الإثنين 3 يونيو 2024

عبدالحليم

فن23-10-2020 | 15:32

الزمن هو في ستينيات القرن العشرين.  أشهد فيه أنا بهيجة الجدة مولد التلفاز هذه الآلة السحرية التي أخذت بشتات عقلي .  أجل أنا المخلوقة المستكينة التي كانت تحيا حياة مغلقة وادعة بمعزل عن سماع أي خبر أو نبأ سوى ما يأتي به رجال الدار أو الضيوف القلائل.

أجل هل تصدقون أنني كنت أحيا في حي يعيب على النساء الخروج من البيت, فالمرأة تخرج من بيت أهلها إلى بيت زوجها إلى القبر.

شب حريق ذات يوم من الأيام , ما كان في البيت سوى النسوة, فهرعن إلى الحارة يطلبن النجدة , فتهن في أزقتها ,كيف لا؟  وهن لم يألفن تلك الطرقات وتلك الدروب في يوم من الأيام ,ولا يدرين إلى أين تنتهي .

ترى هل أفلحت في جعلكم تدركون معنى أن أجلس وأتابع هذا الساحر القادم الجديد الذي أخرجني من القمقم الذي كنت أقبع فيه. 

كان لهذا القادم الجديد فضل آخر علي  وهو أنه شدني من وحدتي وضيقي, فأنا اليوم أرملة أسكن عند ابني الذي رزقه الله  من الأولاد الإناث, تسكنني الوحدة, كيف لا؟! والكنة لا تهوى مد وشائج  الصداقة  مع حماتها , وقد اعتدت على أن أقبع  في الدار طول الوقت , لذا غدا فجأة هذا التلفاز سلوتي وملاذي , طبعا مع سبحتي وصلواتي , فقد نشأت نشأة دينية روحانية.

عندما كبرت صبايا الدار , ملأن قلبي بسرور غامر ,الصبايا زهرات البيت ورحيقه, كانت تطيب لي صحبتهن  , تلك الصحبة التي كانت تخفف عني زحف الشيخوخة وصقيعها ووحشتها.

إلى اليوم الذي أتحفني بها هذا التلفاز بمغامرة عجيبة لم تكن لتخطر لي على بال , وأنا في هذه السن, حملني بساطه السحري على متن رحلة كانت أغرب من الخيال , عايشت فيها دقائقها وتفاصيلها.

أجل لقد كان عبد الحليم حافظ .

هذا المطرب لا أدري ما الذي فعله بي؟

غنى نار يا حبيبي نار, فأضرمت في أعماقي نيران حرائق شوق ما عرفتها يوما من الأيام وما عدت أعرف إلى إخمادها سبيلاً.

أجل فأنا لم أعرف أو أتذوق يوما من الأيام لواعج الشوق والحب والهيام.

مشاعر تجتاحني كشجرة تزهر في الصقيع,  في الشتاء ,معجزة لن يصدقها أحد.

اعتاد الناس على رؤية كل ظاهرة  في أوانها ,وماعدا ذلك, هي خوارق, وقد كانت قصتي خارقة من  تلك الخوارق.

بدأت حفيداتي يلجن مرحلة المراهقة ,  يحملن هن ولداتهن لهذا المطرب من الحب الشيء الكثير , كم كن يثمن عالياً عدم تعنيفهن أو زجرهن وهن يعبرن عما تجيش به نفوسهن تجاه ذاك العندليب الأسمر الأثير, ويجدن في إصغائي لهن وفي ابتساماتي التي أوزعها عليهن وهن يخضن في تلك الأحاديث جدة من طراز فريد  محبب,  كانت نظرة الرضا التي تفضحني بها عيناي , تغمر قلوبهن  بالبشر والسعادة.

كان ولدي أبا عطوفاً عصرياً ومتفهماً, يعطي بناته فرصة التعبير عن آرائهن , وعدم  إخفاء أي سر مهما كان صغيراً, أراد لهن أن ينشأن صادقات صريحات مع أنفسهن ومعه, وأن يكون أكيداً من كل ما كان يحدث معهن من أدق أسرارهن إلى ما يجول في خواطرهن وأفكارهن.

حمل فيلم عبدالحليم الأخير عاطفة غريبة حركت مشاعر الجميع ,بكت حفيداتي آخر الفيلم, كان مؤثراً جداً, بكيت بعمق , لم ينتبه أحد لبكائي , فالنظرات كانت موجهة نحو الصبايا المراهقات .

عندما أويت إلى فراشي, سكنتني موجة عارمة من شوق وحب لذيذين ما عرفتهما في يوم من الأيام .

آه منك أيها القادم المجتاح بلا استئذان.

يا لعينيك التي تفعل بي الأعاجيب , ما الذي صنعته بي , ترى أو هل  سيتحمل هذا القلب الآيل للسقوط هذا الدفق العجيب الغريب من العواطف المسكرة.

حمدا لله أنني لم أقابلك في يوم من الأيام , لقد كنت قادراً على أن تجعلني أطير معك لآخر الدنيا, كنت سأزج في متاهة ولا كل  المتاهات, كيف لا وأنا الإنسانة المتمنعة التي نشأت نشأة دينية, لوعرفت هذا الحب في شبابي لظننت أن مائة جني قد سكنني وأن آثام الكون تترصدني ولعشت في دوامة لم  يعرفها أحد قبلي , حمدا لله ,أنك أتيت في هذه السن, سن الحكمة التي تجتاحني فيها مراهقة لا يدري بها غيري.

تذكرت شبابي , صبية رائعة كزهرة كاردينيا, نقية صافية, مؤمنة , مطمئنة. تم زفافي إلى رجل , سُئلت عن رأيي فيه سؤال إخبار لا سؤال استفسار.

هل أنت راغبة في الزواج به؟

لم أنطق.

فكان الصمت معناه القبول والإيجاب.

كان يكبرني بعشرين عاما, لم أشعر تجاهه بأي شيء , لكني تلقيت مواعظ من الأهل بضرورة طاعته والإخلاص له والتفاني في خدمته. وكنت تلك المطيعة المحبة المتفانية , أيامي تنسل لا طعم فيها ولا نكهة , واجبات تُؤدى وأحداث تمر.

في يوم من أيام الربيع تفتحت الزهور في الحديقة بشكل جميل آسر تدعوك لتمد يدك وتقطف واحدة منها, قطفت زهرة فجرت في  أعماقي شمساً كانت خافية . شبكتها بشعري الأسود الطويل , فبرق وجهي وأزهر وتدفقت نفحة منعشة في أعماقي فقررت  أن استقبل بها زوجي , عله يراني اليوم فاتنة من نوع جديد, خُيل لي أن صفحة حب وشوق سوف تغزو حياتي وحياته.

عندما دخل الدار, هرولت إليه, كي يرى عرس الربيع فيَّ .لم يعلق, لكنه رمقني بنظرة طويلة , مزقني صمته , ورميت بالزهرة ,وعدت كمن يعتذر عن طيش ألم به , ابتسم ابتسامة  بلا معنى.

وأدركت أن سياسة الدار هي في عيش حياة لا معنى لها.

لا أنكر أن كان كريما سخيا , فلسفته في الحياة, أن السعادة من منظوره هي في الكرم وفي تأمين كل ما تشتهيه النفس من مآكل وثياب.

توفي رحمه الله , لم أشعر عند فراقه لا بالأسف ولا بالحنق عليه , دعوت الله طويلاً أن يسكنه فسيح جنانه, وبدأت أهيئ نفسي لرحلة قادمة , كانت سبحتي فيها رفيقتي وابتهالاتي لهج لساني.

إلى أن بدأت أخوض غمار هذه التجربة الجديدة في حياتي.

دخلت أحد الأيام غرفة حفيداتي  لأجد صورة كبيرة للعندليب الأسمر تتربع على جدار الغرفة

ما هذا؟ أي ثورة حدثت في هذا العالم, كنت على وشك أن أحنق وأن أنتظر ولدي أحذره من مغبة هذا الفعل على الصبايا ,لكن ما الضير من ذلك؟ ما دمت سأدخل كل صباح الغرفة, يسكرني بريق عينيه وضحكته الواسعة التي تبعث البشر في النفوس.

يا بهيجة,ما الذي دهاك, وما هذا الكنز الثمين الذي يسكر أيامك ولياليك.

كانت لداتي عندما يأتين لزيارتي يصدعن رأسي بحكاياتهن عن زوجات أبنائهن والمعارك الحامية الوطيس الدائرة رحاها في بيوتهن , يبكين بحرقة من أولئك الكنائن المعدومات القلب والضمير , يوغرون صدور أبنائهن ضدهن , يفعلهن كل ما من شأنه أن يكسر خواطرهن في هذه السن القاسية وقد عانين ما عانين من شقاء الأيام وضحين بالكثير وآن الأوان لهن كي ينلن قسطا من الراحة .

أنصت لهن أرثي لحالهن , لكن لا يخفى عليهن ما أنا عليه من طمأنينة وسكينة , فيغادرنني والغيرة والحسد توغر صدورهن من أن لدي ولداً باراً وكنة ملائكية وحفيدات يانعات. فيحاولون إغاظتي قبل المغادرة وإفساد ما أنا عليه من سكينة.

الله يحمل معكم, ذرية أبنك كلها بنات , لا ذكر يحمل اسمه, لعل ذاك ما يجعل من زوج أبنك إنسانة مهيضة الجناح ومطيعة.

لم تعد زياراتهن ذات بال بعد اليوم. لم أعد أفتقدها, ولدينا هذا الأثير ينسينا مشاكل أيامنا وهمومها.كان يحزننا  ما يتناهى إلينا في الآونة الأخيرة من أنباء عن مرضه. لنهش  ونفرح  بعدئذ وهو يطل علينا بأغنية أشعر أنه يهديني إياها دون كل الناس.

إلى أن رحل ذات يوم من الأيام.

بكت حفيداتي طويلا عليه, وبكيت أكثر منهن , ضمني ابني إلى صدره ظنا منه أنني أرثي لحال حفيداتي , فأنا جدة نادرة المثال وأنموذجا فريداً يُحتذى به .

بعدها تقبلت أمر فراقه على أننا قادرون على التواصل معه كالسابق عبر أغانيه وأفلامه. تناولت سبحتي وبدأت أقرأ له الصمدية, كيف لا وقد أضفى على حياتي لمسة دافئة منعشة غذت روحي . وانتبه الجميع أنني أواظب بشكل جاد على الدعاء ولم أستطع أن أخفي أنني أقرأ الصمدية  له, ضحك الجميع من أعماقهم ظناً منهم أنني أحاول تخفيف وقع الصدمة على الصبايا في نوع من مشاركة وجدانية رفيعة المستوى.

وأخذوا ينقلون هذا الخبر الطريف إلى الجميع, عندما بدأت نظرات الجميع  تحيطني بموجة من الاستغراب,ووجدتني أقول وبعفوية تامة: آلمتني قصته, لا أم تدعو الله له أفلا أتذكره بشيء يشجي روحه .

كان رحمه الله يتيماً , فمن ذا الذي سيتذكره ويقرأ له.

غمرني الجميع يومها بنظرات حب ما كانت تقل عن نظراته.

أما سر حبه فبقي دفينا في أعماقي أُطبق عليه كما تُطبق الصدفة على لؤلؤة نفيسة غالية.