الأحد 2 يونيو 2024

أسئلة جديدة عن حرب البسوس

فن25-10-2020 | 14:21

لم أتحمل المساحة الرمادية التى تعتمل في داخلي تجاه شاعري الجنوبي المفضل، أمل دنقل، فرغم استمتاعي مرارا بقراءة وترديد شعره عامة وقصائد ديوانه "أقوال جديدة عن حرب البسوس" خاصة، إلا أننى كنت أقاوم في كل مرة سؤالا ملحا حول اختيار "كليب بن ربيعة"رمزا وهو الذي ثارت من أجل مقتله أحداث الملحمة التى ظلت تتوارثها الأجيال منذ عصور الجاهلية في جزيرة العرب حيث زمن الملحمة وحتى غناها شعراء الربابة في أماسيهم وسهراتهم كالسيرة الهلالية حتى عهد ليس بالبعيد منا الآن.

فلماذا عندما أراد الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل أن يرمز للمجد العربي الذبيح عقب هزيمة 1967، كما صرح بذلك في مقدمة الديوان القصيرة، اختار كليب رمزا لهذا المجد؟!.

فكليب بن ربيعة المشهور بكليب وائل، كما يتبين من المرويات عنه سواء التاريخية حتى لو امتزجت بالأسطورة، يبدو شخصية شديدة السطوة والجبروت ولم يكتسب مكانته في قومه إلا بما يكتسبه أى زعيم قبيلة آلت إليه زعامتها بالوراثة حسب نظام القبيلة ولم يكن بطلا أو حكيما إنما كان جبارا في الأرض.

مع كل ذك يبدو السؤال ساذجا خاصة أننا بصدد نص شعرى وليس دراسة أو مقالا، ولا يؤخذ على الشاعر ما يؤخذ على الكاتب، لكن مع سذاجة السؤال يبقى العجب من اختيار طاغية للرمز، وهو ما كان يمثل الروح الجاهلية التى ترهب الطاغية كما تعجب بالبطل، لكن صفات البطل الحقيقي لم تكن في كليب وإن رهبه الناس من قومه أو من عدوه أو حتى على توالي القرون بأن صار صورة للمجد الذبيح.

حقا كان كليب نموذجا للزعيم العربي في الجاهلية الأولى، فقد بلغ من سطوته التى هي مستمدة من قوة قبيلته تغلب،أن قيل سار عنه المثل "أعز من كليب وائل".

ثم ما ظنك برجل كان يحمى الوحوش في الوديان فيقول وحش كذا في وادٍ كذا في حماي؟!.

ولم يكتف بوديان الأرض فنظر إلى السماء فكان يحمى مواضع السحاب عندما ينظر إليه فحيثما أمطرت السحابة فمكان مطرها يبقى في حماه لا يرعى به أحد إلا بأمره، وكان إذا جلس لا يقدر أحد أن يمر بين يديه إجلالاً له، ولا يحتبي أحد في مجلسه غيره، ولا يخرج للإغارة إلا بإذنه، ولا تورد إبل أحد، ولا توقد مع ناره نار، ولم يكن بكري ولا تغلبي من أهل وأبناء عمومته،لا يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمى إلا بأمره، وكان يجير على الدهر فلا تخفر ذمته!. وكان يقول: وحش أرض في جواري، فلا يهاج!. وكان هو الذي ينزل القوم منازلهم ويرحلهم، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو كلب، فكان إذا نزل بكلأ، قذف ذلك الجرو فيه فيعوى، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من أذن بحرب، فضُرب به المثل في العز وكان يحمى الصيد فيقول: "صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً".

ودعك من كل هذا وانظر معى إلى أنه "كان يجير على الدهر فلا تخفر ذمته".

ولا نهتم هنا بصدق هذه الأقاويل أو كذبها، فأكاد أجزم أنها من تهويل الرواة خاصة في السير الشعبية.

ونموذج كليب ليس فريدا في الجاهلية التى كثر فيها الطغاة، ولعلك تجده في ملك كعمرو بن هند الذي لقبوه بالمُحرق لأنه أحرق مائة رجل في قصة مشهورة وكذلك النعمان بن المنذر الذي كان له يوم نعيم ويوم بؤس فمن لقيه في يوم نعيمه أمر بإكرامه ومن لقيه في يوم بؤسه أمر بقتله!.

وليس العجب فقط من وجود مثل هذه النماذج في الطغيان، بل العجب من قبول الناس لهم واستشعار هيبتهم والرهبة من جبروتهم، فقد رويت هذه الأخبار عن كليب بن ربيعة وغيره من جبابرة الجاهلية لا على سبيل الذم والقدح، بل على سبيل الانبهار والمدح لهذه القدرات وحتى لا نظلم أهل الجزيرة العربية في الجاهلية، فهذه النماذج في الطغيان والجبروت منتشرة في التاريخ الإنسانى حقائقه أو أساطيره، بل إن كثيرا من الزعماء المحليين أو من تجاوزواالدائرة المحلية أو الحقبة التاريخية إلى العالمية والخلود، كان بسبب ما روي عنهم من قوة في البطش والجبروت!.

فلا عجب أن صار كليب رمزا للعزة والفخار وهو بكل هذا البطش الذي وصل حد الجنون بالذات، والذي دفعه لقتل الناقة التي كانت لهند الملقبة بالبسوس والتى نسبت لها الحرب، فقد قتل كليب الناقة(ورد في رواية أنها لجار للبسوس يُدعى سعد بن شمس)، عندما وجدها تسير بين نوقه في مرعاه فضربها بسهم فقتلها به وفي رواية أنه أمر غلاما له بقتلها وذلك دون أن يسأل عن صاحبها أو سبب وجودها، وهذا فعل أقل ما يقال عنه أنه فعل يتسم بالخسة والتجبر معا ولكن الرواة لم يلمحوا لذلك لأن صفات الجبروت تبيح لحاملها ما لا تبيح لغيره من الناس.

وكان نتيجة قتل الناقة أن استجارت البسوس بابن أختها جساس بن مرة وهو شقيق الجليلة زوجة كليب، فقتله جساس جزاء قتله الناقة.

وثارت حروب طاحنة عرفت بحرب البسوس بين بكر وتغلب وكان بطلها عدي أخو كليب ولقبه "المهلهل أو سالم الزير - الزير سالم حسب الرواية الشعبية-" وقيل إنها استمرت أربعين سنة مفعمة بالقصص والأشعار وهي بحق درة في عقد التراث العربي في القصص والملاحم.

وفي خضم الانجذاب لأحداث السير الشعبية أو الانبهار بشخوص أبطالها يمكن أن نتقبل كثيرا في سياقها مما لا نقبل به خارج هذا السياق، لكن لا يمكن قبولهم كرموز عامة في المجد.

هل أحببنا الطغاة لأننا نعشق القوة؟.. أم نخفي ضعفنا في تتبع سيرهم؟!

وأصطبر، فأقول لعل نهاية كليب وذله وانكساره بعد كل هذا الجبروت، هي التى جعلتنا نسامحه لأن العاطفة تَغْلُب في النهاية ومشهد الأسد الذبيح وهو يعانى سكرات الموت يجعلك تتعاطف معه مهما بل من فرائسه من غزلان الغابة الوديعة!.

قتله جساس بن مرة وعمرو بن الحارث فاستجار كليب بعمرو واستغاثه بشربة ماء فنزل إليه عمرو وأجهز عليه بعد أن طعنه جساس انتقاما لضرع ناقة فقال كليب بيت الشعر الشهير:

المستجير بعمرو حين كربته ..  كالمستجير من الرمضاء بالنار

وأيقن كليب الهلاك وزحف إلى صخرة وكتب بدمه مخاطبا أخيه سالم الزير ثلاث كلمات "سالم..لا تصالح".

وهي التى اتخذ منها أمل دنقل فكرة قصيدته "لا تصالح.. الوصايا العشر" التى صارت واحدة من عيون الشعر العربي المعاصر وكانت المظاهرات تهتف بأبياتها في أرجاء العالم العربي.

قصيدة حفظتها ورددتها وما زلت أعود لها قراءة أو من الذاكرة منذ الصبا، ففتنا بها "أمل" كما فتن هو ببطلها!.

لكن يبقى السؤال بلا إجابة ولنخرج من أجواء الشعر والإبداع إلى المقاصد العامة ونكرر عجبنا من اتخاذ طاغية رمزا عند شاعر عرف بشاعر الرفض وشاعر الثورة وتفيض قصائده غزلا وبكاءً وتمجيدا للحرية والكرامة وكراهية للطغيان والجبروت.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد اتخذ دنقل موقفا سلبيا من البسوس في مقدمته القصيرة مكررا وسمها بالدهاء والمكر وأنها هى التى أهاجت الحرب، كذلك ابن أختها عندما استجارت به، فالأمر ليس قتل ناقة إنما جبروت رجل لم يحترم جوار شقيق زوجته وحسب الرواية فإنه: "دخل كليب على امرأته الجليلة يوماً فسألها: هل تعلمين على الأرض من هو أمنع مني ذمة؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت:نعم، أخي جساس".

والراوي يلمح بأن كليبا قد تملكته الغيرة من جساس ولعل تلك الغيرة هي سبب قتله ناقة البسوس لأنها نزلت في جوار ابن أختها.

ومع أن الجميع في قبيلتى بكر وتغلب وهما أبناء عمومة، قد استنكروا قتل كليب في ضرع ناقة إلا أن الحرب هاجت واستعرت وعركتهم عرك الرحى بثفالها.

ولكن جساس ظل في السيرة الشعبية والقصيدة الدنقلية، رمزا للخسة والغدر فكرهه الرواة وكرهه أمل دنقل وكرهناه نحن!.

بقى أن أدافع عن شاعرى الأثير- وإن كنت أنا صاحب الادعاء- فقد وافت المنية "أمل" دون أن يكمل شهادات أبطال أقواله الجديدة عن حرب البسوس، وكان من بينها شهادة جساس بصفته واحد من أبطال الملحمة، فلم يكتب في الديوان إلا قصيدة "لا تصالح" على لسان كليب وأقوال ابنته اليمامة ومراثيها لأبيها وفقدنا متعة ما كان سيقوله "أمل" على لسان أبطاله الذين لم يكملوا معه أقواله الجديدة.

وثمة دفاع آخر عن "أمل" لا يقوله إلا "جنوبي" يفهم خلفيات الشخصية الجنوبية في الإعجاب بالقوة والبطولة حتى لو اقترنت بالطغيان، فلعلك تلمح إعجابا لدى أبناء الجنوب للقوي البطل حتى لو كان مجرما.. لعلها أيضا في بنى الإنسان عموما.. ولكن صراحة الجنوبي كانت أكثر طغيانا، فباحت بما يخفيه غيره.