السبت 1 يونيو 2024

فاضل أبو عاقلة يكتب: لؤلؤ الخليج.. حكايات البحر ولهفة العائدين

فن26-10-2020 | 23:40

شكلت البيئة التي عاشها ابن الخليج شخصيته المحتفظة بمخزون ثقافي، وهي شخصيّة أخذت من مفردة البحر والصحراء والجبل الكثير من المعاني والميّزات، مُبينة أوجه الفرادة والتميّز في هذه الشخصيّة التي تشاركت مع محيطها الإنسانيّ وشكّلت أنموذجًا عاليًا في هذا المجال، بالاتكاء على التجارة ورحلات الحياة الشاقة.


"اللؤلؤ".. المفردة ذات الدلالات الأشمل على التواصل الإنساني من خلال رحلات دائمة ومنتظمة مع الجوار الخليجي، وتحديدًا الهند، وهي، بما لها من قيمة اقتصاديّة، أنموذج قوي على العنصر البحري في حفز الشخصيّة الخليجيّة، وتأكيد وجودها، ومدّها بالخصيصة الجمالية الأهمّ - عدا الجانب الاقتصادي- وهي خصيصة "الذوق" والسموّ الوجداني، نظرًا لما للؤلؤ من الصفات الإيجابيّة التي جعلت ابن الخليج مغرمًا جدًا بها، يستثمرها في حياته اليوميّة لتكون معيارًا جماليًا، أو تفاصيل لامعة في التراث المحكي، في الأهازيج والأغاني والأمثال والقصائد والحكايات والقصص ومغامرات البحر.


يحافظ إنسان الخليج على قيمة اللؤلؤ ويقدّره، تماماً كما كانت عليه الحال في تغنّي شعراء الفصيح باللؤلؤ واتخاذهم قيمته الجماليّة مقياساً لعلوّ المكانة وارتفاع سمت الذوق في عدد مهم من جوانب التراث غير الماديّ، كما في أغنيات الصيادين وقصصهم وحكايات البحر ولهفة المحبين، وهي اشتغالات أدبيّة اعتادها ابن المنطقة الخليجيّة الملازم للبحر الذي فرض عليه إيقاعه الاجتماعيّ؛ يقول الباحث والراوي الإماراتي عبيد بن صندل: "انسيابية العادات الاجتماعية لدينا مستمدّة مما يجلبه الموج ومما يكتنز به ذلك المكان القصيّ في الأعماق من لؤلؤ، بات حلمًا يدخل في تفاصيل الحياة، وفي "دندنات" عذبة جعلت هذا العنصر المهمّ يتخلل أهمّ أغاني الناس و(شيلاتهم) في استثمار (الدانا) واللعب على موسيقاها التي استجابت لها نفس الخليجيّ من خلال اعتيادها ذلك الجرس الموسيقي الآسر المنتظم".


الإنسان هنا - منطقة الخليج العربي - في توافقه وهدوئه وانسجامه، وتعاطيه الليّن الرومانسي مع أكثر المسائل تعقيدًا، بارتياح بعيدًا عن الصخب، وهو ما يميّز شخصيّة الخليجي في تعلّقه بالبحر وما يشتمل عليه من كنوز أهمّها على الإطلاق "اللؤلؤ"، ولذلك انبرى عددٌ لا بأس به ممن يقدّرون قيمة هذا العنصر ويزنونه بميزان الذوق والجَمال، حسب ابن صندل.


احتل الغوص على اللؤلؤ مكانة رفيعة لدى المجتمع البحري القديم في الإمارات والخليج، فقد تشكلت في هذا المجتمع ثقافة خاصة، ذات صلة بالمجالس التراثية الشعبية والشعرية يتم من خلالها استعادة حكايات البحر، وقصص الغواصين المغامرين، وتنوعت أشكال هذه الثقافة ما بين نظم وإلقاء القصائد الشعرية المستمدة من بيئة البحر، إلى بيان التكافل والتآزر في المجتمع قديمًا، كحل المشكلات التي تعاني منها عائلات البحارة التي كانت تنتظر العائدين من البحر بشوق وحرارة، فشكلت هذه المفردات نسقًا اجتماعيًا تراثيًا ساهم في إخصاب مُخيلة الشعراء، وتم توظيفه في أدب وتراث الخليج ليكون شاهدًا على فترة زمنية عبرت عن حالة إنسانية مليئة بالخفايا والأسرار والعادات والتقاليد الأصيلة.


تقول الباحثة فاطمة خليفة أحمد، في كتابها "نشأة الرواية وتطورها في دولة الإمارات العربية المتحدة": "نجد أن حياة الماضي والعلاقة بين الإنسان والبيئة شكّلت محورًا رئيسًا في الإبداع الأدبي لدى كتّاب الإمارات، ومنها استمدت الرواية والقصة الإماراتية العديد من موضوعاتها وصورها الفنية، فالبحر والماء والصحراء والشمس والنخيل من أبرز الموضوعات في مختلف الفنون الأدبية لدى أدباء الإمارات، ولعل مرحلة الغوص كانت أكثر المراحل تأثيرًا في حياة الإنسان على هذه الأرض، وشكّلت هذه المرحلة محورًا أساسيًا لغالبية الكتابات الأدبية، ولعل أهم مظهر من مظاهر تحولات المهنة انحسار دور البحر ومهنة الصيد مع ظهور النفط وتخلّي الأبناء عن مساعدة آبائهم في مهنة الغوص والزراعة والصيد، بعد أن تبنّوا أعمالاً جديدة".


ولا شك في أن وجود مؤلّفات ترصد الخصائص الفيزيائيّة- الماديّة- للؤلؤ إلى جانب تراث متراكم، يجعل من اللؤلؤ بطلاً في مسرح التأثير الاجتماعي، ويجعل أبناء المنطقة الخليجيّة روادًا في تحقيق العلاقات الإيجابية مع الآخر، وفقًا لعلاقتهم الحميمة مع الخليج وارتيادهم منافذه وتعرّفهم على عالمه الإنساني من الشعوب الأخرى، بما تهيّأ لهم من تجارة وبما فتحه لهم البحر وموارده الغنيّة من اتصالات طبيعيّة مع الآخر.. تقول الباحثة الإماراتية حصه محمد الكعبي: "إنّ وجود هذه المؤلفات يُعدّ وسيطًا حقيقيًّا بين الخليج وجواره الإنسانيّ، ولنقرأ عناوين بعضٍ من هذه المؤلفات لنقف على العناية الفائقة باللؤلؤ، ولنقرأ الظلال الإنسانيّة لهذه المؤلفات، ومعظمها كما وصل إلينا طُبع في مدينة بومبي بالهند، وما يحمله ذلك من علائق الإيمان بالآخر وتقديره واحترامه والتشارك الإنسانيّ معه".


إنّ الشخصيّة الخليجيّة، وفقَا لهذه التجارة الطبيعيّة وهذه الآفاق الممتدة، ذات سمات إنسانيّة وحواريّة مع المحيط البشريّ منذ زمنٍ بعيد، وإذا كان مراس البحر ومعانقة أمواجه وركوبها أوجد تأثيرًا متبادلاً بين منطقة الخليج وجوارها، فإنّها بالتأكيد ليست شخصيّةً منغلقةً في تفكيرها وآفاقها وارتيادها ذلك المجهول في علم الغيب، فإنسان الخليج اليوم يقف واثقًا مبادرًا يقدّم علاقات الأخوّة الإنسانيّة ويعترف بها، ولا شكّ أنّ تجارة اللؤلؤ ومخالطة الشعوب الأخرى في تسويقه لا تقف عند الناحية الماديّة فقط، بل تتعداها إلى التشارك في قضايا هذه الشعوب واستيراد نضالها الاجتماعي وتصميمها على الحياة، وربّما التفاعل مع قضاياهم والسعي لحلّها، بل وربّما التأثر بها من منظور ثقافي اجتماعي، فالتاجر الخليجي رحّالة اجتماعي، وهو سفير ثقافي أيضًا، يحمل مجموعة الأبعاد الفكريّة والحضاريّة والإنسانيّة متّكئًا على تجارة اللؤلؤ، ليعود بما يعادل اللؤلؤ من أوجه تقدّم البشريّة ورقيّها وسعادتها.


وتكفي نظرة على المؤلفات الخاصة باللؤلؤ لندرك شغف الخليجي به وتخصصه في معرفة أوزانه ومقاييسه وجماله وحساب قيمته، ونقف على الريادة التي تؤكّد تفاعل الشخصيّة الخليجية بهذا العنصر المميز وإلمامها به والبحث عن آفاقه، وإذا كان من إشارة فإنّ كتبًا مهمّة تناولت اللآلئ الثمينة في التراث العربيّ، تحت مسمّيات "الدرر اليتيمة"، وهو ما يحمل ندرةً وفرادةً لهذه التي هي يتيمة عصرها بمقياس الجمال.


مما يدل على التأثير العظيم للؤلؤ في حياة الخليج وجود عدد كبير من الكتب التي تعنى به، وهي كتب قديمة تدلّ عليها تواريخ كتابتها، ومنها كتاب "حساب أوزان اللؤلؤ" لسلطان بن محمد بن علي المناعي، من أهل البحرين، المطبوع عام 1886م، وكتاب "تحفة الأصحاب لتسهيل الحساب"، لعلوي بن السيد طالب البنادرة الموسوي البحراني، عام 1325 هـ، وكتاب "معرفة حساب أوزان اللؤلؤ"، لعبد اللطيف بن عبد الرزاق، المطبوع عام 1329 هـ، وكتاب "الخالص من كل عيب لوضع الجيب"، للربان الكويتي عيسى القطامي، وقد طبع عام 1343 هـ، وكتاب "اللآلئ" لمحمد عطاء الله القاضي، المطبوع على نفقة الشيخ سعيد بن محمد سعيد المدفع، وهو أحد تجار الشارقة، عام 1928م، وغيرها.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020


الكاتب: صحفي سوداني