الإثنين 1 يوليو 2024

إلا فن الأوبرا ..

فن25-10-2020 | 12:14

ونحن نتهيأ لافتتاح مركز فنى كبير .. متعدد النشاط هو ما اصطلحنا على تسميته بـدار الأوبرا”.. ينبغى أن نقف قليلاً لنتأمل ما حدث فى حقل فنون الأداء الدرامى من تطورات بدأت مع ثورة يوليو 1952.

فى حقل مسرح الكلمة قامت وازدهرت فنون التأليف والتمثيل والإخراج، فى ميدان الرقص الشعبى قامت ثورة فنية وثقافية و-  قبل هذا - اجتماعية، جعلت من هذا الرقص فناً قومياً معترفاً به، ومقدراً، فى حقل عروض المهارة البدنية.

 تجمعت من جديد فنون السيرك وأصبحت قوة أدائية وترفيهية تمتلك القدرة على جذب الجماهير وتوسيع قاعدة متفرجى فنون الأداء المسرحى..  

وفى صعيد فنون التمثيل بالوساطة التمثيل عن طريق العرائس - شق هذا الفن طريقاً واضحاً وعميقاً فى وجدان الناس.. صغاراً وكباراً معاً.. وفى ميدان الباليه استطاع هذا الفن الجميل أن يؤصل نفسه، ويحصل على تقدير جمهور كبير من المتفرجين المتحمسين، وإعداد متجددة من راغبى دراسته وممارسته إلا فن الأوبرا،  لقد ظل هذا الفن فى مصر فى وضع ثابت يقوم بعملية محلك سر، ويقدم عروضاً متقطعة، لم تخظ أبداً بجمهور عريض، وبعض أسباب هذا التوقف ترجع إلى طبيعة فن الأوبرا، فهو فن غنائى خطابى يخرج من الصدر والحنجرة موجهاً إلى الأذن ولا يعنى كثيراً بالوصول إلى القلب، هو فن استعراض القوة فى الأداء الصوتى - قوة وصلت إلى أعلى الذرى فى الأوبرات العالمية، وأصبحت فناً رفيعاً جديراً بكل تقدير، ولكنه ظل دائماً مقصوراً على الصفوة ولم يتعد حدود الأرستقراطية الفنية، لم يحظ أبداً بشعبية الأوبريت ولا المسرحية الموسيقية الغنائية الراقصة وهو فى مصر فى وضع أكثر صعوبة، ذلك أن الجهود التى بذلت حتى الآن لإنشاء غناء أوبرالى مصرى لم تحرز تقدماً يذكر، إن هذا الغناء لا يمس الوجدان المصرى ولا العربى، والمتفرج الذى يذهب ليشهد عروض الباليه أو حفلات الموسيقى العالمية ربما يضّجر حين تعرض عليه أوبرا كاملة، أما المتفرج العادى فإنه يضحك ويتندر ويميل إلى السخرية من طريقة الغناء التى هى فى أساسها شىء مصطنع، فالأوبرا تدعوك إلى عالم خيالى، يغنى الناس فيه الحوار بدل أن يتكلموه.

هذا رأى قلته فى السبعينيات، وكتبته يومها فى مجلة روزاليوسف، وقد عبرت عنه أخيراً بصراحة فى ندوة أقيمت فىالأهرامقبل أسابيع وحضرها وزير الثقافة فاروق حسنى وقائد الأوركسترا يوسف السيسى والدكتورة ماجدة صالح، التى كانت - آنذاك - مديرة لدار الأوبرا، ثم نحيت عن المنصب دون شرح، أو اعتذار، كما حضرها عبدالله العيوطى المدير الفنى للأوبرا والدكتور فوزى فهمى نائب أكاديمية الفنون، ومحمد السلماوى المشرف على العلاقات الثقافية مع الخارج، وفنان الباليه عبدالمنعم كامل عبرت عن رأيى هذا، فكأنما فجرت قنبلة!  اختلفت ردود الفعل اختلافاً بينا بين الاعتراض التام، والاعتراف المشوب بالحذر، والرغبة فى تلمس الأسباب ومحاولات التصدى للظاهرة.

وكانت ماجدة صالح أول المعترضين، ففى رأيها أن الأوبرا تحظى بإقبال كبير، بدليل ما حدث حين عرضتعايدةفى الأقصر والهرم، أما وزير الثقافة فقد أوضح أن فن الأوبرا هو فن الخاصة ورأى أن عدم وجود المخرج الأوبرالى هو السبب فى عجز فن الأوبرا عن الوصول إلى الجماهير، وقال يوسف السيسى إن الحل يكمن فى تعريب الأوبرات العالمية، وأشار إلى أن فن الأوبرا ليس غريباً على الوجدان الغنائى المصرى، بدليل أن أقوى ممثلى هذا الوجدان، فنان الشعب الكبير سيد درويش كان يبكى حين يشاهد الأوبرا، وأنه كان يسعى إلى السفر إلى إيطاليا لدراسة هذا الفن، وكاد يفعل، لولا أن عاجله الموت.

تقريب حقيقى لفن الأوبرا

وقد رددت على هذه الآراء واحداً واحداً، فقلت لماجدة صالح إن إقبالاً كبيراً على حفلتين سياحيتين من حفلات الأوبرا لا ينهض دليلاً على تقبل واضح ومطمئن لهذا الفن، وقلت لوزير الثقافة إن مخرج الأوبرا لا يصنع وجدان أناس لم يتعودا هذا الفن ولم يتدربوا على تلقيه، وقلت ليوسف السيسى إننى واثق من أن سيد درويش لو كان درس الأوبرا فى إيطاليا لعاد وفى حقيبته محاولات خلاقة لتقريب حقيقى لفن الأوبرا من الناس.. تقريب لا يقوم على مجرد ترجمة كلمات الأغانى بل يتناول الصياغة الموسيقية أيضاً، ويسعى إلى أن تكون نابعة بالفعل من الوجدان المصرى والعربى روحاً وعاطفة وإن لم تهمل التكتيك العالمى.. قلت هذا متحاشياً أن أذكر - مع ذلك - أن أوبريتالباروكةالذى وضع موسيقاه سيد درويش، وكان من أواخر أعماله، قد شابه إلى حد ملحوظ روحا غريبة عن الوجدان المصرى، جعل هذا الأوبريت بالذات يتراجع تراجعاً ملحوظاً فى قائمة الأعمال الكثيرة التى قدمها فنان الشعب.. مستوحياً روح مصر وتراثها وطريقتها فى الغناء والأداء.

وأغلب الظن أن سيد درويش كان جديراً بأن يصل إلى القرار الذى وصل إليه الأخوان رحبانى فيما بعد، والذى يضع الأذن الشرقية وتراثها فى الغناء والموسيقى والشعر، فى المحل الأول من الاهتمام، ويضيف إلى هذا التراث ما تطيق هذه الأذن تلقيه من التكتيك الغربى فى الغناء والموسيقى معاً، وهو كان خليقاً - أيضاً - بأن يدرك - كما أدرك الرحبانيان - أن فن الأوبريت هو أقرب فنون المسرح الغنائى إلى روح الشعب، وأن فرص نجاح أعمال أوبرالية كاملة فرص ضئيلة حقاً.

 لقد نجح مسرح الرحبانية فى الوصول إلى الناس لأنه أفاد من كل محتويات الوجدان العربى، قدم الأغنية العربية العصرية، وقدم أغنيات من التراث، قدم الموشحات القديمة ولحن شعر أبى نواس، طوع الحوار العربى للغة المسرح واستخدم صيغة الأوبريت للتعبير عن هموم الناس البسطاء، ووقف إلى جوارهم مدافعاً عنهم، ضد الظلم والاستبداد، ومن ثم كان هذا التقبل الشعبى العارم لمسرح الرحبانية، رغم حواجز اللهجة اللبنانية، ومحلية الموضوعات المطروحة فى بعض الأحيان.

إن علينا أن نتريث كثيراً، وندقق كثيراً قبل المضى فى محاولات تأصيل فن الأوبرا فى بلادنا وأولى بنا أن نعي الدرس الذى وعاه الأخوان رحبانى، ووعاه من قبلهما محمد عبدالوهاب، وهو أن الناس غير مستعدين لتلقى فن الأوبرا بصيغته الغربية الحالية، وأنهم - على النقيض - يقبلون فى جذل على فن الأوبريت، إن هذه إشارة مؤكدة تضيء الطريق أمام كل من يسعى إلى أن يقام فن أوبرالى حقيقى.. فهذا الفن لن يقوم فوراً، وإنما ينبغى أن تسبقه محاولات متصلة فى تقديم الأوبريت، قد تتدرج فى العمق والصنعة بحيث تسلم يوماً ما إلى تقديم الأوبرات الخفيفة ذات الموضوعات الشعبية المقبولة - كارمن مثل طيب لهذه الأوبرات - ومن ثم قد يقدم فن أوبرالى مصرى يستوحى الوجدان المصرى، ويقترب كثيراً من روحه صيغة وموضوعاً.

محاولات مقضي عليها

وإلى أن يحدث هذا، فإن محاولات غرس فن الأوبرا الغربية، فى التربة المصرية مقضي عليها بانعدام فاعلية، بل هى تتعرض لما هو أخطر من هذا، وهو التآكل، بفعل اختفاء بعض العناصر الفنية، كما حدث فى حالة الفنانة الراحلة أميرة كامل، أو بانصراف بعض هذه العناصر إلى الغناء على الطريقة الغربية مثلما كان حال الفنانة عفاف راضي، لقد أعلن الشعب المصرى رأيه فى الغناء الأوبرالى الغربى منذ الأربعينيات حينما قدم إلى مصر الفنان العربى ذو الصوت القوى العذب عبدالهادى البكار، فغنى غناء أوبرالياً مدة من الزمن واستمع إليه الناس قليلاً، ثم انصرفوا عنه وأخذوا يتندرون به وبغنائه، ثم تدهور حاله فإذا به يقبل أدواراً فى السينما تسخر من أدائه الأوبرالى وتضحك الناس عليه، تماماً كما حدث فى حالة الفنان حامد مرسى - والقياس مع الفارق طبعاً - فقد استخدم هو الآخر وسيلة إضحاك من الغناء الجمهورى شبه الأوبرالى الذى كان يؤديه فى مطلع شبابه.

أن أحداً لا يصادر على التجريب والمحاولات المخلصة لغرس فنون جديدة فى التربة.. غير أن التجريب ليس مقصوداً فى حد ذاته، وإنما الذى ينبغى أن يهمنا ثمار هذا التجريب، فإن استجابت التربة وأنبتت الزرع فهذا دليل واضح على أن البذرة صالحة والأرض مستجيبة، وأن تعثر النبت، فجاء ضعيفاً، أو غير مزدهر فقد وجب أن نقف من فورنا ونعيد الحساب.