الثلاثاء 21 مايو 2024

لوحة لرجل يصافح امرأة استلطاف

فن23-10-2020 | 11:34

تشبه مصحة في عمق الصحراء، أو سجن قديم مهجور.. هكذا قال موسى لنفسه وهو يعبر بوابتها الحديدية، ويتجه نحو القسم المنتدب إليه: "شؤون الإنتاج".

تساءل المدير في حيرة: "مهندس في كفاءتك.. لماذا؟" رد موسى: "يمكنك أن تسأل الشؤون القانونية" ابتسم المدير في عطف: ""لن أسأل يا بني، اختر لك مكتبًا، لا أحد هنا سوانا...

أطلت برأسها دون أن تطرق الباب: "المهندس موسى وصل!" منعه الشرود من إظهار دهشته، دفعت الباب ودخلت متجهة نحوه، ظل جالسًا كأنه لم يرها، رغم وقوفها أمام المكتب.. سحبت كرسيا وجلست: "كنت عند رئيس الشركة وعرفت أنك وصلت" لم يرد فأكملت، وهي تحرك يدها اليمني كمروحة: "الجو هنا حر جدًّا، سأوفر لك مروحة غدًا، ويمكن أن أحضر تكييفًا لو أحببت" رد في برود: "هذا مكان لا يصح أن يدخله أحد غير العاملين فيه، ألم تقرأي التعليمات على الباب؟" في شراسة مكتومة ردت: "يمكن ألا تدخله أيضًا.. ألم تعرف حجمك بعد؟" ابتسم وهو يشبك أصابعه أمام وجهه؛ فأكملت: "فكر، لماذا تحرم أسرتك من حقوقها.. الكل معنا"؟

"من هذه؟" سأل المدير بعد خروجها؛ فرد موسى: "سبب نقلي"

-        موظفة معكم؟

-        لا

-        مجلس إدارة أو متابعة؟

-        لا

لمحها تقف أمام بوابة الخروج؛ فتحرك مبتعدًا بسرعة، دقائق ووجد سيارتها تسير بجواره، وهي تطل من الشباك: "اركب.. الجو حر"

تحدثت عن الظروف والأحداث التي تمر بها البلد، ارتفاع الأسعار، وتساءلت كيف يعيش مهندس مثله بمرتبه الحكومي فقط، استمع دون رد، أخبرته أن لديها أصدقاء في كل مكان، وأنه يمكن أن يعود إلى مصنعه أو إلى مصنع أفضل منه بدلاً من البقاء في هذا "السجن" أو الذهاب إلى مكان أسوأ، وبصوت حاول أن يكون حياديًّا سألها: "ما أخبار سليم؟"

-        نصف العمى.. روتيني لكنه أفضل من سابقيه.

-        لماذا لا ترسل الشركات الأخرى مندوبين مثل شركتكم؟

-        أقوم بذلك بدلا عنهم، وهم يقدرون ذلك جيدًا.. ألن تقدر أنت أيضًا؟ قالتها وهي تشغل مذياع السيارة، فانطلق صوت منير: "لا زاد ولا مية" سارعت بتغيير المحطة، فقال في عفوية: "هل هناك من يُغير على منير؟" ابتسمت: "هل هناك من يسمع منير؟ حضرتك قديم جدًّا.. لكن سأعود إلى الأغنية.. ولو أردت منير نفسه فسأحضره لك"

-        شكرًا.. سأنزل هنا؟

-        أعرف سكنك، وسأوصلك لأقرب نقطة..

-        ماذا تريدين؟

-        أنت تعرف.

-        سأنزل.

عليه أن يراجع موقفه، تم تحويله للتحقيق بتهمة تافهة، وحين بدأ التحقيق انتدب على مقر الشركة الرئيس؛ ما يفقده نصف أجره الذي يكفي أسرته بأعجوبة، وتسلم مكانه أحد أعوان مدير المصنع، مع حركة دؤوب لاختراع تهم جديدة..

قطع كوبري قصر النيل متجهًا لميدان التحرير، شم الهواء بعمق حين وصل أمام مسجد عمر مكرم، ابتسم حين رأى مجمع المصالح، وتذكر دخوله لإنهاء إجراءات سفره.. أكمل في شارع التحرير حتى وصل إلى باب اللوق، انحرف يمينًا، وجلس على مقهى قديم.. منتظرًا صديقه المحامي.

"يمكن أن ننسف كل هذا بضربة واحدة" قالها المحامي بثقة وهو ينفث دخان سيجارته، لكن موسى رد: "سأبقى"

-        لماذا؟

-        إن عدت للمصنع الآن فيمكن تلفيق أية تهمة لي.. الورق ورقهم.. والعمال والمهندسون في وضع صعب جدًّا

وقف مدير القسم مرتعدًا حين دخل رئيس الشركة الذي نادى: "مهندس موسى" نظر إليه موسى: "تحت أمرك"

-        لماذا أغضبت رؤساءك؟

-        هل هذه تهمة جديدة؟

-        لقد تركت مشاغلي من أجلك.. وأعاملك كابن.. تكلم بشكل أحسن..

-        هل زارتك أستاذة حسناء؟

"كل هذه الحرب لأن رجلاً أحب امراة لم تحبه" في سيره إلى محطة الأوتوبيس تذكر هذه الجملة التي نطق بها بطل في مسلسل صراع العروش، وطفت على وجهه ابتسامة حين تذكر حسناء، وقال لنفسه: "كل هذه الكوارث لأن مديرًا قال لحسناء: ما أخبار الاستلطاف؟"

"أريد منك خمس دقائق، وبعدها ستبدأ التحقيق الذي لن ينتهي" قالها موسى للمحقق الذي هز رأسه موافقًا: "أدار المصنع عمرو السيد قبل سليم لسنوات كثيرة، لكن فجأة انقلبت الدنيا عليه، واتهم بالرشوة والتبديد والفساد، وتم نقله، ورغم عدم ثبوت التهم، فلم يعد واستمر سليم رغم فشله وتراجع إنتاج المصنع، وانتقال معظم الكفاءات، وسيستمر للسبب الذي أبعد من أجله المدير السابق" كانت عينا المحقق تنطقان باللهفة فأكمل موسى: "تقوم حسناء بتخليص المنتجات لشركتها ولكل الشركات، ويساعدها رجل، ويفيد هذا جميع الأطراف فالشركات لن تحتاج إلى موظف، والمصنع سيتعامل مع شخصين فقط، ويبدو أن كثرة العمل عمقت العلاقة بين حسناء وحامد، لكن طمع حسناء في عمولات أكثر ومحاولتها التدخل في صفقات المواد الخام، دفع المدير السابق للتصدي لها، وحين ضغطت عليه ببعض عيوب إدارته، قائلة: "سمعت أنك استأجرت شقة في عين شمس على حساب المصنع" قال لها: "سمعت أيضًا أن هناك استلطافا بين أعضاء الشركات"

هز المحقق كتفه: "وما علاقتك بهذا؟"

-        مع مجيء سليم، انطلقت حسناء في مخططها بتقسيم المصنع إلى قسمين؛ عصابة عمرو التي تريد إسقاط المصنع، ومجموعة المخلصين وهم من ينفذون كلامها، وحين رفضت الموافقة على خامات - حاولت هي الضغط لقبولها - غير مطابقة، وضعتني في أول القائمة السوداء.. وقام المدير بكل ما يستطاع ضدي، واتصلت هي بكل العملاء تقريبًا ليرفضوا أي منتج يخرج من قسمي، مع فتح باب للتفاوض دائمًا.

-        ولماذا لم تتفاوض؟

-        لم أعرف..

-        ...

أعطته زوجته المحمول الذي يظهر على شاشته رقم دون اسم، جاءه صوتها: "حمدي باشا غاضب منك، لكنني قلت له إنك طيب ويمكن إنهاء المسألة" رد كمدفع: "بالاستلطاف" لم يأته رد فأدرك أن الطلقة أصابت المقتل؛ بعد دقيقة قال بصرامة: "انسي اسمي تمامًا.. وصلك إن فاعل خير سلمني مستندات تضر بموقفك.. لكن وصلني معها ما هو أبشع"

في الصباح وجد استدعاء من رئيس الشركة؛ فصعد.. تحرك مدير المكتب ليفتح له الباب، جلس دون أن يلقي التحية، تحدث الرئيس: "قرار ندبك ثقيل علينا فأنت من الكفاءات المعدودة.. لدينا مصنع جديد بكل المميزات..." قاطعه موسى: "سأعود لجهة عملي الأصلية بعد انتهاء التحقيق.. حتى لو بعد عشر سنوات.. والمحامي يجهز إجراءات الطعن ورفع القضية  على صاحب القرار"، كأن رئيسه كان يتوقع فرد بعطف مصطنع: "كما تشاء يا بني"

انتقلت أنا المحقق هادي علي من الشؤون القانونية إلى مستشفى التأمين الصحي لسماع أقوال المهندس موسى نور في واقعة صعقه بماس كهربائي أثناء وجوده في المقر خارج وقت عمله، ولم أستطع أخذ أقواله لحرج حالته الصحية.