الخميس 2 مايو 2024

عن شجرة الثقافة المصرية التى لا تقف الطيور فوقها

فن23-10-2020 | 14:44

تلخص الشجرة سيرة وأحوال البشر الذين زرعوها وتعهدوها، يدخل الطرفان فى علاقة متبادلة من الأخذ والعطاء، ولكن سيكتب للشجرة أن تبقى عمراً أطول من أعمار منبتها.

المتتبع لتعاقب النهايات البيولوجية للمثقفين المصريين بالموت خلال العقدين أو الثلاثة الأخيرة سوف يلاحظ ان ثمة اختفاء لجيلين أو ثلاثة أجيال شكلوا خريطة الثقافة المصرية ، ومن الصعوبة بمكان أن يستعادوا أو يملأ الغير خيزهم الإبداعى والفكرى.

تأمل هذه السلسلة من رموز الثقافة المصرية والذين رحلوا تباعاً خلال السنوات القليلة الأخيرة " محمد حسنين هيكل، والسيد يسين، ومصطفى سويف، ومحمود عبد الفضيل، والطاهر مكى، ومصطفى العبادى، وسيد حجاب، وجمال الغيطانى، وأحمد أبو زيد، وعبد الرحمن الأبنودى، وأحمد فؤاد نجم، ومحمد كامل القليوبى، وفاتن حمامة، وعمر الشريف، وفاروق شوشة، وسمير فريد، ورضوى عاشور، وإبراهيم أصلان، وسامى خشبه، ومحمود عوض، وجميل سفيق، ومحمد حافظ دياب، وعبد المعطى بيومى، ونبيل على، وحامد عمار، ونعمات أحمد فؤاد، وفاروق عبد القادر، وطلعت الشايب، وأحمد الشيخ، وحمدى أحمد، وأنور عبد الملك، وعز الدين إسماعيل، وثروت عكاشة، ومحمد السيد سعيد، ورضوان الكاشف، ورجاء النقاش، ويوسف جوهر، وعبد التواب يوسف، ويوسف شاهين، ورفعت جرانة، وفؤاد زكريا، وعبد الوهاب المسيرى، وخليل كلفت، وسلامة أحمد سلامة، ومصطفى محمود، وحلمى سالم، ومحمد البساطى، وإمام عبد الفتاح إمام، وعزت قرنى، ويوسف شريف رزق الله، ومحسنة توفيق، و محمد نبيل نوفل" كأمثلة،  هل نعود إلى عقد أبعد مع رحيل يوسف إدريس وأحمد بهاء الدين، وزكى نجيب محمود، وسليمان حزين، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدى، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وسليمان حزين، ورشدى سعيد، وأحمد مستجير، ولطيفة الزيات، وبنت الشاطئ ويوسف عز الدين عيسى، ونعمان عاشور، وسعد وهبة الدين وهبة، وألفريد فرج، وأمينة السعيد، وأحمد نبيل الهلالى، ويحيى حقى، وسهير القلماوى، وعبد الرحمن الشرقاوى، وصلاح أبوسيف، ورتيبة الحفنى، وعبد الرحيم منصور، ولويس عوض .

فنحن أمام اختفاء جيلين أو ثلاثة أو أربعة من المثقفين المصريين فى مختلف فنون الإبداع والفكر والبحث العلمى والذين تضمهم شجرة الثقافة المصرية ، والذين تكونوا وظهروا وأبدعوا فى سياق تاريخى مختلف ، وفى ظل معادلة مجتمعية وعالمية متباينة.

إن القول إن مصر ولادة ، وإن عطاء الإبداع المصرى أو مخزون الرفد والتلاقح والخصب لا ينفد لا يقلل من شأن اختلاف الشروط التاريخية الإقليمية والعالمية والوطنية فيها ، وهو ما لا يمكن استعادته مع المواهب الجديدة التى تعبر عن إمكانية مختلفة، يمكننا أن نحقب الأرضية التى نشأ وتكون وأبدع فيها المثقفون الراحلون خلال العقود الأخيرة بتبسيط غير مخل إلى جيل الحقبة الليبرالية ، وجيل ثورة يوليو ١٩٥٢ولكل حقبة سياقها وظرفها المحلى والعالمى المختلف، وإذا كان الدرس السوسيولوجى أساسياً فى فهم المسار الثقافى ، وحركته واتجاهاته فإننا أمام حقبتين، الحقبة الليبرالية - الملكية والتى كانت أكثر رحابة من ناحية حرية التفكير والتعبير وتباين المدارس الفكرية والإبداعية ، إلا أنها كانت متمحورة حول قضية الاستقلال سواء التخلص من عبء الاحتلال البريطانى أو حيز الاستقلال الشكلى ، وهى قضية وطنية داخلية ، وفى حين كانت الحقبة الناصرية حقبة التحرر الوطنى والاستقلال الحقيقى والدور الإقليمى والإسهام فى صياغة خريطة جديدة للعالم ، وتفجير الإبداع الذاتى للملايين من المهمشين والعوام فى تطلعهم المشروع الى الصعود الاجتماعى عبر حراك اجتماعى رأسى،                                                              فى حين سمحت الحقبة الليبرالية بإرساء قيم التسامح والاختلاف وقبول الآخر ، واحتضنت تيارات فنية وفلسفية طليعية مثل جماعة الخبز والحرية وجماعة الرواد، ولجنة التأليف والنشر، وشهدت صدور أهم أدوات القوة الناعمة فى السينما، والتعليم، والمسرح، والأغنية، وأصبح الجمهور العربى ينتظر مع مطلع كل شهر مجلات "الثقافة، والرسالة، والهلال والفكر المعاصر، والتطور، والكاتب المصرى" ، وأطلقت الأعمال الكبرى فى بلورة الشخصية القومية ، والهوية الحضارية المصرية كأعمال سليم حسن وعبد الرحمن الرافعى و"مستقبل الثقافة فى مصر" لطه حسين ، وبزوغ مشروع عبد الرحمن بدوى، وكان واضحاً أن " القضية المصرية" وهى قضية الاستقلال كانت محور الثقافة المصرية فى ذلك الوقت ، وهو ما شهد ظهور الجماعات الأدبية مثل "ابوللو والديوان" ، وتجربة الاستقلال الاقتصادى مع طلعت حرب ، ومشروع القرش مع أحمد حسن ، ومشروع الإصلاح الزراعى مع إبراهيم شكرى، وكان بحكم التكوين الفسيفسائى السكانى الكوزموبوليتانى له تأثيره فى إغناء الخطاب الثقافى المصرى، وانفتاحه على الحركة الثقافية فى الغرب، كما أن التعددية الحزبية ـ مع حيزها السياسى المقيد ساعدت على إغناء ثقافة العيش المشترك، وقبول التنوع الثقافى والفكرى والإثنى، ولذلك كانت جميع التيارات السياسية ممثلة فى المشهد الإبداعى والفكري المصرى، وإن كان ضعف قضية خطاب العدالة الأجتماعية ، خاصة فى ظل حكم الملك الفاسد ونفوذ السفارة البريطانية ، وجشع القوى الإقطاعية والرأسمالية الصناعية تظل محددة بظلال وأبعاد المجتمع .

أما ثورة يوليو، وعلى الرغم من الطابع العسكرى لقيادتها، إلا أن السياسات الشعبية فى الخمسينيات، ومسار التحول الاشتراكى والستينيات ، وصدام القيادة الناصرية مع الكيان الصهيونى وسياسة الأحلاف المشبوهة، وأنظمة الرجعية العربية ومحاولة الانفتاح على القوى اللاعربية ، وانتهاج سياسة الحياد، ثم عدم الانحياز، وتبنى خطاب التحرر الوطنى، ووحدة الثورة العربية، ثم بروز الخطاب القومى والذى بلغ ذروته إبّان دولة الوحدة المصرية السورية (1958 ـ 1961) وضرب نفوذ القوى الإقطاعية والرأسمالية ، وتبنى سياسات منحازة جماهرياً للقاعدة العريقة من الشعب قد طرح أجندة مختلفة على المثقفين المصريين أكثر عمقآ من سابقتها ، وإن كان تفضيل الإنجاز فى مجال الديمقراطية الاجتماعية على حساب الديمقراطية السياسية، ونفوذ الأجهزة الأمنية قد خلق وضعا ملتبساً، فسياسات عبد الناصر الداخلية والعربية والدولية كانت تلقى تأييدا واسعا، وان كانت هذه السياسات التقدمية للدولة الوطنية تتم من خلال تنظيم سياسى لم يثبت أمام غياب الزعيم، وضيق حيز المجتمع المدنى ووضعه تحت الرقابة وإلغاء الأحزاب، ونفوذ المؤسسة الأمنية والعسكرية حددت فضاء التغيير ، وأدت إلى ازدهار الأدب الرمزى.

ثمة انقطاع بين الأجيال الإبداعية السابقة، وتخبط الجيل الحالى سواء المبدعين والقراء منهم، فقد استبدل الجيل الحالى قراءاتهم المرجعية بأدب رموز جيلهم أمثال أحمد مراد، وحسن كمال، ولم تعد إبداعات نجيب محفوظ، ويوسف ادريس، والحكيم، وبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، والغيطانى، فى دائرة اهتمامهم، وربما يفسر ذلك بأمرين الأول ثورة يناير 2011 والتى اغتالت مفهوم الأب بمعناه الرمزى، وكذا راحوا يخفون عن كتابهم وأصواتهم بل ونقادهم، وامتد هذا الانقطاع إلى الصحف المكتوبة التى ما عادت تحظى بثقة وجاذبية لديهم ، وربما بالتحديد منذ عام 2008 ، وعندما أتى رجال جمال مبارك إلى موقع المسئولية وعندما اسال طلابى عن متابعتهم للصحف أجد أن الصحيفة الورقية أو المطبوعة لم تعد تدخل فى تشكيل ثقافتهم العامة، وهو ما يجعلنى متشائما تجاه مستقبل الصحافة الورقية .

الفجوة الأخرى التى نلاحظها حالة التباعد بين الأجيال الجديدة والكتاب الورقى، فلم تعد القراءة المنتظمة تقليداً ثابتاً فى عاداتهم اليومية، ثمة تيارات متعاكسة لثورة وسائل اتصال شبكات التواصل الاجتماعى والتى افرزت ظاهرة القارئ الصحفى، والقارئ المبدع، وهو ما يعنى أن السمة العامة لوعى الشباب وعي متقلب وطارئ وظرفى، لا يثبت عند بوصلة محددة ولا يشجع على تكوين وعى نقدى، واستعيض عنه بتكوين روابط قراء ومعجبين فى الدائرة الضيقة بحيث تشكل نسقاً فرعياً ضيقاً، داخل النسق الثقافى العام ربما يمتد الأثر إلى الإبداع الغنائى والموسيقى، فبعد عقد أو عقدين قد تختفى من الوعى المصرى إبداع ثلاثة أجبال غنائية برحيل جمهور بدأ بجيل أم كلثوم والجيلين التاليين، وهو يدل على أن فن حليم، وفريد، ونجاة، وشادية، ووردة، وصباح، وفايزة، ومحرم، ورشدى، لن تجد اهتماما بين الأجيال القادمة وخاصة مع تقاعد أو موت جيل الإعلاميين الذين شكلوا القاعدة الإعلامية لاستمرار وحياة مبدعى الأربيعينات والخمسينيات والستينيات وهو ما سينعكس على مختارات الإذاعة والتلفاز الفنية ، وهذا التغير الثقافى ربما يكون ظاهرة طبيعية فى حياة المجتمعات ، ولكن ستزداد حدتها مع حالة الانقطاع الثقافى بين الجيل الحالى والقادم والأجيال الأقدم.

إن سهولة النشر ، وتعدد منابره وخاصة الناشر الخاص على تيمة المؤلف والتى شكلت فى الظاهر  ثورة روائية، وإن كان تقييم هذا المنتج الإبداعى لا يتناسب فنيا مع صحافة العرض فضاقت حلقة التلقى، فدائرة ضيقة من الذين شارفوا على الخمسينيات، أو تعددها تكتب لمتلقيها من نفس الفئة العمرية، لا تكاد شرائح الشباب فى العشرينيات والثلاثينيات تهتم بما يكتبه سابقوهم، وهو ما يعنى حدوث تغيير كبير فى خريطة النشر الأخلاقى ـ إذاعة وصحافة وتلفازًا ـ والنشر الورقى والإلكترونى ثمة قصور شديد للتنشئة التعليمية والثقافية فى تكريس سلوك القراءة خلال العقود الأخيرة ، قل فى تشكيل الوعى التاريخى وضمور الذاكرة التاريخية بحيث أقارن وعي طلابي بالمحطات البارزة فى التاريخ الوطنى ضعيف بالمقارنة بجيلنا ، ولم تجد أسماء زكى نجيب محمود، ولويس عوض، وأحمد بهاء الدين وألفريد فرج، ونعمان عاشور والشرقاوى وفؤاد زكريا ومحمود أمين وجمال حمدان ويحيى حقى، تحتل مكانا فى الذاكرة الاستهلاكية المستقلية لدى شبابنا ، بل إن النقاط الرئيسية فى التاريخ السياسى والاجتماعى تكاد تبدو مجهولة ، ومع أن معظمها يدرس فى ثورات التعليم لكنه تعليم تدبيس أو تدبيج الشهادات التى تفتقد المصداقية والمضمون ، واختزلت قيمتها إلى قيمتها البراجماتية كجواز مرور إلى الالتحاق بالمراحل التعليمية الأعلى وفى ظل غلبة الثقافة الإيداعية التلقينية ، وغياب مستويات التفكير العليا من إبداع ونقد وحل المشكلات يمكننا أن نتصور ذائقة ووعي واهتمام الأجيال والأحداث ، والتى اقتصر معينها الثقافى على شبكات التواصل الاجتماعى على طريقة نقر الديكة أى معلومة من هنا ، وتعليق هناك ، وإعجاب أو " لايك " هنا ، أو تغريدة هناك . 

كثورة الأنامل الصغيرة على الأجهزة الإلكترونية على ثقافتها الملتبسة، وهم تلاميذ نجباء على منجزات عصرهم العلمية والتقنية ولكنهم ضحايا ضباعة الآباء التعليمية والثقافية العميقة، وبحيث نستحق أن نوصف معبرا عن الرواية الشهيرة " أبناء وقتلة "
    Dr.Randa
    Dr.Radwa