شاءت الأقدار أن أقرأ شعر محمد الشحات، فهالني
عمقه، كمه، لغته، صيته المغمور، بحثه الدءوب عن وطن، عن لغة جديدة، عن جسد يسكنه،
عن ذات تؤويه، عن أثر باق، عن صدى مسموع، عن صوت، عن لحن شارد، عن شعر مختلف، عن
حالة، عن حياة غير التي يحياها.
محمد الشحات صوت شعري فذ، تجاهلته أقلام النقاد، فعاش منزويا
في مشروعه الشعري باحثا عن ثغرة ينفذ منها إلى الآفاق، فكتب عددا ضخما من الدواوين
تقرع الأسماع، وتنطق الأحجار، تفيض شاعرية، وتقدم جديدا مقبولا. لكن؛ لماذا شعر
محمد الشحات؟
ينتمي شعر محمد الشحات إلى شعر السبعينيات، فهو
مواليد 1954م، بمحافظة الدقهلية، عمل صحفيا بدار أخبار اليوم بالقاهرة، ولعل هذا
أثر في تشكيلاته الشعرية، واللغوية، فجنحت لغته إلى السهولة واليسر، ومالت صوره
الشعرية إلى عدم التعقيد، والانغلاق، والتعمية، وتفرد بخصوصية الكتابة على موسيقا
التفعيلة، غير منساق إلى ما انساق إليه جيله من التمرد على اللغة والموسيقا والتراث.
بل بدا وفيا للغته وموسيقاها وصورها في إطار من التميز مقارنة بشعراء السبعينيات
من جيله. وذلك تأكيدا لانفتاح شعراء السبعينيات على كل الأشكال الشعرية المطروقة
وأنه ليس صحيحا أنهم مالوا جميعا إلى ذلك التمرد اللغوي والموسيقي والانحراف
بالمعنى الشعري إلى غياب مرجعيته، وتلاشيها. ومن ثم يكون شعر محمد الشحات وثيقة
تاريخية مغايرة تدل على ثراء التجربة السبعينية.
الحياة بلا أي وجه() عنوان ديوانه الثاني عشر،
ويمكنك أن تلحظ عددا من الظواهر الموضوعية والأسلوبية في الديوان لتنسحب بطبيعتها
على باقي الأعمال، ليكون بين يديك مفتاحا تفك به شفرات باقي الأعمال.
***
شعرية الفكرة
يظن بعض القراء أن الشعر يجب أن يحلق في فضاء،
وفراغ كوني نتيجة صفائه ونقائه وشدة ابتعاده عن مركز ثقله وأرضه التي يقف عليها
ويثبت أقدامه فوقها، فيهملون الفكرة أملا في الوصول إلى الشعر الخالص أو الشعر
الصافي.
والحق أن الشعر في جوهره لا يتعارض مع كونه يحمل
أفكارا شريطة عدم طغيان هذه الأفكار على ما هو شعري، وأن الشعر الذي يجافي الأفكار
هو ضرب من الوهم وقع فيه بعض الشعراء، وتبعهم في ذلك بعض الناقدين. ويبقى الشعر في
جوهره متزنا مع أفكاره ليشد إليه جمهوره الذي فر منه إلى الرواية والمسرح وبعض
الفنون الأخرى، بغية الوصول إلى الدهشة المبتغاة.
ومن ثم فشعر محمد الشحات نزع إلى البحث فكرة
شعرية ينطلق من خلالها إلى أفق مخيلة القارئ، فوجد ضالته في وطن بديل للوطن الواقع
في الحقيقة، ومسألة الوطن تشغل مساحة كبيرة من شعره، فغالبا يؤرقه ما يراه في
الوطن الفعلي من اضطراب وترهل وتمزق، فيضطر إلى اللواذ إلى الحلم أو الخيال أو
الصورة المثلى التي يرسمها في شعره.
فانج بَصْمتكَ/وَاِحْتَرَس منْ ضيقِهِ/وَاُتْرُكْ
مَشَاعِرَكَ الْفَتِيَّة/تحتمى بِدُموعِ لَيْلَى/وَاِرْتَم فى أبحرى جفَّتْ مَدَامِعنَا/فبكيت
منْ وجعى/وَضَاقَ الْحرَف/وَاِنْكَسَرتِ كُلُّ الْبُحُورِ/وَبَتَّ أَبَحْث/فى
بُيُوتِ الشَّعْرِ/عَنْ بَيْتِ/لأسُكنه
إن الوطن كالطفل الغائب، يبحث عنه ذويه في كل
شيء، وفي كل مكان، فقد يكون في حضن أب، بيت شعر، مدينة غريبة يذهب إليها لأول مرة،
في كركرة أطفال البيت، في نظرة حزن من عين شهيد، .. يبحث عنه كثيرا، وأحيانا يجده،
أو لا يجده، ولكنه في كل الأحوال يستشعر نوعا من جلد الذات، فيضطر إلى غلق عينيه
عن المساوئ، ويتكتم حزنه في داخله، ويلوذ بالصمت، وطالما عبر الشاعر عن هذا
الإجراء كوسيلة من وسائل جلد الذات في قصائده فتأمل قوله من قصيدة: الضحك من الخوف:
تأمل قوله في قصيدة: من يومياتي في مدينة
أمريكية:
أنا من بلاد/لها ما لها/ولى أن أهيم بها/كنت
أخفيتها فى دمى/هنا حين تمضى/سيعرفك العابرون ولن ترى/فى الوجوه سوى/رجفة
النازحين/فأغلقت عينى/على كل ما كنت أحمله من بلادى
أو قوله في قصيدة الضحك من الخوف:
كَانَ لِلْمَوْتِ رَائِحَةَ/ وَالْقِطَارَات
مُسْرِعَةَ/اِرْتَخَى جِفَن عَيْن/ طَالَ بِهَا شَوْقهَا/ لِلْوُجُوهِ التى
غَادَرتهَا/ تَنامَى عَلَى وَجْهِ الْحُزْنِ/ فَظَلَّ يُقَاوِمُهُ/وَأَغلق
عَيِّنِيهِ/عَلَى خُوَّفِهِ/ قَبْلَ أَنْ يُغَازِلَهُ النُّوَم.
ستجد أنك أمام تعنيف معنوي للذات الشاعرة، وذلك
بإغلاق العين على القذى، وهي ظاهرة ترددت في شعر الشحات بشكل لافت. الإجراء الآخر
لجلد الذات هو تعنيف مادي يتمثل في تكريس الألم بإبراز مظاهر أعضاء الجسد وهي
تعاني مرارة القسوة والعنف، بغرض إلحاق الضرر بالجسد، بدءا من خلع الثوب والمكوث
في الطل، وهو نوع من أنواع العقاب للجسد، بغية تطهيره والتخلص من الأوجاع والهموم.
ولكن الحذر من استمراء ذلك العذاب المادي والنفسي في محاولة منه لإدمانه، ويصير
نوعا من العادة كالغضب المقدس، واشتهاء الدمع..
سأخلع ثوبى/وأمكث فى الطل/.../نزعت فؤادى/
وعلقته على أستار بيتى/لعل الطيور التى لم تعد/ تتمايل من شدوها/تدغدغنى/وتسقط ما ظل يعلق بى/سأخلع ثوبى/وأمكث
فى الطل/حتى يأذن الله لى بأن أتطهر.
لم يكن غلق العين على القذى والمساوئ هو
المُخَلِّص من الهموم والأوجاع وحده؛ بل كان يبحث عن شيء أكثر تأثيرا، كالبحث عن الشعر
الذي يرى أنه أكثر تأثيرا وفاعلية من غلق العينين على مضض، فالشعر عنده هو الحياة،
وسر أسرار الوجود، والباحث عن الشعر هو باحث عن استكناه الموجودات، وليس الشعر
مجرد مروق فكري يبتسر به.
جفَّتْ مَدَامِعنَا/فبكيت منْ وجعى/وَضَاقَ
الْحرفَ/وَاِنْكَسَرت كُلُّ الْبُحُورِ/ وَبَتَّ أَبَحْث/فى بُيُوتِ الشّعْرِعَنْ
بَيْتِ/لأسُكنه.
ولا يقتصر البحث عن الشعر فحسب؛ بل يبحث عن لغة
غير التي يمارسها، لغة تنجيه من عذاب النفس، وتقيه من شرورها، لغة الفرح المسافر
في دمه، واللغة التي ينقب عنها هي النجاة من الغث المكرر، والأحزان الراسخة فوق
كلكل الحروف، فإذا تأملت قوله في قصيدة البحث عن لغة:
كنت أتوه فى لغة
تعاندها الحروف
فهل ستعيد لى لغتى
لأكتب
يا ربيع العمر لا تقس على رجل
قد أثقلته جبال الحزن والألم
قد عشت أبحث عن دنيا أسامرها
فما وجدت من الدنيا سوى الندم
فإنك ستدرك في التو أن الشاعر ضجر من لغة معادة،
مكرورة، حيث يكتب معظم شعراء جيله، وأنه يتوق إلى لغة رصينة، محكمة، يراها في
الشكل التقليدي للقصيدة، ولذا كتب بيتين بطريقة تقليدية، يراعي فيها وحدة الوزن،
والقافية، فلعل هذا ما كان يبحث عنه بشغف، وعندما وجده انتهت القصيدة. ولم تنته
القضية عند هذا الحد؛ بل راح ينشد الانفلات من ربقة الأنام لتتبدى أمامه سعة العيش
مع النمل، نمل سليمان، تحت الأرض، لا فوقها، ففي الأرض تتجلى الأفكار، وتنكشف
الأسرار.
***
هل أصبحت الحياة المُعاشة لا تطاق؟ هل باتت
الشكوى على عتبات الأسئلة حيرى؟ هل يستطيع المرء أن ينجو من رتابة الحياة والواقع؟
ألم تكن الحياة هبة من الخالق فلماذا يؤثر الشاعر النجاة منها؟ هل في حياة
الكائنات الأخرى ميزة ليست لدينا؟ لماذا يفر الإنسان من الأشياء التي اعتادها؟ حتى
إنه ليفر من ظله الذي يلازمه؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تعاركت في صدر الشاعر، ونتج
عنها ما يمكن أن نسميه الهروب من العادة، والروتين اليومي، والوله بالمغامرة، وحب
الوحدة والانعزال حتى لو كان هذا الروتين ظلا يلازم الإنسان؛ ستجد كل ذلك في قصيدة
(المضي بلا ظل) وكلها علامات على الهروب من الواقع المُعاش، وهي علامة دالة على
ضيق الإنسان المعاصر، واستعذاب العزلة.
وعندما تعجز اللغة عن الوفاء بمتطلبات التعبير
عن الذات يلجأ الشاعر إلى الرمز، ففي الرموز وفاء للإيحاء بالأفكار والمشاعر،
وإثارتها بدلا من تقريرها أو توصيفها، ففي الحياة نصادف أصنافا من البشر يتلونون
كالحرباء بألوان مختلفة حسبما تحتم الظروف، حتى إنك لتجد لوجوههم التي اعتدت أن
تراها ألف وجه ووجه، فمنهم من يرتدي قناع التقوى والورع، وهو فاجر فاحش، ومنهم من
يرتدي وجه الصداقة والمودة وهو ألد الخصوم، وكلما رأيت لذات الشخص وجها أو نصف وجه
أصابك وجهه بالغثيان والارتباك، وهنا يلجأ الشاعر إلى الرموز للإيحاء بمكنون نفسه،
وهنا تصبح الحياة التي نعرفها خالية من الوجوه التي نعرفها أيضا، وربما يؤثر
الشاعر النظر إلى بكارتها، وبعيدا عن الوجوه الزائفة،
كان يبحث عن وجهه
كلما أشتاق
أن يتجول فى طرقات المدينة
عاجله الخوف
فأجلسه
أى وجه سوف تلبسه
وقد خاصمتك الوجوه
وما عاد يحلو لها أن تصاحبك
ارتضى أن يساوم ما قد تبقى
نصف وجه
وهو أحيانا يأرز إلى الحلم الكائن في المجهول،
ليجد فيه خلاصا من هموم الواقع المنكسر؛ ففي الأحلام تتجلى الذات على الغيب، وترى
ما لا تراه في الواقع المهزوم، لعله ينسلخ من آلامه وأوهامه إلى خيال أكثر رحابة
واتساعا..
كنت أرى فيما يرى النائمون
خيوطا من النور تنقر صدرى
فيثقل ظهرى..وينشرح القلب
وقد يكون الحلم المرجو أضغاث أحلام، وتجسيدا
لأشباح الظلام، تجثو على صدره ليصبح الحلم أكثر قتامة من الواقع، فيفر منه هاربا،
متخذا سبيله بين الآلآم والمخاوف سربا، وقد رَنَقَ ماء عيشه بعد صفو.. إنها أضغاث
أحلام/ تجيء إلي/ كلما حاولت أن أغفو.
إن عدم قرار الذات الشاعرة للتخلص من الهموم
والأحزان المحيطة بها، وتذبذب القرار بين الحلم واللاحلم، أمر محير، وهذه الحيرة
مقصودة لذاتها، فهي ذات حيرى، ثكلى بالأحزان، تحط تارة على الحلم، وتنفر منه
أحيانا، فلا تعرف لها مصيرا حقيقيا، ولا مقاما ثابتا، وهذه سمة الذات القلقة دائما.
لم تقف حيرة الذات هنا على الحلم، أو اللاحلم،
أو النهر، أو غلق العين على المساوئ، أو.. بل تعدى ذلك إلى استحضار أفكار الشعراء
الفلاسفة كأبي العلاء المعري، متخذا منه فكرة التغير، وعدم الثبات؛ فما دامت
الحياة وليدة الطبيعة فإنها حتما تمر بمراحل الكائن الحي، من ميلاد، وفتوة وشباب،
ثم هلاك وموت، ثم تدور الدائرة من جديد لتبدأ دورة جديدة للحياة والكائنات.
أرى الأشياءَ ليسَ لها ثباتُ وما أجسادُنا إلاّ نباتُ
فهل يا قلب حين يضيق صدرك
أو حين تهزك الأيام
تورق
تصبح نبتة
أو هل تصير العين أعينا
إن المتأمل في شعرية الذات القلقة - هنا - يلحظ
تحول الذات الإبداعية إلى حالة من الانفصال والاتصال في آن، وذلك للكشف عن أسباب
الضياع والانهيار والتشتت الذي تعاني منها، الانفصال يكون بانشطار الذات القلقة
داخل الذات الإبداعية لإحداث صدمة لحظية للواقع المعيش لانكشاف زيفه، وتعرية
دواخله الخبيثة.. هنا نقتل الرغبات ونحبسها بداخلنا، هنا كل شيء/ كنت أرقب كيف تنامت
بداخلنا/ وكيف تدار معاركها.
***
يداعب محمد الشحات التراث مداعبة لا تخلو من
طرافة؛ فيقف على أبيات شهيرة من التراث الشعري القديم ليبدأ بها كل مقطع من مقاطع
قصيدته المشاكسة"مشاكسات تراثية" وفيها يحاول انكسار الصورة القديمة،
وانعكاسها على ذاته المقهورة، فتبدو الذات حاملة ثنائية دلالية: دلالة الماضي
القديم المنتمي إلى ذات مماثلة، ودلالة الحاضر المنكسر، والواقع المهزوم، والمأزوم
في آن، وليست هذه المنمنمات التراثية إلا بديلا للمجاز والاستعارة التي انخرط فيها
شعراء السبعينيات.
"ألا ليت الشباب يعود يوما"/ فامض
ضاحكا/نحو المشيب/قد عشت عمري كله/في غفلة/أهوى الهراء/ولن يجدّ جديد/تمر
خلفي/خلسة/فأعيش طول العمر/بلا تجديد
ولا يخفى على القارئ جدوى تلك المنمنمات
التراثية الفاعلة في النص؛ فهو تارة يثبت قدرته القولية على مجاراة القدماء،
ومحاولة التسري بهذه الأقوال الشهيرة، وتارة أخرى –وهو الهدف الفعلي-يحاول أن يكسر
أفق توقع المتلقي عند تأمله لدلالات هذه الأقوال لما يضفيه عليها من أسرار ذاتية
خاصة، تمنح تجربته شيئا من التميز والخصوصية. وقد نجح في الأمرين كليهما، مع
الاحتفاظ لكلٍ بخصوصيته وتميزه. ومن ناحية أخرى فإن كل المنمنمات التراثية
المستخدمة لا تنتمي إلى حقل الإبداع الرومانتيكي، بل ينتمي إلى فضاء أكثر سعة، وهو
الفضاء الإنساني الرحب. ولعل هذا الملمح في الاستخدام التراثي يشير إلى تجربة
الشاعر برمتها، فهي تجربة إنسانية بامتياز، وإذا ما قدر لهذا الشعر أن يترجم إلى
لغات أخرى سينال حظوة كبيرة لدى الغربيين الذين يؤمنون بكل ما هو إنساني.
لم يكن ابتعاد التجربة الشحاتية عن شعر المرأة العاطفي المتعارف عليه منذ
القدم حتى الآن اختيارا، بل اقتناعا بأولوية القول وأهميته، ومدى تأثيره في
المتلقين على اختلاف مشاربهم. فللشاعر أعمال إبداعية كثيرة تتجاوز العشرين ديوانا،
نصيب شعر المرأة العاطفي فيها قليل جدا، ولذا تجلت موضوعات الوطن والاغتراب النفسي
الحاد كموضوع شعري أثير لدى التجربة الشحاتية برمتها. يأتي هذا التغييب المتعمد في
الوقت الذي غيب فيه شعراء السبعينيات الموضوع الشعري برمته، حتى غدت القصيدة على
يديهم ضربا من الفراغ والمجهول؛ نظرا لغياب الذات والموضوع معا، "فالقصيدة
عندهم لا توحي ولا تعلن ولا تصرح ولا تبوح، بل تصدر عن عمد إلى ما هو ضد ذلك"()،
وذلك لأن شعراء السبعينيات تطلعوا إلى أرباب الشعر الغربي، ونصوا صراحة: إنها
قصائد لا معنى لها، وقد حرر رامبو الشعر من قيود الدلالة ()،
فكان حتما إفراغ الشعر من معناه.
ودلفت المرأة - في هيئتها المعهودة - إلى إطار
القصيدة كرمز شعري، يحمّلها الشاعر فكرته المختمرة في أعماقه، كما في قصيدة "امرأة
لا يعرف أين يخبئها" حينما أوحى إلى مرأة لا يعرفها بسره، محاولا رسم صورتها،
وملامحها، إلا أنها كانت عصية على الاحتواء، فتلوذ بالفرار، فلم يملك إلا أن
يحبسها في أقفاص الصدر.
فليست المرأة هنا إلا رمزا للقصيدة التي تتبدي
تارة وتختفي أخرى، يحاول الشاعر الإمساك بتلابيبها فتفر كالقابض بكلتا يديه على
الماء، فما أصعب أن ترى الفكرة الشعرية سانحة أمامك ولكن سرعان ما تفر ويبقى
الشاعر محاولا السيطرة على فكرته قدر المستطاع ولكن في ضميره الجمعي، أو في أقفاص
الصدر كما قال:
اعتدلت في جلستها وهي تحاوره/فحاول أن يرسم
صورتها/ مدت يدها/ ومحت كل ملامحها..
كان يحاول أن ينجو من أسر هواه/ فأفرغ ما كان
يخبئه/ لمسات أصابعها/رعشتها/رجفته/ أحرفه حين يخالطها الخوف/ ويسألها هل تعشقه/
كان يحب امرأة لا يعرفها/ ظل يطاردها/ ويحاول أن يحبسها في أقفاص الصدر..
بيد أن ثمة هنات أسلوبية وقع فيها الشاعر منها
وقوع حروف التسويف بعد أسماء وأدوات الاستفهام، فالمضارع بطبيعته يوحي بالاستقبال
وليس من الضروري إثبات حروف التسوف قبل المضارع، وباستعراض النموذج الأعلى للغة
متمثلا في القرآن الكريم يكشف بجلاء امحاء هذه الظاهرة.{كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون}[البقرة:28] وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ
نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ
أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[البقرة:259] {فَأَيْنَ
تَذْهَبُون}[التكوير:26] وقد لحظ ورود هذه الظاهرة عند معطم الشعراء لذا وجب
التنويه، ومنها لدى شاعرنا قوله: فَهَلْ سَتَصْرُخُ/ فى وجوه الْقَاتِلِينَ..أو قوله: ترى هل سأنجو/وهل آن وقت التطهر/وهل سأعود كما
جئت
ومن هذه الهنات الأسلوبية التي وقع فيها الشاعر
حذف النون من المضارع المرفوع بلا ضرورة؛ كقوله:
أيا نفس
ألا تكفين عن الأمر بالسوء
متى تطمئنى
وتأتين راضية
فالفعل المضارع تطمئني وجب فيه إثبات النون،
وليس حذفها، فهو ليس مجزوما ولا منصوبا.
يبقى أن أشير إلى تطور التجربة الشعرية لدى محمد
الشحات عبر أعماله الفنية، التي تمثل نقلة نوعية حقيقية في مسيرة الشعر العربي
الحديث، تتمثل في المحافظة على إيقاع الفكرة، وخلق تناغم بين الموروث الشعري وسطوة
الحداثة، في إطار درامي متنامٍ، يعكس ذوقه في اختيار التفعيلة، الرمز، الصورة
المبتكرة، غير التقليدية، توظيف النثر والسرد، في بنية القصيدة الحديثة.