الإثنين 20 مايو 2024

رواية "أدمانتيوس الألماسي" وثالوث سلوى بكر المقدس :" الأدب.. التاريخ.. الفن"

فن22-10-2020 | 11:30

بدأَت بالأدب .. وصاحبَت التاريخ .. وتزوجت الفن ، هى الروائية والناقدة سلوى بكر التى بدأت حياتها الأدبية منذ مطلع الثمانينيات بمجال النقد الأدبى والمسرحى ، ثم أبدعت عددا من الروايات والمجموعات القصصية تُرجم بعضها لعدة لغات . وتميزت رواياتها باستدعاء لقطات تاريخية منسية أو مسكوت عنها .

تعد رواية (أدمانتيوس الألماسي) التى صدرت لها عن هيئة الكتاب إحدى حلقات رواياتها التاريخية الناجحة التى بدأتها برواية "البشمورى" ذات الشهرة والصدى الرنان لدى القراء والنقاد كليهما ، والروايتان تمثلان مع رواية "شوق المستهام" ثالوثاً تراثيا ذا مرجعية مشتركة ، إذ اعتمدت سلوى بكر على كتاب ساويرس بن المقفع : "تاريخ الآباء البطاركة" لتتمثل من خلاله روح الروايات الثلاث وتتخيل أحداثها ذات التفاصيل المثيرة .. خاصةً وأنها  تقترب من منطقة أدبية قلما اقترب منها أحد ، حيث الحياة القبطية المصرية فى بُعدها التاريخى القديم وتفاعلاتها مع السلطة والمجتمع.

   ربما وقع اختيار سلوى بكر الذكى على تلك البقعة التاريخية الغامضة  لعدة اعتبارات .. أولها ولعها بالتاريخ ، ومعايشتها للفن والتراث ، ثم إيثارها للاختلاف عن صويحباتها من أديبات تلك الفترة واللائى كن يؤثرن التأرجح بين قضية اضطهاد الرجل للمرأة وبين أدب الاعتراف بمستوياته المختلفة التى تبدأ بالبوح الخجول بالمشاعر الدفينة تجاه المجتمع المحافظ وينتهى بأدب الانكشاف والتعرى الذى ابتدعته وابتدأته"سيمون دى بوفوار" وسار على نهجها أدبيات عربيات ، وانتقده (أنيس منصور) فى مقال بعنوان : " صرخات ينقصها الأدب" فكتب يقول : " فى كل مرة اقرأ لأديبات سوريا ولبنان أحس أن المرأة لم تصدق أنها أصبحت حرة . وأن الرجل حطم لها القفص وقال لها : طيري .. وطارت المرأة ثم عادت تحط على القفص تدفع بابه أمامها ، وتتسلل وراءه وتستدرج الرجل حتى يقف على باب القفص ، وحينئذ تلعن القفص وصانع القفص والواقف أمامه . ثم تلعن ضعفها وحنينها إلى القفص وإلى رجل يحرسها!) .

    لقد جاءت رواية البشمورى – أولى رواياتها التاريخية- بعد عدد من الأعمال التى لا تنتمى إلى نفس التيار التراثى ، فكانت هناك أعمال مثل (مقام عطية) و(حكاية بسيطة) و(زينات فى جنازة الرئيس) وكلها تتحدث كعادة الأعمال النسوية عن قضايا النساء ، غير أن سلوى اختارت أن تسلط الضوء على ما أسمته "المرأة المعشوأة" ابنة المناطق العشوائية والتربية العشوائية والحياة الفوضوية ، تلك الحياة التى كانت سبباً مباشراً فى إفراز شريحة اجتماعية دونية تحترف البلطجة وتتمرد على الواقع بطريقة فجة.

لقد استمرت سلوى بكر تساير هذه التيمة الأدبية حتى بعد اعتقالها خلال إضراب عمال الحديد والصلب عام 1989. فسجلت تجربتها كسجينة سياسية عاشرت غيرها من السجينات الجنائيات وعايشت أحوالهن فكتبت رواية (العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء) .  هكذا كان التماسها للمعانى الأدبية والصور الفنية واللقطات الروائية من المناطق الضبابية التى تتوالد فيها الأفكار والأخيلة بحثاً عن وعى جديد مغاير لما ألفناه من وعى تقليدي وليد الروتين والقهر والرجعية .

 

   آثرت سلوى بكر أن تستهل رواية "أدمانتيوس الألماسي" بمقدمة عن الكتابة الأدبية ومحرابها الفكرى فكان مما قالته : ( الكتابة هى رغبة وجود مغاير لوجود سالف .. محاولة لتولد المعنى من كل ذلك اللامعنى .. ربما من هنا يـتأتى سر الكتابة وأسرها وحريتها ، غموض الاندفاع إليها والسير فى متاهاتها اللانهائية .. تتطلب الكتابة مشاهدات ونظر ورؤية ورؤى وإطلالات وشوف وتشوف إلى ما هو بالداخل والخارج ، فبداخلنا أكوان ، وبخارجنا عوالم ذات إشارات ورموز ودلالات وبراهين ، لذا فالكتابة تحتاج إلى ألف عين ترى ما لا يُرى ) .

منذ بداية الرواية تفاتحك الساردة بأنها قد أذابت حاضرها فى بوتقة الماضى ، ورغم أن مفتتح الرواية ينسحب على أحوالنا الآنية ، إلا أنه مجرد ستار ينكشف بالتدريج عن نافذة تأخذنا رويداً رويداً إلى عالم قديم غريب ومدهش .. هكذا نقرأ فى مستهل الرواية ما يعد مؤشراً للمعانى والإيحاءات العائمة بين طيات السطور  : ( .. الأفق بات لا يلوح بحل قريب أو مفرج بعيد ، إذا غابت الحكمة ، وتوارى العقل ، وبات الجميع يتخبط ويضيع فى متاهات العتمة وغمامات الدياجير ، على رغم مرور كل هذه الحقب من التفلسف والجدل والكلام ، فالزمان الآن إنما هو زمان أنصاف العارفين وأشباه المتفلسفين وغلاة الدينيين المتشددين . وها هى الهوة قد وسعت ، وسوف تتسع بين الحين والحين ، لتفصل ، ما ظننت ، وظن هو أنه لا يُفصل ، ولتفصم ما لا يجب أن يُفصم أبداً فى عالم الإنسان . لقد سد كل طريق ، وتفرقت أضلاع الثالوث العظيم ، فذهب ضلع العلم وحيداً لا يعرف غاياته ، وشَطَّ الدين فى بحور الميتافيزيقا ، وها هى الفلسفة تتقوقع وتخاف وقد هزئ بها ووضعت فى أسفل السافلين . لذلك أقول ، أنا الصفى الخِل الذى لن يفصح عن اسمه ، أو ينبئ عن شخصه أبداً ، إننى سوف أسرد كل ما عرفه وسرده لى ، ذلك الذى خبرته وعرفته بعد أن حلَّ فىَّ وروى لى روايته كلها ، أقصد بذلك ، يوحنا النحوى ، قدس الله روحه .. ) .. هكذا تظن فى البداية أنك لم تبارح الحاضر ، بينما الرواية تسحبك قليلاً قليلاً نحو الماضى ، فى ضبابية وغموض مطلوبَين كعنصر تشويقي يأتى مع تساؤلاتك عن طبيعة العالم السحرى الذى ستقرأ عنه .. ذلك العالم الذى يتحدث عن ( جالينوس ، وبطليموس ، وإقليدس ، وفيثاغورث ، وأفلاطون ، وأبيقور ، وديوجين ، وديموقريطس ) باعتبارهم معاصرين أو قريبي العهد بأبطال الرواية المواكبين لعهد مكتبة الاسكندرية – العجيبة السابعة- قبل حريقها . وفى ثنايا الرواية تتواتر المقاطع الوصفية لمدينة الاسكندرية وقتذاك ، معمارها الساحر ، سكانها متعددو الأجناس ، معابدها ، منارتها ، دروبها .. ففى بدايات الرواية يأتى ذكرها : ( إنها الاسكندرية فاتنة المدن ، بمعمار جسدها الفريد ، وازدهار عقلها المشتعل بنار المعرفة اشتعالاً ، أشد من شعلة منارتها العجيبة . فتاريخه إنما هو من أواخر السطور المجيدة فى سفر تاريخها وزمانها الآيل إلى زوال ، إذ أنها ستؤول ولا بد إلى رمل وملح وحزمة ذكريات ، يتذكرها المتأسفون المتحسرون على زمانها المتولى وعلمها الغابر ومدنيتها الآفلة ، وروحها الملهمة التى خبت شيئاً فشيئاً .. ) .

 ومع تعمقك فى دهاليز الرواية وأحداثها المتصاعدة بحركتها المتماوجة الهادئة المتناسبة مع طبيعة الرواية زماناً ومعنى تشعر أنك تشاهد بعين الخيال مصر القبطية فى عصور الاضطهاد الرومانى بكل مفردات هذا العالم الغريب القديم الغامض .. هذا الشعور الذى يتسلل إليك من خلال طوفان من الأسماء والألقاب المنتمية لهذا العهد السحيق . فمن (يوحنا الجراماطيقي) إلى (يوسابيوس القيسارى) أو ( أوريجانوس بن ليونيدس) و سنبلقيوس ، وأمونيوس ، ونسطوريوس ، وأكليمنص ، وبنتينوس ، وديوكريستوم ، وسوستراوس .. عشرات الأسماء التى تعطيك إيحاء بالزمان والمكان الغريبين ، خاصةً عندما تتكاثف وتتعدد وتأتى فى أشكال متعددة الأبعاد والتجنس .. فالأنثى لها نصيبها من الأسماء الغريبة المغايرة مثل : ( كارديا ، بومانا ، فيرونيا ، ومارسيلا ، وثيودورا ، وأنستازيا ، وجوليا ماميا ، ودمنة ، وميزا ، وثيادلفيا ، وأوريليا ) . بل إن أسماء الأشياء والأماكن لها ذات السحر الغامض الغريب مثل : الميجاروس ، السرابيوم ، الإيبدمكس ، الكولوزيوم ، الاستروماتا ، الأكليروس ، النيفايوم ، المايوما .. إلخ .

ذلك الجو الروائى لم يتحقق فقط بفضل الكثافة الغرائبية فى الأسماء والأشياء والأماكن والأوصاف والتفاصيل ، وإنما بفضل اللغة أيضاً . لقد استطاعت (سلوى بكر) من خلال اختيارها الدقيق للمفردات والألفاظ والتراكيب اللغوية والاشتقاقات الموحية أن تصنع من خلال السرد عالمها الروائى المبهر ، حتى أنها انتقت مفردات مندثرة من المعاجم القديمة وأعادت إحياءها لتناسب الإيقاع الروائى . وصاغت الحوار بين الشخصيات صياغةً محكمة ليتناسب فى بنيانه مع طبيعة الشخصيات وديانتهم وزمانهم ، وبهذا تتضافر خامات الرواية لصنع لوحات خيالية مدهشة أجادت الروائية المتمكنة تصوير أبعادها وتفاصيلها وزواياها وظلالها .

لم تكن مصر القبطية هى الوحيدة فى روايات سلوى بكر التاريخية ، بل هناك مصر المملوكية أيام الاحتلال الفرنسي كما فى رواية (الصفصاف والآسي) ، ما يعنى أنها تتخير لقطات تاريخية ذات دلالة لأهداف صرحت بها فى أكثر من مناسبة ، إذ أنها ترصد زوايا التاريخ المنسية والمسكوت عنها وليس التاريخ فى مجمله ، معتبرة أن مهمة الأدب التاريخى بالنسبة لها هو توليد وعى مغاير من خلال اكتشاف حقيقة ما كنا عليه وما نشأنا عنه من مكون تاريخى غائب عن مخيلتنا . إنها محاولة لفهم الذات المصرية فى كينونتها الأولى وجوهرها التراثى المناضل الباحث عن الحقيقة والمدافع بروحه عنها .

 يقول (يوسف الشارونى) فى كتابه ( الليلة الثانية بعد الألف) متحدثاً عن الأدب النسائى بصفة عامة أنه بدأ فى بواكيره أقرب إلى الفانتازيا أو أقرب إلى التاريخ ، كأنهما ملاذ بديل للراوائيات وكاتبات القصة القصيرة عن الواقع المعاش عندما تستفحل مثالبه وخطاياه ، وحينما تضيق أبواب التعبير ، وتتحول نوافذ الكتابة والأدب إلى نوافذ مصمتة أو كوات كئيبة مصنوعة من قضبان وأغلال .

 معنى هذا أن التاريخ ليس ابتعاداً عن الواقع أو هروباً منه ، بل هو استعادة واستدعاء لواقع قديم فيه ما يتشابه مع حاضرنا المحبط . إن سلوى بكر عندما تكتب (وصف البلبل) أو (نونة الشعنونة) أو (إيقاعات متعاكسة) أو ( من خبر الهناء والشفاء) لتقترب من الفانتازيا والسخرية السوداء ، ثم تكتب (أرانب ) و(عجين الفلاحة) فتلامس الواقع المنهك المرير ، ثم تكتب (كوكو سودان كباشى) و (وردة أصبهان) بمقاربات تراثية ، فى ديناميكية تعبيرية وسردية خارجة عن الأطر الروتينية والتقليدية . هى تفعل هذا وفى عقلها مغزى ، وفى روعها قصد . فالأدب عندها هو ما تجلو به الأبصار لترى حقائق مخفاة خلف حجب الضباب .. أو هو كما جاء على لسانها هى فى مقدمة رواية "أدمانتيوس الألماسي " :

(إن سحر الكتابة ومفعولاتها ، تمتحنه الأزمنة ويزداد ألقه وتعتقه بتراكمها المستديم ، وربما يظل سؤالها الأبدى .. كيف تستمر فى التنفس دون أن تشيخ ملامحها الجميلة . تصنع الكتابة الحقة ، دينها ، قانونها ، أخلاقها ، ناموسها المحتكم إلى الضمير والعقل ، عبر لذة الحرية بالخيال .. الخيال الذى لا نهى عليه ولا أمر .

الكتابة إغناء ، والممتحن بها هو فى مقام المستغنى ، الواقف على عتبات السمو والارتفاع ، عبر إزاحة العالم بعيداً ، والسباحة فى محيطات الخيال ) .