المرجعيات
الفكرية:
لقد
حمل طه حسين عميد الأدب العربي على عاتقه مهمة إنجاز مشروع حضاري وفق تصوره، يسعى
إلى تنوير الذهنية العربية، وتجاوز التصورات الموروثة، لذا كان لزامًا عليه أن
يحتمي بنموذج فكري مغاير، هذا النموذج سيجده في الغرب تحت ستار الفلسفة الوضعية.
فبعد
عودته من فرنسا، وبعد أن أحرز الفكر الليبرالي في مصر مكتسبات ضد الفكر المحافظ،
سينادي بأن الحضارة الأوروبية اعتمدت في نهضتها على الحضارة الإغريقية الرومانية
والديانة المسيحية، ويجدر بالنهضة العربية أن تعتمد على الحضارة الإغريقية والرومانية
والديانة الإسلامية.
وتأثر
الفلسفة الوضعية كإطار مرجعي لتصورات طه حسين حول الأدب، وإن لم يتصل طه حسين بهذه
الفلسفة مباشرة، تأثر بمجموعة من النقاد الغربيين يرتكزون على أسس هذه الفلسفة،
ومن أبرزهم: هيبلوليت تين، وسانت بيف، وجوستاف لانسون، وجول لومتير، كان طه حسين
يحرص دوما للتأكيد على دور الذوق في النص الأدبي، لأن الذوق يُعدَ عاملا من
العوامل التي يعتمد عليها الناقد التاريخي في دراسة الظاهرة الأدبية.
وطه
حسين يرفض أن يقسم الأدب إلى عصور سياسية، وربط الأدب بالازدهار السياسي إذ قد
يكون الانحطاط السياسي مصدر الرقي الأدبي أيضًا، والقرن الرابع الهجري دليل واضح
على أن الصلة بين الأدب والسياسة قد تكون صلة عكسية في كثير من الأحيان، فالحياة
السياسية لا تصلح أن تكون مقياسا للحياة الأدبية، وإنما هي مؤثرة من المؤثرات،
فينبغي أن يتأسس تاريخ الأدب داخل الأدب من حيث هو ظاهرة مستقلة يمكن أن تأخذ من
حيث هي وتحدد لها عصورها الأدبية الخالصة، وبالإضافة إلى نقده النظرية المدرسية،
فإنه ينتقد أصحاب المقياس العلمي في التاريخ الأدبي وقد رأيناه ينتقد كلا من سانت
بوف وتين اللذين حاولا أن يقيما تاريخًا أدبيًا لا يستطيع أن يفسر لنا بطريقة
علمية صحيحة نفسية المنتج والصلة بينها وبين ما تنتج، وما دام التاريخ الأدبي لا
يستطيع أن يبرأ من شخصية الكاتب وذوقه، فلن يستطيع أن يكون علمًا.
كتاب
حديث الأربعاء:
كتاب
حديث الأربعاء في بداية أمره كان مجموعة مقالات عن الشعر العربي نشرت في صحيفتي
السياسة، والجهاد كل يوم أربعاء من كل أسبوع، ليقرؤها الناس وينتفعوا بها، ثم جمعت
فيما بعد في كتاب من ثلاثة أجزاء بعنوان "حديث الأربعاء" وكان نشرها في
أعوام متفاوتة، فالجزء الأول نشر عام 1925، والجزء الثاني نشر 1926، ثم الجزء
الثالث عام 1945.
يعد
كتاب حديث الأربعاء مدونة أدبية تناول فيها طه حسين تجديد الخطاب الثقافي في الأدب
العربي منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث، تحدث عن شاعر أو أكثر من شعراء في المراحل
الثلاث، الجاهلي، والأموي، والعباسي، ثم تكلم عن بعض الجوانب الفنية لعدد من
الشعراء، آخذًا قصائدهم بالشرح والتحليل، وبيان مواقع الجمال، ثم تناول الحديث عن
القديم ونقده لبعض العصور والشعراء غير متأثرٍ بآراء من سبقه؛ لأنه يرى أن النقد
العلمي ينبغي ألا يتأثر بالعواطف، فهو لا يقدس القديم، إنما يرى أن أقوال القدماء
لا يؤخذ بها بالضرورة، بل من حقنا أن نخالفها، أو نعترض عليها؛ لأنها ليست آراء
مقدسة، وهو يريد أن يستخلص فكرة تؤيد التجديد في الأدب العربي مع المحافظة على
التراث القديم، وضرورة الإفادة من الآداب الأخرى، ثم أشار في مقدمة كتابه إلى
أهمية هذه الفصول، إذ إنها أزالت غموضًا كان يكتنف ناحية من نواحي الأدب العربي لم
تكن واضحة، وأن لها قيمة أدبية كبيرة، ستثري المكتبة العربية إذا استخرجت كنوزها
التي جهلها الناس.
الجزء
الأول: تناول فيه طه حسين الأدب الجاهلي وشعراءه، وأصحاب المعلقات بأسلوب شيق يجعل
المستمع يتابع كلامه بشغف، محاولا تقريب الأدب الجاهلي للقارئ، فهو يتحاور مع
صاحبه المتخيل الذي يسأله ويعارض ويكره الشعر الجاهلي؛ لأنه في نظره وعر وصعب لا
يفهم منه شيئًا، ويشير طه حسين إلى أصل هذه الأحاديث إذ يقول: "الأصل في هذه
الأحاديث أنها أحاديث حوار بين رجلين يختلفان في حب الشعر القديم وتقويمه، فإذا
اتفق هذان الرجلان فقد يحسن أن ينقطع الحوار بينهما فيما اختلف عليه، وهو في هذا
كله يحاول إقناع صاحبه الذي يكره الشعر الجاهلي، وينفر منه، ثم شرع في الكلام عن
الشاعر بأخذ بعض قصائده بالشرح والتحليل، وبيان جمالية أسلوبه في استخدام تصويره
للحدث من خلال ألفاظه ومعانيه، ثم تحدث بعد ذلك عن الشعر الغزلي والغزاليين، وعرض
صورة واضحة للشعر العربي، وكيف كانت أغراض الغزل في الجاهلية إذ كانت تدور حول جسد
المرأة، ثم تطورت في العصر الأموي، وصارت تتحدث عن العاشق نفسه، وأخذ يقارن بين
الشعراء الغزاليين في تلك العصور، ثم أنهى حديثه في هذا الجزء بالشاعر الأموي عمر
بن أبي ربيعة، إذ قارن بينه وبين الناثر (بير لوتي) الفرنسي، وأثبت أن بينهما
تشابهًا كبيرًا في الأسلوب، لكن يبدو أن ثمة فرق يسير بينهما، هو أن ابن ربيعة كان
ينظم الشعر، و(بيير لوتي) كان يكتب نثرًا، لكن في نهاية الأمر كلاهما أوصل إحساسه
ومشاعره للقارئ من خلال ما كتب.
الجزء
الثاني: قدم فيه وصفًا للحياة الأدبية عند طائفة من شعراء المجون والدعابة في
الدولة العباسية، وأثر ذلك على الحياة الاجتماعية والسياسية، فتحدّث عن القدماء
والمحدثين، أو عن القديم والحديث، وأفرد لهما مساحة واسعة في كتابه، ثم تحدث عن
الصراع بين القدماء والمحدثين في العصرين الأموي والعباسي، وأن لكل مذهب أنصارًا
ومؤيدين، مما ساعد على تجديد الشعر لفظا ومعنىً وموضوعًا، وكان له دور كبير في
تطوير الشعر العباسي وتوسعه، فبعد أن كان مقتصرًا على أغراض تقليدية وأوزان محددة،
توسع إلى فنون ومواضيع جديدة، ورغم دراسته لعدد من الشعراء أمثال بشار بن برد وأبي
نواس، إذ جعلهم يمثلونه تمثيلا صادقًا، ولهذا يقول في الكتاب " وإذا أردنا
مثالا يختصر هذا العصر ويشخصه، فهذا المثال هو أبو نواس".
وأشار
في الكتاب إلى النقد الشديد الذي تعرض له لتشكيكه بالقرن الثاني الهجري ووصفه له
بأنه كان عصر شك ومجون، وقد أنهى الجزء بالحديث عن القديم والحديث، وأشار إلى
الخصومة التي جرت بين مصطفى صادق الرافعي والذي كان يؤيد المذهب القديم ويدافع عنه،
وسلامة موسى الذي كان يؤيد المذهب الجديد ويدافع عنه.
الجزء
الثالث: تحدث فيه عن الأدب العربي المعاصر، وعن المساجلات والرسائل النقدية التي
جرت بينه وبين خصومه من نقاد عصره، ثم أكمل حديثه عن الخصومة التي جرت بين الرافعي
وسلامة موسى حول قضية القديم والحديث، وأخذ يتحدث عن أنصار القديم والحديث، وذكر
أن اللغة هي معيار المقارنة بين القديم والحديث، وتحدث عن اللغة الرسمية في مصر،
وذهب إلى الحديث عن أخلاق الأدباء، ثم تناول بعض الأدباء والشعراء في الدول
العربية، تحدث عنهم، وأخذ ينقد بعضهم، ثم أنهى حديثه في هذا الجزء عن قضية نزاهة
الأدب.
أهمية
الكتاب:
تظهر
أهمية الكتاب في أنه يمثل رؤية لطه حسين وخلفياته الفكرية وتجليات محاولة تجديد
الخطاب العربي الثقافي عن طريق تضمين كتابه "حديث الأربعاء" آراء نقدية
من خلال ما أورده من نقاشات كان بعضها محل اتفاق بين الأدباء، بينما كان بعضها
الآخر أرضًا خصبة لمخالفيه، وأوضح مثالٍ على وصفه القرن الثاني بأنه عصر شك ومجون،
فرد عليه بعض الأدباء، وعلى رأسهم مصطفى الرافعي الذي لم يوافقه القول، ثم هذا
الكتاب له أهمية أخرى من وجهة نظري أنه عاد بنا إلى الأدب الجاهلي وحاول أن ييسر
للقارئ هذا الأدب فيحببه له؛ لأنه يملك أسلوب المحاور القادر على الإقناع، والذي
قلما نجده من أديب غير طه حسين، ثم كان جريئًا في كثيرٍ من القضايا التي يطرحها
غير متأثرٍ بآراء الذين سبقوه ولا بنقدهم، متمسكًا برأيه ثابتًا عليه في القضايا
التي يطرحها.