخيال الشعبى قد تحايل على هذا. قالوا إن والد عبد الناصر عمل فترة طويلة فى البحيرة، وكان جمال معه فى قرية الخطاطبة مركز كوم حمادة، وعاش هناك فى كنف عائلة الجيار. بالقرب من المكان الذى شهد حدثاً من أهم أحداث الثورة؛ ألا وهو مديرية التحرير التى تعثرت بين نبل وطوباوية الفكرة، ورداءة التنفيذ.

عرفت فيما بعد أن ميلاد عبد الناصر كان فى قرية اسمها: "الضهرية" تقع فى ضواحى مدينة الإسكندرية، وهى الآن جزء منها؛ ذلك أن الظاهر بيبرس بنى خلال حكمه سبع قرى سماها الضهرية: منها قريتى الضهرية، مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة، والقرية التى ولد فيها جمال عبد الناصر، وأن الاسم كان فى البداية الظاهرية، ولكنه تحول بمرور الوقت إلى الضهرية.

وصل صوت عبد الناصر إلى قريتى قبل أن تصل صورته بسنوات. استولى سلطان صوته على عرش الآذان. ووصول الصوت قبل الصورة، جعل الخيال الشعبى يرسم له صورة الزعيم والمُخَلِّص، الذى لا نجده سوى فى الملاحم الشعبية. والناس لم تكتف بوصول صوته إليهم، بل سعوا إليه. كان حلاق القرية له أقارب فى حدائق شبرا؛ ولذلك كان الحاج محمود الجوهرى، قد تعود على السفر إلى القاهرة – يقولها مصر – فى عيد الثورة، ليستمع إلى عبد الناصر فى خطبته السنوية بأذنيه، ويراه بأم عينيه ويعود، ليحكى لنا عما شاهده وما سمعه.

إننى أكتب الآن: لولا ثورة 23 يوليو 1952 ما كنت أستطيع الشعور بآدميتى وكرامتى. لم يكن فى قريتى إقطاع بمعناه المعروف، ولكن حتى الأعيان الذين كانوا فيها، كانوا قد قسموا الناس إلى نوعين، نوع له حقوق فقط. ونوع آخر، ونحن من هذا النوع، عليه واجبات فقط، أقصد واجبات قهرية قائمة على فكرة القهر، وليس ذلك الواجب الذى يقوم به الإنسان كنوع من الالتزام الداخلى.

أما جمال عبد الناصر فهو الإنسان الذى لولاه ما تعلمت؛ فلولا مجانية التعليم، ولولا أننا أصبحنا من الناس الذين لهم حقوق ما دخلت المدرسة. أيضاً، فإن هذه المدرسة لم يكن لها وجود فى قريتى، ولم تعرفها بلدتى إلا بعد يوليو. وما جرى معى وحدث لى، جرى مع الملايين من أطفال مصر فى ذلك الوقت العصيب.

المثقفون

عند الوصول إلى جماعة المثقفين نبدأ من سؤال: كيف كانت أحوالهم وأوضاعهم عندما قامت الثورة؟ ذلك أن الحديث عن علاقتهم بالثورة وبطلها يشكل موضوع الكتاب كله: إحسان عبد القدوس كان فى الثالثة والثلاثين من عمره، وكان رئيس تحرير مجلة روزاليوسف. وأحمد بهاء الدين كان فى الخامسة والعشرين من عمره، وكان قد استقال من العمل فى الحكومة. بالتحديد فى مجلس الدولة، وتفرغ للعمل فى مجلة روزاليوسف، ثم أسس مجلة صباح الخير، وكان أول رئيس تحرير لها سنة 1956.

وأحمد حمروش كان فى الحادية والثلاثين من عمره، وكان فى القوات المسلحة التى انتقل منها سنة 1956 إلى الصحافة. وأمينة السعيد كانت فى الثامنة والثلاثين من عمرها، وكانت كاتبة صحفية فى مجلة آخر ساعة، ثم بمجلة المصور، وأول رئيسة تحرير لمجلة حواء التى صدرت سنة 1954. وجمال حمدان كان فى الرابعة والعشرين من عمره، وكان مبعوثاً للحصول على الدكتوراه من جامعة ريدنج فى بريطانيا، فى فلسفة الجغرافيا.

حسن فتحى كان أستاذ ورئيس قسم العمارة فى كلية الفنون الجميلة. وزكى نجيب محمود كان فى السابعة والأربعين من عمره، وكان أستاذاً زائراً فى الجامعات الأمريكية من 1952 إلى 1954. وسهير القلماوى كانت فى الحادية والأربعين من العمر، وكانت أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب بجامعة القاهرة.

سيد عويس كان فى التاسعة والثلاثين من عمره، وكان يعمل مفتشاً اجتماعياً بوزارة الشئون الاجتماعية. وعائشة عبد الرحمن كانت فى التاسعة والثلاثين من عمرها، وكانت أستاذاً جامعياً. وعلى الراعى كان فى الثانية والثلاثين، وكان يعمل مدرساً بقسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس. وفاتن حمامة كانت فى الحادية والعشرين من عمرها وكانت فنانة معروفة. قدمت العديد من الأدوار فى السينما المصرية. وفتحى غانم كان فى الثامنة والعشرين، وكان يعمل نائب رئيس تحرير مجلة آخر ساعة. محمد عبد الوهاب كان فى الثانية والأربعين من العمر، وكان مطرباً وممثلاً معروفاً، ومصطفى النحاس كان فى الثالثة والسبعين من عمره وكان خارج الحكم، وقد مات بعد قيام الثورة بثلاثة عشر عاماً.

الفنانة ليلى مراد كانت فى الرابعة والثلاثين من عمرها، وكانت وقت قيام الثورة مطربة وممثلة معروفة. وسعد الدين وهبة كان فى السابعة والثلاثين من عمره، وكان ضابط شرطة ثم أصبح رئيساً لتحرير مجلة البوليس ثم الشهر، وبعد ذلك مدير التحرير فى جريدة الجمهورية. وعبد الرازق السنهورى كان فى السابعة والخمسين من عمره، ومات سنة 1971.

أما توفيق الحكيم فقد كان فى الخمسين من عمره عندما قامت الثورة، وكان يعمل فى دار الكتب. وعباس محمود العقاد كان فى الثالثة والستين، وكان كاتباً معروفاً ومات بعد قيام الثورة باثنى عشر عاماً. وأحمد لطفى السيد كان فى السبعين من عمره، ومات بعد قيام الثورة بإحدى عشر عاماً. وأحمد أمين كان فى الخامسة والستين، ومات بعد قيام الثورة بعامين.

ونجيب محفوظ كان فى الحادية والأربعين من عمره، وكان يعمل سكرتيراً برلمانياً لوزير الأوقاف. ثم مديراً لمكتب رئيس مصلحة الفنون التى أنشأتها الثورة، ووصف السنوات التى تلت قيام الثورة بأنها سنوات اليأس الأدبى "1952 – 1957"، وكان قد بدأ قبل قيام الثورة بخمس سنوات فى كتابة السيناريوهات للسينما. وتأكد هذا الاتجاه بعد قيام الثورة. كان يكتب السيناريوهات للسينما بدون حوار لأنه لا يحب الكتابة بالعامية المصرية.

ويحيى حقى كان فى السابعة والأربعين من العمر، وكان وزيراً مفوضاً فى ليبيا، ثم بعد ذلك رئيساً لمصلحة الفنون. ويوسف إدريس كان فى الخامسة والعشرين من العمر، وكانا طبيباً بدأ النشر قبيل الثورة بعامين، ولكن مجموعته القصصية التى كرست اسمه "أرخص ليال" لم تكن قد صدرت بعد. وعبد الحليم حافظ كان فى الثالثة والعشرين من عمره. وكان قد عمل مدرساً للموسيقى، واعتُمِدَ مُطرباً فى الإذاعة المصرية قبل الثورة بسنة واحدة، وقد عرفه الجمهور سنة 1952 لينطلق بعدها ويصبح صوت يوليو، أما وفاته فقد كانت فى السنة التى اكملت الثورة ربع قرن من عمرها.

نجيب محفوظ

تلك كانت حواراتى مع الأستاذ هيكل. أما شهادة نجيب محفوظ عن ثورة يوليو. فقد حكاها فى فصل مستقل لرجاء النقاش فى كتابه: نجيب محفوظ، صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. الفصل يحمل عنوان: ثورة يوليو 1952، ويحكى نجيب محفوظ، حكاء مصر العظيم حكايته مع الثورة:

- لم يخطر على ذهنى مطلقاً أن يقوم الجيش المصرى بانقلاب عسكرى يطيح بالحكم الملكى عام 1952، وذلك على الرغم من أن سهرات مقهى عرابى بالعباسية قبيل الثورة كانت تضم عدداً من الضباط الأحرار. منهم عبد اللطيف البغدادى وجمال سالم. كانا يجلسان طويلاً مع شلتنا. ومع ذلك لم يشعر أحد بالتحركات التى تتم داخل الجيش. أو أن هناك تخطيطاً للثورة. وكان عبد الحكيم عامر يرتاد المقهى أحياناً. الذى ذهب إلى المقهى وجلس فيه فى انتظار صديقه جمال عبد الناصر.

جاءه عبد الناصر إلى المقهى وجلس معه عدة مرات. وكان من الضباط الأحرار أيضاً سعد حمزة، الذى كان يحضر سهرة الخميس.

أما عن يوم الثورة، فيحكى نجيب محفوظ:

- صباح يوم الثورة خرجت من بيتى متوجهاً إلى عملى فى وزارة الأوقاف. ولفت نظرى أن خطوط الترام متوقفة عن العمل على غير العادة. فسألت بائع الصحف عن ذلك فأخبرنى أن الجيش عمل إضراب فى العباسية. وتوقعت وجود حركة تمرد فى صفوف الجيش احتجاجاً على تدخل الملك فاروق فى انتخابات نادى الضباط. وأن أنصار اللواء محمد نجيب الذى نجح فى الانتخابات ضد مرشح الملك اللواء حسين سرى عامر. قاموا بهذا الإضراب للتعبير عن احتجاجهم لا أكثر.

وأثناء مرورى فى شارع الشريفين. حيث مبنى الإذاعة القديم. لفت نظرى كذلك وجود دبابة تقف فى مواجهته. ولما وصلت إلى مبنى وزارة الأوقاف توجهت إلى مكتب سكرتارية الوزير وفور دخولى بادرنى عبد السلام فهمى بسؤال عما إذا كنت سمعت الإذاعة اليوم. ولما أجبت بالنفى أخبرنى بأن الجيش قام بعمل انقلاب. وأنه أذاع بياناً. وحكى لى عن التفاصيل. فلم أزد أن قلت له:

- يا خبر إسود.

يكمل نجيب محفوظ حكاياته:

- فقد تداعى إلى ذهنى فى تلك اللحظة أحداث الثورة العرابية. وكان لدىَّ ظن أكيد بأننى فى أثناء عودتى إلى البيت بعد انتهاء موعد العمل سأجد الجيش البريطانى فى شوارع القاهرة. بعد أن يكون قد قضى على الانقلاب العسكرى وقادته. وانتابتنى حالة من القلق الشديد على مصير البلد.

كنت قبل قيام الثورة أستبعد قيامها. وكانت لدىَّ أسبابى. أهمها أن الجيش المصرى كان على ولاء كامل للملك فاروق. أو هكذا كنت أظن. وأنه بعيد عن السياسة. ولم يحاول التدخل فيها منذ فشل ثورة عرابى. خاصة مع وجود 90 ألف جندى بريطانى مزودين بأحدث الأسلحة فى منطقة القناة. وكنت على يقين فى الوقت نفسه من وجود عناصر وطنية فى صفوف الجيش. ومنه من تعرض للأذى بسبب تأييده لحزب الوفد. ولكنى لم أتوقع أن تقوم تلك العناصر بثورة.

فى الفترة الأولى من عمر الثورة كانت مشاعرى تنقسم بين الخوف على استقلال مصر وبين الارتياب فى الذين قاموا بها. مع مرور الأيام بدأت مشاعرى تتغير بعدما وجدت أنها تسعى لتحقيق عدد من الآمال التى طالما حلمنا بها. وتمنينا تحقيقها. مثل الإصلاح الزراعى والاستقلال التام. وإلغاء الألقاب. وكان كل قرار من قرارات الثورة الإصلاحية يقربنى لها ويملأنى حباً فيها يوماً بعد يوم.

يكمل نجيب محفوظ:

- وقد لعب محمد نجيب دوراً كبيراً فى تقريب الناس من الثورة والتفاف الناس حولها بما يملكه من شخصية بسيطة ساحرة، تحمل فى طياتها نفس الطابع الشعبى الذى ميز شخصية مصطفى النحاس. ففى اللحظة الأولى التى تراه فيها تشعر فيه بالزعامة. وذلك عكس جمال عبد الناصر الذى كان وجهه المتجهم لا يوحى لك بزعامته. ولكنك لا بد أن تتغاضى عن هذا التجهم عندما ترى أعماله وقراراته وتصرفاته العظيمة.

يحكى نجيب محفوظ:

- كانت علاقتى الوجدانية بالثورة تنقسم بين التأييد والحب من جهة. والنقد الشديد بسبب تجاهلها للديمقراطية والوفد. وميلها إلى الفردية والصراع على السلطة من جهة أخرى. ولم أتغاض عن هذه الانتقادات من جانبى للثورة إلا فى فترة محددة. وهى فترة العدوان الثلاثى على مصر. فقد أيدت الثورة تأييداً مطلقاً. ونسيت وفديتى وتجاهلت نقدى لأساليبها الفردية. وأغمضت عينى عن صراعات الحكم. نسيت كل شئ. وذهبت إلى أحد المعسكرات الشعبية التى أقامتها الثورة فى مناطق القاهرة لتدريب المتطوعين على حمل السلاح لمقاومة العدوان. تدربت بجدية حتى أتقنت استعمال البندقية البلجيكى وإلقاء القنابل اليدوية.

جنازة عبد الناصر

وفى جزء آخر من الكتاب يحكى نجيب محفوظ عن جنازة جمال عبد الناصر كأنها جرت بالأمس القريب. يقول:

- فى ذلك اليوم كنت عائداً من الإسكندرية مع أسرتى. وفور انتهائنا من تناول طعام العشاء جلست لمشاهدة التليفزيون. وقبل أن أدخل الفراش لاحظت أن القناة الأولى تبث تلاوة قرآنية فى غير موعدها. فأدرت المؤشر إلى القناة الثانية. فوجدت أيضاً تلاوة قرآنية وبدا الشك يتسلل إلى نفسى. ووردت إلى ذهنى خواطر كثيرة. قلت لزوجتى بأننى أشعر أن تلاوة القرآن المتكررة فى التليفزيون وفى هذا الوقت من اليوم وراءها شئ ما.

يكمل محفوظ:

- ولما استوضحتنى زوجتى. قلت لها أظن أن الفلسطينيون قتلوا الملك حسين. كان ظنى مبنياً على أساس الموقف المتفجر. بين الملك حسين والفلسطينيين بعد مذابح سبتمبر أو ما سمى أيلول الأسود. ولما طالت التلاوة القرآنية. اتصلت بجريدة الأهرام. عسى أن أجد من يزودنى بمعلومات عما يجرى. لكن باءت محاولتى بالفشل. ويبدو أن من سألتهم تهربوا منى. فلم أجد بداً من الجلوس من جديد أمام شاشة التليفزيون.

لكن كان لدينا فى ذلك الوقت خادم فى البيت أرسلناه لشراء بعض الحاجيات. فلما عاد من السوق قال لى:

- الريس مات. وأنه سمعهم فى الخارج يقولون هذا. أصابنى الذهول والاستنكار. وطلبت من الخادم عدم تكرار مثل هذا الكلام أمام أى شخص.

يكمل نجيب محفوظ:

- وفى صباح اليوم التالى اتصل بى الأستاذ محمد حسنين هيكل بنفسه. طلب منى أن أكتب كلمة رثاء فى عبد الناصر. وفى تلك الفترة كانت كتابتى فى جريدة الأهرام لا تزيد على كتاباتى الأدبية. ولكنى كتبت ما طلبه. وذهبت إلى الأهرام وسلمت الكلمة التى لم تكن رثاءاً خالصاً.

نُشرت هذه الكلمة بعد وفاة عبد الناصر بأربعة أيام. وكان عنوانها: كلمات من السماء. وجاءت على شكل حوار بين الكاتب وبين جمال عبد الناصر. وهذا هو نصها:

-       حياك الله يا أكرم زاهد.

-       حياكم الله وهداكم.

-       إنى أحنى رأسى حباً وإجلالاً.

-       تحية متقبلة ولكن لا تنسى ما سبقى من قولى: ارفع رأسك يا أخى.

-       نحن من الحزن فى ذهول شامل.

-       لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظائم الأمور.

-       يعزينا بعض الشىء أنك إلى جنة الخلد تمضى.

-       وسيسعدنى أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة.

-  إن عشرات التماثيل لم تجعلك فى خلود الذكرى. وهذه العبارة معناها أن عشرات التماثيل لن تفى بحقك فى خلود ذكرك.

-       لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدى وهما الميثاق وبيان 30 مارس.

-       وراءك فراغ لن يملأوه فرد.

-       ولكن يملأوه الشعب الذى حررته.

-       سيبقى ذووك فى صميم الأفئدة.

-       أبنائى هم الفلاحون والعمال والفقراء.

-       وجدت قرة عينى فى توديع الكرة الأرضية لك.

-       أما قرة عينى ففى استقلال الوطن العربى والحل العادل لأرضه الشهيدة.

-       سيكون أحب طريق الطرق إلى نفسى الطريق إلى مسجدك.

-       طريق الحق هو الطريق إلى العلم والاشتراكية.

-       نستودعك الله يا أكرم من ذهب.

-       كلنا ماضون ومصر هى الباقية.

    أخبار الساعة