الأربعاء 15 مايو 2024

د. نبيل فاروق يكتب: مافيا

كنوزنا23-10-2020 | 15:30

من أشرس وأعقد الحروب، التى تخوضها البشرية، منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، الحرب ضد الإرهاب، والجريمة المنظمة، والواقع أنه، وعلى الرغم مما سيرفضه البعض، فالإرهاب والجريمة المنظمة صنوان لا يفترقان؛ فالإرهاب، أياً كانت مبرراته، هو مجرد نمط للجريمة المنظمة التى تعتمد على إرهاب الناس؛ سعياً وراء السيطرة عليهم، وفرض الهيمنة على إرادتهم، عبر ترويعهم، وإخافتهم، وبث الرعب فى نفوسهم، وإشعارهم أنهم الطرف الأضعف فى المعادلة، وأن الخضوع والاستسلام هو أفضل خياراتهم، الفارق الوحيد أن الجريمة المنظمة تعلم أنها جريمة، وتعترف - لنفسها - على الأقل – بأنها تفعل ما تفعله، من أجل مكاسب شخصية، ونزعة سيطرة شيطانية، أما الإرهاب، فأصحابه يسعون دوماً لإقناع أنفسهم، بشرعية وأحقية ما يفعلونه، وبأنهم يحققون معادلة غير منطقية، ألا وهى بلوغ غرض نبيل، عبر أحقر وأقذر الوسائل، وأكثرها شراً وشيطانية، والإرهاب، على الرغم من كل ما يدعيه، شيطانى النزعة، إلى أقصى حد، فمعه تنعدم الرحمة، وتموت الإنسانية، وتتصدَّر الوحشية المشهد، على نحو يستفز كل المشاعر الإنسانية والبشرية، وعندما يلجأ الإرهابيون للقضاء على كل معارضيهم ومخالفيهم، وكل من يشهدون على جرائمهم، فهم يثبتون بهذا، أنهم ليسوا سوى عصابات جريمة منظمة، تختبئ خلف عبارات وأهداف، ذات واجهة مشروعة، وباطن شيطانى، وفى ثقافتنا، اعتدنا أن نطلق على كل تشكيل، يسعى لهدف شرير واحد، اسم (مافيا)، ولكن السؤال هو: ما الذى يعنيه الاسم ؟!... وكيف نشأ وانتشر، على هذا النحو؟!.. الواقع أن تاريخ المافيا، أكثر غموضاً من تنظيمها نفسه، فعلى الرغم من سطوع اسمها فى صقلية، فى القرن التاسع عشر، وبروزها كتنظيم إجرامى محكم، فى الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بدايات القرن العشرين، إلا أن أكثر التفسيرات شيوعاً، تؤكِّد أنها قد بدأت منذ القرن الثالث عشر، مع الغزو الفرنسى لصقلية، عام 1282م، ففى ذلك الوقت تكوَّنت فى صقلية منظمة سرية؛ لمقاومة الغزاة الفرنسيين، وكان شعارها (Morte Alla Francia Italia Anela)، وهو شعار يعنى (الموت للفرنسيين هو صرخة إيطالية)، ومن أول حروف كلمات الشعار، صار اختصاره (Mafia)، ومن هنا نشأ الاسم ... ولكن أبرز زعماء مافيا صقلية، جوبونانو، يقول إن الاسم جاء بسبب قيام أحد الغزاة الفرنسيين باختطاف عروس إيطالية، فى ليلة زفافها، مما أشعل نيران الثأر فى نفوس الإيطاليين، وامتد غضبهم من مدينة إلى أخرى، لتسيل دماء الفرنسيين أنهاراً، وأن الشعار يعود إلى صرخة أم الفتاة، التى راحت تردد اسمها، وهى تجرى باكية كالمجنونة، فى شوارع المدينة ... ومن تنظيم مقاومة للاحتلال، راحت المافيا تنمو، حتى بعد رحيل الفرنسيين، وتزايد عدد المنضمين إليها، واستخدموا القوة والترهيب، فى السيطرة على أسواق وتجارة صقلية، من منتصف القرن التاسع عشر، حتى أنه مع الربع الأخير من القرن نفسه صاروا القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، المسيطرة على غربى صقلية ...

فى البداية اعتمدوا على فرض الحماية، فى منطقة باليرمو وما حولها، من مزارع الليمون والبرتقال، والأغلب من مزارع الزيتون، ومع اتساع نفوذهم، وخوف الناس منهم، وسيطرتهم على المجتمع السياسى الصقلى، انضم إليهم بعض شباب الطبقة الأرستقراطية، للجمع بين الثروة والقوة، خاصة وأن المجتمع قد انقسم أيامها، بين الساسة والإقطاعيين، والمافيا كانت تسيطر على طرفى المعادلة، مما جعل الانضمام إليها هو القوة الحقيقية ...

وللحفاظ على هذه القوة، وضعت المافيا مجموعة من القواعد العسكرية النزعة، لتنظيم أعمالها، فانقسموا إلى فرق، لكل منها قائد، ونائب له، وعلى أفراد كل فرقة اتباع قائدها وتنفيذ أوامره، أياً كانت، دون مناقشة، أو طرح أية أسئلة، وعلى كل فرد ينضم إلى المافيا، أن تنطبق عليه ثلاثة شروط أساسية: أولها أن يكون إيطالياً، وثانيها أن يقسم قسم الولاء للمافيا دون سواها، وثالثها هو قسم السرية والصمت، ليس بالنسبة للتنظيم فحسب، ولكن بالنسبة لما يحدث فى الفرقة الخاصة أيضاً، وكان الموت بلا رحمة هو العقاب، لمن يخالف الشرطين الثانى والثالث، وهو العقاب الوحيد للخيانة، والذى قد شمل أفراد أسرته أيضاً، وفقاً لنوع الخيانة وتأثيرها ... ولا تزال هذه الشروط الثلاثة سارية حتى اليوم، على الرغم من التطوّر الكبير، فى نظم المافيا نفسها ... بعد كل هذا كان هناك قائد لكل الفرق مجتمعة، كان يُطلق عليه فى البداية اسم الزعيم، قبل أن يتحوَّل الأمر من فرق إلى عائلات، تحكم كل منها فرقة كبيرة، وهنا تحوَّل الاسم من الزعيم إلى الأب الروحى، حتى يناسب الأمر روح العائلة، الذى تحوَّلت إليه طبيعة المافيا التى صارت عائلة كبيرة، وخاصة عندما قرَّر أرباب العائلات الترابط فيما بينهم، بالقرابة أو المصاهرة، مما صنع علاقات وثيقة بين العائلات، وضاعف من قوتهم وسطوتهم.

اعتمدت المافيا فى تلك المرحلة، على إرسال خطابات إلى الأثرياء ورجال الأعمال، تطالبهم بدفع مبالغ مالية، لحمايتهم وتأمينهم من المجرمين، الذين هم أنفسهم، فإن استجاب الأثرياء أو رجال الأعمال، حصلت المافيا على مبالغ شهرية سخية، أما إن رفضوا، فهم معرضون للقتل، أو الخطف، أو تفجير ممتلكاتهم وشركاتهم، وعلى الرغم من كل هذا، اعتمدت المافيا على قاعدة حسنة، ألا وهى احترام الإيطاليات، وعدم المساس بهن، أو حتى النظر إليهن بسوء.

الهيكل التنظيمى للمافيا بدأ بمجموعات، تعرف باسم (Cosche) وكل مجموعة من عشرين شخصاً، لهم قانونهم ونظامهم الداخلى، والمجموعة لها تسلسل هرمى، على رأسه رئيس (كابو)، وهو الحاكم الفعلى الوحيد، وأقوى أفراد المجموعة، وهو لا يشارك فى عملياتها، بل يخطِّط للأمور فقط، ثم يحصل على نسبة من أرباح كل عملية، يقوم بها أفراد المجموعة، وكان لهذا الرئيس (الكابو) مستشار قانونى أو اثنان، لإسداء النصح، دون أن تكون لهم سلطة تقديرية، ويجوز أن يكونا من غير الإيطاليين، وهنا لا يتم اعتبارهم من أفراد المافيا، ولكن من المتعاونين معها فحسب، ومع الوقت، اتسعت العائلات، وزاد عدد أفرادها على العشرين ومضاعفاتها، وصار لهم جنود من الأعضاء، يُطلق على كل منهم اسم (مافيوز)، ومهمتهم هى كل العمليات القذرة، من قتل وخطف وحرق وتفجير، وسرعان ما سمحت المافيا بضم غير الأعضاء، من المؤهلين لأداء ذلك النوع من الأعمال، وهكذا كبرت المافيا وتعاظمت، وصارت قوة يعمل لها الساسة ورجال الأعمال، وحتى رجال الأمن ألف حساب، خاصة وأنه لم يكن من السهل، مع وجود هذا العدد من المستشارين القانونيين، العثور على أى دليل؛ لإدانة أفراد المافيا، أو (المافيوز) بأية جريمة، كان لديهم دوماً عشرات الشهود؛ لنفى أى اتهام، وإيجاد أى دليل حاسم، يؤكِّد وجود القاتل، الذى ارتكب جريمته على رءوس أشهاد، على بُعد مئات الكيلومترات، من مسرح الجريمة، أما من الناحية الاقتصادية، فقد كانت الأموال تدار بنفس التسلسل الهرمى، فيحصل العضو على نصيبه، دون أن يعلم أين ذهبت باقى الأموال، ولا يسمح له بالتعامل، إلا مع القيادات التى تعلوه مباشرة، يتلقى منها الأوامر والتعليمات، ويبلغها بالنتائج، دون أن يدرى ماذا يحدث فى المستوى الأعلى.

 وعلى الرغم من إصرار المافيا على التمسك بمبدأ الشرف، فقد اقتصر المفهوم على العائلة وحدها، أما خارجها فلا علاقة للشرف بالأمر، إلا فيما يتعلق بالنساء الإيطاليات، فعلى الرغم من انخراط المافيا الصقلية، فى مجال الدعارة وشبكات الرقيق الأبيض، ظلت قوانين المافيا تمنع استخدام الفتيات والنساء الإيطاليات، وعدم جلب القاصرات.

وهكذا كانت المافيا، بمنطقها المختل، تتعامل بشرف، مع أمور أبعد ما تكون عن الشرف، ومع نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، انتقلت المافيا من القرى إلى المدن، وهنا حملت اسماً جديداً، وهو كوزا نوسترا، أو (La Cosa Nostra) باللغة الإيطالية، بمعنى (الشيء)، أو (ما هو خاص بنا)، وعلى الرغم من أن هذا قد ضاعف من دخلها، باعتبار أن اقتصاد المدن يفوق اقتصاديات الريف، إلا أن الأمن فى المدن يختلف أيضاً، ولهذا، ولأوَّل مرة فى تاريخها، واجهت المافيا مقاومة أمنية عنيفة، لم يفلح معها التهديد والوعيد، ولا حتى القتل والترويع، مما اضطرها إلى استخدام اقتصادها الكبير، فى إنشاء تجارات وأعمال قانونية، تتفادى الهجوم الأمنى العنيف، فى الوقت ذاته، كانت أمريكا كأرض جديدة، تبدو واعدة؛ لبناء مستقبل كبير، وكان الآلاف يهاجرون إليها من كل أنحاء العالم، وأكثرهم من الإيرلنديين والإيطاليين، لذا فقد قرَّرت المافيا نقل نشاطها إلى الأرض الجديدة، أو على الأقل فتح فرع جديد لها، فى قلب القارة الواعدة، وهكذا نشأ المجتمع الإيطالى الأمريكى الجنائى، من إيطاليين صقليين، حصلوا على الجنسية الأمريكية، وظهر فى نيويورك، وأماكن أخرى من الساحل الشرقى الأمريكى، ثم سرعان ما انتشرت فى فيلادلفيا، ونيو إنجلاند، وديترويت وشيكاجو، وخلال سنوات القرن العشرين، انتشرت المافيا فى ست وعشرين مدينة، فى مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، كانت أقواها العائلات الخمس الرئيسية فى نيويورك، والتى حملت اسم (Gambino Lucchese)ن ambino Lucchese)الرئيسية فى نيويورك، والتى حملت اسم ا فى ست وعشرين مدينة، فى مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، كانت أقوا، وراحت تعمل بنفس أسلوب عملها فى صقلية، حتى كانت سقطة آل كابونى ... والفونس جابرييل كابونى (1899-1947م) هو واحد من أفراد الأسر الخمس، فرض هيمنته وسيطرته على نيويورك، مستغلاً قوانين منع الخمور، فى تلك الفترة، ثم سرعان ما نقل نشاطه إلى شيكاجو؛ لضمان السيطرة المنفردة عليها، ولم يلبث أن تمادى، إلى حد ارتكاب مذبحة، أطلق عليها اسم (مذبحة يوم القديس فالنتين) والتى قتل فيها سبعة من أفراد عصابة منافسة، فى وضح النهار، مما جعل الصحف تطلق عليه اسم (عدو الشعب رقم 1)، وهنا قرَّرت السلطات الفيدرالية الإيقاع بآل كابونى، الذى لم يترك يوماً خلفه ثغرة قانونية، يمكن الإيقاع به عن طريقها، وعلى الرغم من كل تاريخه الإجرامى، تمت محاكمة كابونى عام 1931م، بتهمة التهرُّب الضريبى، بعد إثبات دخله، الذى لم يدفع ضرائبه لسنوات، وهكذا حكم عليه بالسجن لأحد عشر عاماً، وكان هذا نقطة التحوّل الكبرى، فى تاريخ المافيا كله، والتى قرّرَت تحويل نشاطاتها وأموالها، إلى شركات ومصانع ومؤسسات كبيرة، تدر أرباحاً خيالية، يمكنها أن تخفى داخلها أموال الأنشطة غير المشروعة، أو ما يعرف الآن بمصطلح (غسيل الأموال),

 وهكذا تطوَّرت المافيا، فصارت قادرة على البقاء والاستمرار، وعلى الرغم من أنها لا تزال تتبع نظام العائلات والسيطرة والاقتصاد، فقد أثبتت قاعدة أساسية ... تشبَّث بالقديم تفنى ... تطوَّر مع الزمن تبقى وتستمر ... حتى لو كنت (مافيا).
    Dr.Radwa
    Egypt Air