الثلاثاء 21 مايو 2024

الهلال فى ديار عميد الأدب العربى

فن23-10-2020 | 15:00

شهدت الخيطان الأبيض والأسود يتصارعان، انشرحت لانتصار الخيط الأبيض؛ رأيت الظلام يلملم أشلاءه، معطيا ظهره للدنيا منزويا؛ وبدأت العصافير فى ابتهالاتها، صعدت السيارة إلى مغاغة، إحدى مدن محافظة المنيا في الصعيد الأوسط لمصر، مسقط رأس عميد الأدب العربى، كما ذكرت كل المصادر، وكما تخيلت؛ فى الطريق تحولت اليابسة إلى نهر من زئبق، ماؤه يبدو لزجاً ونقياً وشفافاً لدرجة أننى أرى شروق الشمس من قاع النهر، تتمايل فى جوفه تمايلاُ ودلالا أنسانى النوم، وبث فيّ حلاوة الاستيقاظ، كلما اقتربت من السطح ازداد جمال ضوؤها واكتمال استدارتها، غمرتنى بلحظة سعادة فريدة، جعلتنى أتمتم بلفظ الجلالة، ارتفعت الشمس عن النهر قليلاً، ازداد جمالها، فزاد صوت تمتماتى، حتى أصبحت أمام عينى، تحولت استدارتها إلى هيكل من نور نقى، ازداد نقاء النور شيئاً فشيئاً حتى أصبح كتابا وسم غلافه "بالأيام"، أخذت أقلب صفحاته التى صاغها العميد غير مهتم بتقديم سيرته الذاتية، فكان يملى حديثا ليخلص من همومه ومنغصات حياته، فقدم بانوراما إنسانية، واجتماعية للحياة المصرية فى الريف المصرى عموما وصعيده تحديدا؛ أهمنى الجزءالأول منها حيث تناول مولده، وطفولته، ونشأته، وإعداده، وتكوينه.

توقفت السيارة، لتطأ قدمى لأول مرة فى حياتى كوبرى بمبة، مدخل المدينة المزدحمة، المطبوعة بطابع ريف صعيد مصر، خطوات لأجدنى أمام حديقة طه حسين العامة، أحاطها البائعون، وهجرها الرواد، تجاوزتها بخطوات عشوائية لأجدنى أمام تمثال نصفى للعميد، صار موقفا لعربات الحنطور، والكارو، والتروسيكل ذى العجلات الثلاث، لنقل البضائع؛ علمت أن هذا التمثال وضع على ناصية شارع طه حسين ( شارع إضافية السكة الحديد) سابقا.

وقفت حائرا من أين ابدأ، فقطع علىّ حيرتى اتصال ابن الصعيد الأوفى، الكاتب المسرحى حسين صبرة..رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية، بالثقافة الجماهيرية الأسبق، ليؤكد لى كما اتفقنا، أن صديقنا النبيل، خالد إسماعيل، مدير عام ثقافة المنيا، تواصل مع الأستاذ رمضان حاتم، مدير قصر ثقافة مغاغة، وهو الآن فى انتظارى، ليصحبنى فى رحلتى البحثية.

اتخذت طريقى إلى قصر الثقافة، والذى كان بيتا للمأمور، ثم تحول إلى بيت للثقافة عام 1976م، وتم تجديده ليصبح قصر ثقافة مغاغة.

بالفعل وجدت الرجل فى انتظارى، ليخبرنى أنه يعمل من عام 2011م كمدير لقصر الثقافة والذى يضم مكتبة عامة، ومكتبة للطفل، ونادى أدب، وفرقة مسرحية، ونادى سينما، وفرقة كورال أطفال وموسيقى، ونادى تكنولوجيا المعلومات.

للأسف وجدت قصر ثقافة مسقط رأس عميد الأدب العربى بلا مسرح ولا حتى خشبة تستر الضيوف أوالحضور.

وتعجبت لماذا لم يطلق عليه قصر ثقافة طه حسين، لا سابقا ولا الآن.

* ونحن نتجول فى القصر سالته عن أسرة العميد بمغاغة؟

- قال: لم أجد له فيها قريبا واحدا أستعين به فى فاعليات الثقافة الجماهيرية عنه؛ لايوجد أحد من أسرته، لاأخوة، ولا أخوات، ولا أعمام، ولاعمات، ولا أخوال، ولا خالات، ولا نعرف شيئا حتى عن مقابرهم.

انتهى من كلامه ليضعنى أمام لغز كبير فى حياة العميد، وحقيقة دامغة أن كل من اعتمد على "الأيام" فى رصد سيرته الذاتية، والتأريخ لمرحلة النشأة، أوالتكوين، ضل.

فهذا الكلام يؤكد على أن العميد لم يكن من عزبة الكيلو، التابعة لمدينة مغاغة، إنما نزح إليها كمحطة من محطات حياته، كما نزح من مغاغة إلى القاهرة، ومنها إلى فرنسا؛ ولو كان من مغاغة لكان له جذر كبير فيها.

فى الطريق إلى عزبة الكيلو، مررنا بمدرسة طه حسين، لنجد يافطتها وضعت على استحياء، مختفية خلف الأشجار.

وفى عزبة الكيلو التقينا الحاج سيد توفيق عطية درويش، شيخ بلد بندر مغاغة، رجل تجاوز الخامسة والسبعين، أثقلته هموم أربعون سنة خدمة؛ ابن الحاجة نرجس إبراهيم جاد الحق، زميلة العميد فى الكتّاب، وشاهدة على طفولته ونشأته، وكان العميد محافظا على زيارتها حين يزور مغاغة.

* سألته عن بيت العميد؟

- فصحبنى إليه لأن ابنه هو من اشتراه وأعاد بناءه، وأجلسنى حيث كان يجلس العميد.

* سألته عن مولده؟

- فكانت المفاجأة أن الدكتور طه حسين، ولد بقرية بنى وركان، مركز العدوة، محافظة المنيا، وليس فى مغاغة، قدم إليها مع والده الذى كان يعمل فى معمل السكر؛ جده لأبيه، نزح من بنى وركان إلى المنيا، وعاش بها ثم نزح إلى مغاغة.   

صحبنا شيخ البلد إلى دكان الحاج على عبد الواحد، والذى كان كتّاب الشيخ غريب، الذى حفظ فيه العميد القرآن.

وجاء حسين محمود غريب، حفيد الشيخ غريب، أول معلم لعميد الأدب العربى، ليؤكد أنه كان دائم الزيارة لبيت جده الذى كان يحبه، ليراجع عليه القرآن فى هذا البيت الذى لايزال على حاله إلى الآن، مشيرا إلى بيت جده المكون من ثلاثة طوابق، بالطوب اللبن، وكان له زميل اسمه يوسف، يرافقه فى سيره حاملا لوحا من الصاج، وقلم من البوص، وزجاجة حبر.

* وحين سألتهم عن أهله.

- أكدوا جميعا ما أكده مدير قصر ثقافة المنيا أن لا أثر لأحد منهم فى مغاغة، ولا حتى مقابرهم، رغم أنه كان له ثلاثة عشر أخا، وأب، وأم، وجد، وعم، وزوجة أب؛ ووالده دفن فى بنى وركان.

وأنا فى حيرتى همس لى مدير قصر الثقافة أن هناك باحثا من مغاغة يقيم فى القاهرة، هو الوحيد الذى قدم فيلما تسجيليا عن عميد الأدب العربى للثقافة الجماهيرية، تعلقت بهذا الأمل الجديد لحل اللغز، فهاتفته لنتفق على موعد للقاء فى مكتب الترجمة الخاص به فى ميدان الجيزة.

شكرت الصحبة الطيبة على جهدهم معى فى هذا اليوم شديد الحرارة، وعدت إلى العاصمة مستقلا القطار، وفى نفسى أن أبناء مغاغة لديهم وفاء لطه حسين أكثر من وفائه لهم، فيبدوا أن يد العميد كانت مغلولة على أهل مغاغة، وكذا مشاعره، فلم يحبوه رغم حبهم لشهرته ومجده، وربما إبداعه للخاصة منهم.

انطلقت التساؤلات تحاصرنى فى كل اتجاه.

* طه حسين نفسه لم يؤكد فى كل ماكتب أنه ولد فى مغاغة.

* لماذا هذا التضارب فى مسقط رأسه؟

* وأين أسرته أو حتى بقاياها؟

* أو حتى مقابرهم؟

* أو رفاتهم؟

 * أو ذكراهم؟.

فى الموعد المحدد التقيت الأديب علاء محمد عبد الله، قاص، ومحاضر مركزى بالثقافة الجماهيرية، وناقد أدبى، وباحث، ومترجم.

* علمت أنك الوحيد الذى صور فيلما تسجيلا عن طه حسين.

- بالفعل سنة 1985م للثقافة الجماهيرية، بميزانية قدرها خمسة وثلاثون جنيها، ثمنا لشريطين فيديو وقتها، والعجيب أننى حين فتشت فى تاريخ العميد لم يفتح لى أبوابا كثيرة، كما فتحت لك، لكنى رصدت ملامح مغاغة القديمة قبل أن تتغير؛ كوبرى بمبة فى مدخل مغاغة القديم، وعزبة الكيلو، ومنزل العميد القديم، قبل أن يباع ويهدم ويبنى مكانه بيتا آخر لرجل آخر، ودكان عبد الواحد( كتّاب الشيخ ابو النور)، وقابلت عم قرنى البقال والذى كان يبلغ من العمر 89 سنة، وعاصر طه حسين ورآه بالعمة، كذلك قابلت عم بدران 85 سنة كان أيضا يعمل فى مسجد المطافى، وبيوت مغاغة القديمة، كما ذكرت فى الأيام، و بيت المهندس الزراعى، وبيت المأمور( قصر الثقافة) الحالى، كما ذكر فى دعاء الكروان، وفابريكة السكر( معمل السكر)الذى كان يعمل فيه والده، وسور مدرسة الحرية.

عملت الفيلم وسلمته للثقافة الجماهيرية، ولا أعرف عنه شيئا، وللأسف ليس لدى نسخة منه.

* هل هذا معقول؟

- كنت صغيرا ولم أعرف قيمة ما قدمت إلا الآن، حين واجهتنى بعظيم صنيعى.

ومن البحث أرى أن معمل السكر الذى تأسست أصوله عام 1830م، كان السبب فى هجرة الكثير من العمال إلى مغاغة للعمل به، كذلك أسرة طه حسين والتى قدمت مع والده من مدينة سوهاج.

* سوهاج، أليست المنيا، أو بنى وركان؟

-  لا..سوهاج المدينة نفسها، بدليل أن والده حينما حدثت بينه وبين مديره فى معمل السكر أزمة كبيرة، عاد إلى سوهاج مسقط رأسه، السنة التأديبية، وحينما مات مديره، عاد إلى مغاغة ومعمل السكر.

كما أرى أن أهله دفنوا ما بعد النهر، أبوه وأمه، وزوجة أبيه، وإخوته، وجده، وعمه، لكن لا يعرف لهم مقابر الآن، أستند فى هذا إلى ما ذكر فى "الأيام" أن أخاه الأكبر أحمد، الذى تخرج فى كلية الطب أقيم له احتفالية كبرى خرجت من مسجد العمدة شلبى، وحينما مات بالكوليرا عبروا به النهر ودفنوه.

والجديد أن اسم عميد الأدب العربى الحقيقى ( طهار حسين)،

كما ذكر فى مجلة الهلال سنة 1966م فى العدد التذكارى عنه برئاسة تحرير الأستاذ كمال النجمى، وليس ( طه حسين)، وأن أحمد لطفى السيد، والذى قال له: (طه) أفضل.

* إذن كان اسمه فى كل سجلات الأزهر( طهار حسين).

- بالفعل، وساعده والده فى تغيير اسمه فى السجلات.

* هل كان يحافظ على زيارة أهله فى مغاغة؟

- لا..حضر إلى مغاغة عام 1951م حين كان وزيرا للمعارف، فافتتح مدرسة، وجلس فى بيت أبيه، لأنه كان لايزال على قيد الحياة، وآخر مرة زار فيها مغاغة حين توفى والده ما بين سنتى 1954و1956م.

حتى ابنه مؤنس لا يحضر إلى مغاغة إلا فى شهر أكتوبر من كل عام ليشارك فى احتفالية تأبين والده.

* لماذا لم يحبه أهل مغاغة؟

- لأن عاهته كانت عائقا نفسيا بينه وبين الناس، فكل من مد يده لطه حسين، أنكره، وانتقده متأثرا ومتلبسا بأبى العلاء المعرى، وكل من أحسن إليه بإحسان فتش له عن عيب، فلم يجد نفسه إلا فى فرنسا، وحين التقى زوجته سوزان، أم نجليه أمينة، ومؤنس.

كذلك وجود الدكتورة نعمات فؤاد أحمد، والتى كانت أكثر تفاعلا وإيجابية مع أهل مغاغة، وكانت عقادية وفى ثورة دائمة مع العميد، فوجودها وتفاعلها زوى ذكره .

حتى ماكتب عن مغاغة كتبه متأخرا، فمثلا الأيام كتبها حين أوقف من الجامعة، كذلك رواية، ( أديب) والتى كتبها على اسم صديق شقيه الأكبر جلال الدين شعيب ابن عمدة أطنين، وحقيقة وصف فيها مغاغة وصفا لم يسبقه إليه أحد، كما كتب قصة هنادى حسب ماسمعه وليس ما رآه، أوعايشه، وهذا يثبت أن بنى وركان ليست مسقط رأسه بل مسقط رأس أمه، أو زوجة أبيه.

ولد طهار حسين علي سلامة (طه حسين)، يوم الجمعة (1306 هـ / 15 نوفمبر 1889 م)، فى قرية بنى وركان، مركز العدوة، محافظة المنيا، فى أسرة كبيرة مكونة من جد لأب، وأب، وأم، وزوجة أب، وعم، وثلاثة عشر من الأبناء والبنات، كان ترتيبه السابع بنهم، والخامس فى ترتيب أحد عشر من الأشقاء.

نزح والده حسين عليّ للعمل في معمل السكر، نزح مع والده وربما الأسرة كاملة، واستقروا بعزبة الكيلو القريبة من مدينة مغاغة، والتى صارت جزءا منها الآن؛ إحدى مدن محافظة المنيا.

أصيب فى الرابعة من عمره، وقيل فى السادسة بداء أومرض فى عينيه، ربما كان الرمد؛ وكان العلاج كما قال:

"..تدعوه أخته إلى الدخول فيأبى فتخرج فتشده من ثوبه فيمتنع عليها، فتحمله بن ذراعيها كأنه الثمامه، وتعدوا به إلى حيث تنيمه على الأرض وتضع رأسه على فخذ أمه، ثم تعمد هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى وتقطر فيهما سائلا يؤذيه ولايجدى عليه خيرا، وهو يألم ولكن لا يشكو ولايبك لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكاء شكاء".

فأطفئ نور عينيه إلى الأبد مبكرا، وقدّر له أن يعيش مكفوفا، ولم يطلق على إصابته "عاهة" بل أسماها "آفة".

ألحقه والده بكتّاب القرية لدى"سيدنا"  كما ذكر فى "الأيام" وهو.. كتّاب الشيخ محمد جاد الرب، كما ذكرت معظم المصادر، أو كتّاب الشيخ غريب، كما أخبرنى الحاج سيد توفيق عطية درويش، شيخ بلد بندر مغاغة، وأحفاد الشيخ غريب، الذين صحبونى إلى منزله الذى لا يزال على حاله، وعلى عبد الواحد صاحب الدكان الذى كان كتّاب الشيخ غريب.

أوكتّاب الشيخ ابوالنور، كما قال الباحث علاء محمد عبدالله، صاحب الفيلم التسجيلى الوحيد "أديب بعد نصف قرن".

ألحقه والده بالكتّاب لتعلم اللغة العربية، والحساب، وحفظ القرآن الكريم، والذى أتم حفظه في مدة قصيرة أذهلت شيخه، ووالده، وأقاربه.

كان والده يصحبه أحياناً لحضور حلقات الذكر، والاستماع إلى الشاعر الذى يلقى فى الناس القصص والملاحم الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي، والزناتى، والظاهر بيبرس، وأذكار الصوفية ، وموالدهم، وما يصاحبهم من إنشاد دينى، فكان يستمع بعد صلاة العصر من أصدقاء والده الذين يأتون إليه غالبا  لهذه القصص، وفى الليل إلى الشاعر ويحفظ عنه، كما يحفظ الأوراد التى استمعها من جده الذى كان يستيقظ آخر الليل ليقرأ ورد السحر، وينام فى ساعة متأخرة، كما حفظ أغنيات العديد المعروفة فى الصعيد من أمه وأخواته، وهذا كان مصدرا من مصادر سعادته وتكوينه الثقافى.

لكنه كان يخاف الليل، والأشباح والعفاريت، فكان ينام وقد أخفى جسمه باللحاف لايترك لنفسه فرصة حتى للتنفس، خوفا من أن تعبث العفاريت بما انكشف منه.

دخل الأزهر سنة 1902م، وانتسب للجامعة المصرية عند افتتاحها سنة 1908م، وأوفد إلى فرنسا ليعود عميدا للأدب العربى.

 نزل مغاغة منزلا أنزله الله له ليبنى مجدا ما سابقه أحد إليه، ولا طاوله عربى فى العصر الحديث، وليصبح أحد أبرز رموز التحدى الإنسانى، وليتوج عميدا للأدب العربى دون منازع، وليحتفى به المشرق والمغرب، وترشحه مصر لجائزة نوبل، وإن لم ينلها، نال ماهو أشرف وأعظم منها، فأنشأ مدرسة تتلمذ فيها الكثير والكثير من قادة الفكر الإنسانى فى أرض العرب، وصار كفيف البصر الذى يأخذ بيد المبصرين إلى طريق الإبداع ويهديهم بنور بصيرته إلى فردوس العطاء.