السبت 18 مايو 2024

طه حسين ومستقبل الثقافة في مصر

فن23-10-2020 | 14:55

كتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر يجعلنا نستذكر على التو كتاب ماثيوآرنولد الثقافة والفوضى Culture and Anarchy الذي يوحي إلينا أن طه حسين ربما قرأ آرنولد أو على الأقل قرأ تقاريره عن أحوال التربية والتعليم والثقافة بعد أن جاب أوروبا وخصوصاً فرنسا للاطلاع على أحوال المدراس فيها. والجدير بالذكر أن آرنولد كان قد نشر تلك التقارير إبان وجود طه حسين في بعثته الدراسية في فرنسا. وفي جميع الأحوال فإن الكثير مما يرد عند طه حسين في مؤلفه يجعلنا نستذكر ما يورده آرند في عمله.

تقول جين جارنت في بداية مقدمتها لطبعه مطبعة جامعة أكسفورد (2009) أن آرنولد أراد أن يؤسس مصداقيته كناقد ثقافي للمجتمع بشكل عام وأن يؤكد لنا وقع أفكاره على المجتمع وأن يدرأ عن نفسه تهم التباهي الفردية. لقد أراد آرنولد أن يدافع عن دوره كمفكر لا كقائم بأعمال فكرية بالمعنى السياسي على الأقل. ومن أجل ذلك رأى آرنولد أن يدفع بفكرة الثقافة قدماً كمبدأ فعّال في مبتدأ التعامل مع الحياة، وذلك كفكر يبدو العمل بدونه عبثاً. ويعتقد آرنولد أننا بحاجة إلى أن نفكر أكثر وبطريقة أكثر منهجية، كذلك تعرض آرنولد إلى العلاقة المتداخلة بين الفرد وتوجه المجتمع.

أما مشروعه الثقافي فقد اعتمد على إعادة تقييم السياق الذي يجمع التعدد الثقافي وتحديات ما بعد الحداثة مروراً بمفاهيم الموروث والآراء الرئيسية المختلفة داخل سلطة الدولة. وقد عرف الثقافة بداية على أنها حالة داخلية تتطور كمبدأ فعل شريطة أن يكون دعمه من سلطة الدولة (كما يرد في الفصل الثاني من الكتاب) كما أنه خص الذات الفضلى وهي الثمرة التي تشكلها الثقافة كمثل أعلى وأداة نقدية تتخطى الطبقية والمصالح الفرعية (كما يتضح في الفصل الثالث والخامس والسادس من الكتاب).

ومن أهم القضايا التي تعرض إليها آرنولد قضية الزمن الماضي وانسحابه على الحاضر والمستقبل إذ يلاحظ آرنولد أن معرفة الماضي ضرورية لكن ينبغي ألا تكون محصورة في الزمن الماضي. وتعني الثقافة في هذا السياق أنها "خير ما وصل إلينا من فكر ومعرفة عن العالم". إذ أننا لا نستطيع إقصاء الماضي وفي الوقت ذاته لا نستطيع قبوله كما هو. وفي هذه الحالة يعني آرنولد الاستغناء عما هو من المعجزات وما هو خارق للطبيعة واستبداله بما هو خاضع للتجربة وذا طبيعة شاعرية لموروث الديانة وليس المقصود من ذلك الوصول إلى موقع التعددية والنسبية بل المحافظة على مبدأ الوحدة بين الأطراف المتنازعة دون أن تشكل هذه التعددية وتلك النسبية سلطة على الشمولية، وتختتم جين جارنت مقدمتها لكتاب آرنولد بالقول أن المبادئ النقدية التي شغلته تتلخص في عناقه لحب استطلاع مؤسسي، وفي الالتزام لتحويل (transformation) المعرفة بدلاً من الإصرار على تأكيدها (affirmation)، وفي تنميته الحساسية التي تهدف إلى الوصول للكمال، والوقوف وراء هدف ينشده المرء ويسعى من أجل الوصول إليه بكل إصرار وعزيمة.

ما جاء في هذه الخاتمة وما ورد أعلاه في المقدمة ذاتها ينسحب على أطروحة طه حسين في الثقافة، على الأقل في كتابه مستقبل الثقافة في مصر الذي هو في اعتقادي نحتاً من عبقرية طه حسين اللغوية المعروفة والفكرية لما يرد عند آرنولد، وفي اعتقادي أيضاً أن عنوان طه حسين يصلح أن يكون عنواناً لآرنولد في مجمل أطروحته عن الثقافة، إذ أنه ينطلق من الحاضر مستحضراً الماضي لتحويله إلى الزمن الحاضر لا للإبقاء عليه كما هو أو كما كان أو حصل، بل لما يمكن أن يولّد (بلغه تشومسكي في كتابه المشهور Transformation Grammer) وذلك لاستشراف المستقبل. وبذلك يكون طه حسين يتبنى مبدأ الاتكاء على التواصل الزمني بدلاً من اتخاذ الزمن وحدة زمنية منفصلة لا يربطها غير مرور الزمن في واقع الحياة. من هنا يأتي تأكيد طه حسين على تراث الماضي وإعادة النظر إليه حاضراً ليصبح تراثاً جديداً في الحاضر أو باصطلاح باوند المعروف "جدّد الماضي" (make it new) والذي أصبح نبراساً للثقافة في القرن العشرين. ألا يذكرنا قول باوند هذا بما يقوله طه حسين: "فإن القديم لا ينتج إلا قديماً مثله ما دام التطور لم يمسسه" (ص 218). وهذا أيضاً ما يقوله طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر "مستقبل الثقافة بمصر مرتبط بماضيها البعيد" إذ يقول فيه أنا "مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكاراً، ولن تخترع اختراعاً، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وبأن مستقبل الثقافة في مصر لن يكون إلا امتداداً صالحاً راقياً ممتازاً لحاضرها المتواضع المتهالك الضعيف.

ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب. لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا من صلة، وبمقدار ما تقيم حياتنا المستقبلة على حياتنا الماضية والحاضرة نجنب أنفسنا كثيراً من الأخطار التي تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام، والاسترسال مع الأحلام" (ص18).

غير أن طه حسين لا يتوقف عند ماضي الثقافة المحلي بل يتخطاه إلى ماضي الثقافي العالمي لمزيد من إثراء حاضر الثقافة إذ يضيف قائلاً:

" ولكن المسألة الخطيرة حقاً، والتي لابد من أن نجليها لأنفسنا تجلية تزيل عنها كل شك، تعصمها من كل لبس، وتبرئها من كل ريب هي أن نعرف: أمصر من الشرق أم من الغرب! وأنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي" (ص18).

كذلك دعى طه حسين، مثل ما دعى إليه آرنولد، إلى ضرورة الرجوع إلى ما قدمته الثقافة اليونانية من قيم ثقافية تتخطى الأبعاد الزمانية والمكانية لما فيها من روح إنسانية تفيد الأجيال المتعاقبة. وفي كتابه المذكور يبين آرنولد أن الرجوع إلى الثقافة اليونانية هو السبيل إلى الخلاص من الهيمنة المادية التي أضحت تسيطر على حياة المجتمع الفكتوري نتيجة التقدم العلمي الهائل في القرن التاسع عشر. وفي قصيدة ساحل دوفر (Dover Beach) التي تعد من أروع الصور المعبرة عن روح العصر الضالة ينقل إلينا الشاعر الناقد آرنولد حنين الشعب الفكتوري إلى الرغبة في استحضار الثقافي من تراث الماضي اليوناني كبديل لطغيان الجانب المادي على حياة ذلك الشعب ربما يكون طه حسين قد تأثر بما جاء به آرنولد أو تماهى معه صدقه. غير أن عميد الأدب العربي وهو أيضاً عميد الثقافة العربية قد تجاوز آرنولد. وكيف ذلك.

اهتم آرنولد فعلاً بمفهوم الثقافة وقيمتها بل وأن كتابه يعد مرجعاً هاماً ليس فقط في العصر الفكتوري بل في القرن العشرين، إذ أن أرباب الثقافة بداية يضعونه في حسابهم عند الحديث عن خطاب الثقافة ليجعلوا من أطروحته عن الثقافة شهادة على تطور مفهومها. مفهوم الثقافة عند آرنولد أنها ثقافة الصفوة من فكرومعرفة وهي بالإنجليزية The best of what is known and thought.

وهي عبارة تقدم آرنولد وكتابه في لغة مقتضبة على أن الثقافة بالنسبة إلى آرنولد هي ثقافة البرجوازية. وقد تأثر إليوت لاحقاً بهذا المفهوم وأضحى هو الآخر يدعو إلى ثقافة البرج العاجي كما يوضح كتابه ملاحظة حول تعريف الثقافة. أما الناقد ليـﭭز فقد تبنى أطروحة آرنولد التي تقول أن الشعر نقد للحياة بل أنه لاحظ أن هذه الأطروحة لم تنل حظها من القراءة، موضحاً أن إليوت كان يرى أن الفنان يهتم عادة بتسجيل الخبرات التي تبدو له جديرة بالاهتمام وأنه الفنان هو ذلك المرء الذي يمتلك خبرات ذات قيمة تستحق التسجيل.

والأطروحة بمضمونها العام أن الشعر هو المكوّن الثقافي في الحياة وأن الشاعر هو المثقف. أي أن الثقافة انتقائية ومقصورة على الشعر بشكل خاص والفن بشكل عام. يقع كل هذا القول في كتاب ليفس الموسوم بـ حضارة العامة إلى ثقافة الأقلية Mass Civilisation to Minority Culture (1930). وهذا ما يقوله ليـﭭس في كتابه:

تعتمد الذائقة الفنية والأدبية في أي فترة زمنية على أقلية قليلة، فقط قلة قليلة هي القادرة على تقديم حكم لم يسبقها غيرها إليه. وتظل هذه الفئة قليلة في عددها رغم أن فئة كبيرة أخرى هي التي تتبنى الرأي المتميز الذي تقدمه تلك الفئة القليلة. والعملية برمتها أشبه بما تحمله الأوراق النقدية من قيمة تعادلها النسبة القليلة جداً من الذهب.

بعد ما يقرب من أربعة عقود أحرزت الثقافة نقلة نوعية عندما أضحى مفهومها يتجاوز ميادين الآداب والفنون (مع أن المفهوم الجديد ظل محتفظاً بالآداب والفنون كجزء رئيسي في الثقافة حتى في أحدث تعريفاتها) إلى ما كل ما هو غير أدبي وفني. كذلك لم تعد الثقافة صفوة ما أنتج الفكر وما توصلت إليه المعرفة عن طريق صفوة قليلة قادرة على إنتاج الثقافة وكثرة أخرى قادرة على استهلاك أو استقبال هذا الإنتاج بالشكل الذي أنتجته تلك الصفوة أي أن الثقافة لم تعد كهنوتية أو أشبه بالكهنوتية كما نعتها أرباب الثقافة الجدد.

يعد ريموند وليمز من أبرز الرواد المحدثين الذين أخذوا على عاتقهم نقل مفهوم الثقافة من أفقها التقليدي الضيق إلى آفاق الحداثة الواسعة إذ كان همه عندما وصل كيمبردج حيث كان ليـﭭس يتربع على عرش الدراسات الأدبية أن ينقل ما حاول ليفس واتباعه تأسيسه من تقاليد أدبية ثقافية ضيقة إلى عالم أرحب. ويتجلى هذا التحول من خلال كتابه الثقافة والمجتمع (1958). وما زلت أذكر كلمات إدوارد سعيد عندما قدم لي نسخة جديدة من كتاب صديقه العزيز كانت مطبعة جامعة كولومبيا قد أصدرته عام 1983. كنت قد تشرفت بزيارته في جامعة كولومبيا. قدم لي نسخة من الكتاب (من بين الكتب التي قدمها لي ونحن في مكتبه) قائلاً هذا كتاب مهم صدر على التو من مطبعة الجامعة ويستحق الثناء فعلاً، فالفقرة التي يكتبها ريموند وليمز عن الأدب الفكتوري، على سبيل المثال، تعادل مجلدات مما يكتبه غيره عن نفس الموضوع فهو ناقد فذ وصديق رائع. ذكر لي أيضاً ونحن نتناول الغداء في مطعم مجاور للجامعة أن إدوارد سعيد، سيكمل مشروع ريموند وليمز بكتاب يبين فيه استثمار الثقافة الغربية في السياسة الاستعمارية، ولابد وأنه كان آنذاك يشير إلى مشروع كتابه الثقافة والاستعمار الذي ظهر بعد مضي ما يقرب من عشر سنوات على ظهور كتاب وليمز من جامعة كولومبيا، وتؤكد مقدمة إدوارد سعيد لكتابه الثقافة والاستعمار تقديره البالغ لما يقدمه صديقه من إنجاز ثقافي ترك أثراً بالغاً في الدراسات الثقافية لاحقاً.

يقول ريموند وليمز في كتابه المذكور أن الثقافة موروث الطبقة الاجتماعية الصاعدة حديثاً الذي يحتوي على إنسانية المستقبل إذ تبحث هذه الطبقة عن السبل التي يمكن لهذه الطبقة أن تحرر الثقافة منها. بإيجاز شديد هذا هو كتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر الذي يطالب المجتمع بمؤسساته الثقافية المختلفة بالبحث عن السبل التي تعين الثقافة على الانعتاق من القيود التي تمنعها من الانطلاق إلى مستقبل أفضل.

هذا وقد تتبع ريموند وليمز الأصول التي تنبعث منها الثقافة وتاريخ تحولها عبر العصور الأدبية في كتاب بعنوان الثقافة (Culture). أما تعريفه للثقافة الذي ما زال شائعاً فهو أن "الثقافة نمط شامل من حياة أمة في مكان وزمان معينين". ويعتقد وليمز أن الثقافة في تعريفها وتحديدها هي من أصعب مفردتين في اللغة الإنجليزية. والمفردة الأخرى هي الديمقراطية. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن ريموند وليمز قد جعل العلاقة بين الثقافة والديمقراطية وثيقاً، أي أن الثقافة تتأثر تأثراً بالغاً بتوفر الديمقراطية. وحسبنا في هذا السياق أن نستذكر ما يستهل به طه حسين مستقبل الثقافة في مصر: " الموضوع الذي أريد ان أدير فيه هذا الحديث هو مستقبل الثقافة في مصر التي ردت إليها الحرية بإحياء الدستور؛ وأعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال. فنحن نعيش في عصر من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى، وأشمل فائدة وأعم نفعاً.

وقد كانت شعوب كثيرة من الناس في أقطار كثيرة من الأرض تعيش حرة مستقلة، فلم تغن عنها الحرية شيئاً، ولم يجد عليها الاستقلال نفعاً، ولم تعصمها الحرية والاستقلال من أن تعتدي عليها شعوب أخرى تستمع بالحرية والاستقلال، ولكنها لا تكتفي بهما ولا تراهما غايتها القصوى، وإنما تضيف إليهما شيئاً آخر أو أشياء أخرى.

تضيف إليهما الحضارة التي تقوم على الثقافة والعلم، والقوة التي تنشأ عن الثقافة والعلم، والثروة التي تنتجها الثقافة والعلم. ولولا أن مصر قصرت طائعة أو كارهة في ذات الثقافة والعلم لما فقدت حريتها، ولما أضاعت استقلالها، ولما احتاجت إلى هذا الجهاد العنيف الشريف لتسترد الحرية وتستعيد الاستقلال" (ص15).

وفي سياق الحديث عن النقلة النوعية لمفهوم الثقافة لابد أن نستذكر ما تركه إدوارد سعيد من بصمات واضحة على أدبيات الثقافة في مفهومها الحداثي. وحسبنا الإشارة إلى كتابه صورة المثقف الذي هو في الأصل محاضرات دعته هيئة الإذاعة البريطانية لالقائها ضمن سلسلة المحاضرات المعروفة بمحاضرات ريث، والتي دعي لألقائها سابقاً مشاهير المفكرين أمثال بيرتراند راسل وإدموند ليش ومن بين العبارات التي اضحت شائعة تلك العبارة التي يدعو إدوارد سعيد فيها المثقف أن يجهر بالحق في وجه السلطة كفرض عين على المثقف. ولا يسعنا هنا إلا أن نشهد على أن طه حسين نفسه عاش حياته الفكرية يجاهر بالحق في وجه السلطة والسلطات من وزير المعارف إلى سلطات الدولة بأكملها. أما دعوة إدوارد سعيد إلى أن يكون المثقف الحق منتجاً للثقافة وخطابها فهي أيضاً دعوة لا تغيب عن طه حسين. هذا ما يرد من كلمات طه حسين على الغلاف الخارجي لعمله مستقبل الثقافة في مصر "أن الجامعة لا يتكون فيها العالِم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفاً، بل يعنيه أن يكون مصدراً للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضراً، بل يعنيه أن يكون منمياً للحضارة؛ فإذا قصرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين، فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم فيه، والإنسانية التي تعمل لها، وإنما هي مصنع من المصانع، يعد للإنسانية طائفة من العلماء ومن رجال العمل، محدودة آمالهم، محدودة قدرتهم على الخير والإصلاح".

ألا يذكرنا قول طه حسين هنا بما يعرض له إدوارد سعيد في كتابه صورة المثقف التي يشير فيها إلى البون الشاسع بين المثقف المهني الذي يمتهن الثقافة أمثال المثقف الأكاديمي في الجامعات العربية والمثقف الهاوي الذي يمارس الثقافة عن غير قصد نفعي؟ بل أن ما يقوله طه حسين ينسحب على صورة المثقف العضوي الذي يقدمها لنا جرامشي.

* * *

وبعد ما أردت من هذه العجالة أن أقدم بعض شهادات أرباب الثقافة المحدثين لأذكر أن طه حسين واحداً منهم. فهويته الثقافية معروفة وعبقريته المعهودة هي التي نحتت خطاباً ثقافياً متميزاً في أدبيات الثقافة. هذا الخطاب يذكرنا أنه استوعب في وقت مبكر أهمية الثقافة وتشرب روحها وأعاد إنتاجها بعد أن خبر عالمها من الالتقاء المباشر بها مع ثقافات الغرب إبان وجوده في فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي، ووقف منها موقف الند للند متخطياً استجابة الضعيف للقوي الذي يمتلك هيمنة الثقافة.

ما أردت في عجالتي هذه أيضاً أن نستذكر أهمية مستقبل الثقافة في مصر وأن نضع الكتاب في موضعه الذي يستحقه وأن نقصي عنه الاهتمام الزائد بأطروحة التربية والتعليم (دون إهمالها كلها) والتي غالباً ما تخضع الكتاب إليها عند قراءته. كأن يغدو الكتاب مثلاً مرجعاً رئيسياً في حديثنا عن الثقافة مثل ما هو الحال في كتاب آرنولد الثقافة والفوضى والذي ظلت قضية الثقافة تسري في عروقه منذ أن ظهر عام 1968 إلى يومنا هذا. وأن نتخذ من مقدمته التي كتبها تلميذ طه حسين البار جابر عصفور أنموذجاً يحثنا على المزيد من مثل هذه المقدمة لنحافظ على أعز ما في تراثنا الأدبي ونحميه من الضياع أو النسيان عبر الأجيال المتعاقبة.

ولا يسعني في هذا السياق إلا ان نستذكر الأدب الجاهلي، عمل طه حسين الخالد، لأشير ولو بطريقة عابرة جداً إلى أنه عمل يستحق المراجعة. قد يقول قائل أن العمل قتل بحثاً. هذا صحيح ولكن جل ما قيل فيه وعنه وعن مبدعه لم يتطرق إلى منظوره الحداثي ضمن عالم الثقافة الذي ما زال يشغل أصحاب الفكر. فأقل ما يقال في هذا العمل أنه اشتق منظوره من اهتمام أرباب الثقافة المحدثين في الغرب وطوره بعبقريته الفذة ليدخله مدخل صدق على وضع الثقافة العربية من أجل النهوض بها بعد ذلك إلى مستوى العالمية أو الكونية. فالكتاب ليس مجرد بلاغة في اللغة العربية وفقهها وأكثر من سجال تاريخي بين حياة الجاهلية وظهور الإسلام. هو في اعتقادي وثيقة هامة في عالم الثقافة لا تقل في قيمتها عن وثائق أرباب الثقافة أمثال ريموند وليمز التي نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر: الثقافة شأن عادي "culture is ordinary" ينتجه السواد الأعظم من الناس حتى لو كانت الصفوة هي الرائدة في الإنتاج ليكون فاعلاً وفعّالاً من قبيل ذلك الجمهور العريض الذي أُنتجت فيه الثقافة. إذ يعتقد ريموند وليمز أن الثقافة ليست إنتاج فرد أو أفراد وليست إنتاج جمع يتكون من أفراد مجتمعين بل هو أشكال جمعية (collection modes) تعبر عن أشكال الحياة المعيشية التي يشترك فيها الفرد مع الجماعة دون اختزال لطرف أو لآخر لأن هذا الاختزال كما يراه وليمز اختزال لإنسانية المجتمع وتحويلها إلى معنى تجريدي لا مرجعية له في واقع الحياة المعيشية.

ولو أردنا أن نختار عنواناً ثانوياً لـ الشعر الجاهلي لاضفنا "الثقافة والمجتمع"، عنوان ريموند وليمز. ولو أردنا أن نضيف عنواناً بديلاً لأضفنا "موقع الثقافة" لـ هومي بابا. وهكذا، ولو تنبهنا مبكراً إلى أن الثقافة بمعناها الشمولي هي الخلاص والحماية لربما استطعنا أن نحمي أنفسنا من التكفيرين الذين كفّروا طه حسين من قبلنا.

    الاكثر قراءة