السبت 29 يونيو 2024

"الكل في مداري".. فصل جديد من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"

فن27-10-2020 | 10:59

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "هيكل..المذكرات المخفية" للكاتب الصحفي "محمد الباز"، والذي جاء تحت عنوان "الكل في مداري".

وقائع 9 يونيو 1967

(1)

المكان.. بيت جمال عبدالناصر.

الزمان 9 يونيو 1967.

ذهبت إلى الرئيس فى الساعة السابعة إلا خمس دقائق صباحا، أحمل معي مشروع خطاب التنحي الشهير، وكنا قد اتفقنا على توجهه العام خلال اتصالين تليفونيين أجراهما معي من مقر قيادة القوات المسلحة في مدينة نصر مساء يوم 8 يونيو.

قبل أن ألتقيه حاصرتني لحظات صعبة لا أعرف كيف مرت عليّ.

في الليلة السابقة كنت أجلس في غرفتي وفي خاطري أن أحلامنا الكبرى انهارت، فكرت في عبد الناصر وآلامه التي كانت فوق طاقة البشر، كان وكأنه كبر عشر سنوات، كان صادقا فى مشاعره وتصرفاته، معتقدا أنه خذل أمة أولته ثقتها كما لم تفعل مع أحد آخر، قرر أن يتنحى، وطلب مني أن أكتب ما اتفقنا عليه من خطوط عريضة.

وجدت جمال عبد الناصر واقفا أمام مكتبه يتكلم في التليفون، أومأ أن أنتظر ثم أشار إلى مقعد أمام المكتب كي أجلس، لم أفعل، ابتعدت حتى يتكلم على حريته، وقفت أمام دولاب المكتبة المواجه للمكتب أحاول قراءة عناوين الكتب المرصوصة، لم أستطع التركيز على أي منها.

التفت إلى ناحية الرئيس وهو منهمك في حديثه التليفوني.

 أدهشني كيف بدا.

 إنني لم أره منذ ثلاثة أيام.

 تحدث معي تليفونيًا عدة مرات، لكنه الآن اختلف كثيرًا عما رأيته آخر مرة.

عشر سنوات على الأقل زادت على عمره خلال ثمان وأربعين ساعه لم أره فيها، بدا أن هم الدنيا كلها نزل فجأة على كتفيه، أشعر بأزمته وأراها بعيني.

مع من يتكلم في هذه الساعة من الصباح فى هذا اليوم الكئيب؟

لا ينبغى أن أركز على الإصغاء، أصغيت، فهمت بعد عبارتين أنه يتحدث مع عبد الحكيم عامر، نظر إلى، أدرك أننى أخذت أتابع، وضع يده على بوق سماعة التليفون، وجه إلى الكلام: عبد الحكيم.

ثم استطرد: عبد الحكيم وصلته معلومات بأن قوات إسرائيلية تعبر القناة الآن من الشرق إلى الغرب،

قلت على الفور: مستحيل.

أشار مستفهما، فكررت ما قلته، رفع يده عن بوق التليفون.

قال لعبد الحكيم: انتظر.. هيكل دخل عندي الآن ويظهر أن له رأيا؟

التفت إلى جمال عبد الناصر وسماعة التليفون ما تزال فى يده، وإن أبعدها ونزل بها إلى قرب سطح المكتب.

سألني: لماذا مستحيل؟

كان ردي أن ذلك لا يمكن أن يكون معقولا.

إسرائيل بوصولها إلى الضفة الشرقية لقناة السويس حققت أكثر مما كانت تخطط له أو تحلم به، أكثر مما تحتمله الموازين الإقليمية والدولية، وأكثرمما تحتمله حقائق الواقع على الأرض، وصول القوات الإسرائيلية إلى قناة السويس بعد زحف طويل وسريع ومنهك يفرض عليها أن تنتظر ولو لإعادة تجميع الصفوف، قبل أى حركة جديدة.

وأضفت: أي تقدم في الغرب معناه الآن أن الجيش الإسرائيلى سوف يبدأ نوعا جديدًا من المعارك لا يريده كما أنه ليس مستعدا له، لأن أي معارك فى الغرب سوف تكون معارك مدن أو قرب مدن، وسط تجمعات سكانية، نظرية الحرب الإسرائيلية لا تقبل هذا النوع من الحروب الذى يكلف أرواحا بشرية عالية.

لخص جمال عبد الناصر لعبد الحكيم عامر ما سمع منى، ثم ناولنى سماعة التليفون أشرح بنفسى وجهة نظري لعبد الحكيم.

أعدت عليه ما قلت.

قال: هذا كلام نظرى فات وقته.

قلت: هذا جائز ولكني ما زلت أعتقد بصحته، وأخشى أن المعلومات التي وصلت إليه أملتها الظروف التي أثرت على أعصاب بعض الضباط والجنود على الجبهة.

لم يرد جمال عبد الناصر أن يطول الجدل، أخذ سماعة التليفون وطلب من عبد الحكيم أن يتأكد بنفسه من قيادة القوات.

سأله: أين مرتجي "اللواء عبد المحسن مرتجي قائد القوات البرية على الجبهة"؟

لم أسمع رد عبد الحكيم، ختم جمال عبد الناصر بقوله: حاول.

لم أعرف ما هو المطلوب من عبد الحكيم محاولته... ربما الاتصال بمرتجي.

(2)

تحرك جمال عبد الناصر من وراء المكتب وجلس على أحد المقعدين الكبيرين " فوتيل" أمام المكتب، جلست أمامه، هز رأسه بأسى لم أر مثله منه في تعبيره عن نفسه، رغم أننى رأيته من قبل في أزمات كبرى.

 أحسست لأول مرة أن الرجل الذى يجلس أمامي جريح، وهو ينزف دمه فى هدوء مأخوذ كأنه ما زال تحت نوع من الصدمة.

قلت فى محاولة للتخفيف عنه: إن المقادير تصيب الناس أحيانا بما لم يتحسبوا له، ولكن المهم كيف يتصرف الناس بعد أن تضربهم المقادير؟

قال وهو يهز رأسه فى أسى عميق مرة أخرى: ما يؤلمني أن المقادير لم تكن هي التي ضربتنا، نحن ضربنا أنفسنا.

التفت ناحية التليفون كأن الرجل الذى كان يحدثه فيه قبل دقيقتين تجسد فى مكانه وما زال هناك.

قال: عبد الحكيم ضيع أعصابه تماما... وضيع جيشه... ولا أستطيع أن ألوم أحدا لأننى المسئول... عبد الحكيم كان يجب أن يمشي بعد الانفصال. 

استطرد جمال: بعد الانفصال كان عبد الحكيم يشعر في أعماقه أنه قائد مهزوم، أي قائد عسكري مهزوم – مهما تظاهر – يفقد الثقة فى قراره، يتردد، التردد معناه معاودة التفكير والتقدير، القائد العسكرى الذى يفقد الثقة فى قراره يتظاهر بالقوة أكثر مما يحس بها داخل نفسه، ظننت أن تجربة الانفصال سوف تفيده، أعرف الآن أننى أسأت التقدير.

تصورت قبل أن أجئ أن جمال عبد الناصر لا يريد أن يتكلم فيما جرى الآن، وكنت عزمت أن لا أثقل عليه بسؤال، بدا لى أنه يريد أن يتكلم، ربما يشعر أن الكلام يريحه، الرجل فعلا فى حاجة إلى أن ينفس عن نفسه وأن يفضفض.

ترددت قبل أن أوجه إليه سؤالا.

 لا أريده أن يظن لحظة حتى فى مثل هذا اليوم أن طبيعة الصحفى لدى تطغى على ما عداها.

 لم أكن أريده أن يتخيل فى هذه الظروف أنه مع الصحفي.

 أردت لنفسى وأردت له أن يثق انه مع الصديق وليس مع الصحفي.

 شعرت أن الفارق خيط رفيع: ما هو الفارق العملي بين أن يفضي إلى صديق وبين أن يتحدث إلى صحفي هو نفسه الصديق؟

أحس جمال عبد الناصر بترددي، أشعل السيجارة الثالثة التى رأيته يشعلها فى أقل من ثلث ساعة قضيتها معه حتى الآن، كان يشد الأنفاس من السيجارة وكأنه يملأ بها صدره إلى الآخر، ثم ينفث الدخان وكأنه يطرده، طلب فنجانين من القهوة... وراح يتكلم.

بدأ جمال عبد الناصر قائلا: الكارثة أن عبد الحكيم تصرف سنة 1967 وكأننا ما زلنا فى سنة 1956، كأننا فى السويس مرة أخرى.

هذه المرة كنا نتحرك لمساندة سوريا أمام التهديدات التى تتعرض لها من إسرائيل، وقد وصلت إلى حد تهديد ليفى أشكول يوم 8 إبريل بأن القوات الإسرائيلية مستعدة لإحتلال دمشق نفسها لضرب النظام فى سوريا وفى عقر داره.

وكانت هناك بالفعل حشود قوات إسرائيلية على الخطوط مع سوريا.

 ذهب فوزى " الفريق محمد فوزى رئيس أركان حرب القوات المسلحة" إلى ما أبلغه لنا السوفيت والسوريون، وأكدته الأخبار العلنية والتصريحات والتهديدات عندما جاء فوزى كانت العجلة دارت.

واصل جمال كلامه: فى السويس 1956 كان لابد أن نسحب القوات من سيناء فور أن وصلنا الإنذار البريطانى الفرنسى بالتدخل، معنى بقاء القوات فى ذلك الوقت، وبعد قرار إنجلترا وفرنسا أن تتدخلا فى الحرب بالتآمر مع إسرائيل، أن القوات فى سيناء سوف تصبح مقطوعة عن قواعدها فى الوادى ومعزولة عن قيادتها فيه، ستكون القوات فى مواجهة إسرائيل فى سيناء، وينزل الإنجليز والفرنسيون وراءها.

 واجهنى مباشرة: وقتها تذكر أن عبد الحكيم كان لا يريد الإنسحاب من سيناء، وقد طلب إلى القوات أن تقاتل إلى آخر رجل وآخر طلقة، ذهبت إلى القيادة وقلت له إن هذا جنون مطبق لأن عليك أن تأمر بسحب القوات من سيناء وتأمر بضمها إلى قوات الجيش الرئيسى.

وقلت له: بدل أن تترك مصر كلها مكشوفة للقوات البريطانية الفرنسية، حدد أولوياتك، الإنجليز والفرنسيون أولا دفاعا عن الدلتا والقاهرة، فإذا نجحت فأمر إسرائيل فى سيناء بعد ذلك مقدور عليه.

كان معظم أركانات حربه على ذلك الرأى، ذلك أبسط ما يقول به العلم العسكرى، لكن عبد الحكيم غلب عنصر الكرامة والكبرياء، والحرب ليست كذلك، الحرب بالدرجة الأولى نفس طويل، كل معركة جزء من حرب وليست كل الحرب.

هذه المرة 1967 بدأ عبد الحكيم عامر من حيث انتهينا سنة 1956، والظروف مختلفة، مختلفة جدا لأننا هذه المرة كنا أمام جبهة واحدة فى سيناء، وحينما أصدر عبد الحكيم أمر الإنسحاب من سيناء " تكرارا لما جرى فى السويس" كان معناه دون أن يفهم أنه بذلك يعطى للقوات الإسرائيلية ما تريده بالضبط.

فى المرة الماضية كنا نريد سحب الجيش من سيناء حتى وإن لم يقاتل لأننا كنا نريده لمواجهة الإنزال البريطانى الفرنسى عندما ينفذ الإنجليز والفرنسيون إنذارهم بإحتلال القناة، هذه المرة كان الأمر يختلف،  لماذا ينسحب الجيش من سيناء ولا يقاتل طبقا لخططه؟

 عبد الحكيم أصدر قراره بالإنسحاب من سيناء بعد أن عرف بحجم الخسائر فى ضربة الطيران صباح يوم 5 يونيو، أحس بالإنكشاف بعدها وظن أن عليه سحب القوات وهذا تصرف غريب.

المرة الماضية كان هدف غزو قناة السويس، هذه المرة الهدف سيناء، الظروف تغيرت، ولابد للقائد أن يتصرف بمطالب الوضع الجديد، ويحارب المعركة الدائرة أمامه اليوم، ولا يحارب المعركة التى كانت بالأمس، معركة الماضى، كذلك تقول مبادئ العلم العسكرى.

عبد الحكيم فوجئ بضربة الطيران الإسرائيلى، بقوة الضربة... بخسائرها، وفقد أعصابه وراح يتصرف فى معركة سنة 1967 بالمنطق الذى اقتضته معركة 1956، وهذا أسوأ ما يتصرف به قائد عسكرى.

لم يخطرنى عبد الحكيم بقرار الإنسحاب قبل إصداره لأنه فى الغالب كان مكسوفا من نفسه بعد ضربة الطيران، وكان يريد أن يثبت للجميع ولى أنه قادر على القرار، وهو لم يكن قادرا بعد المفاجأة، حاول أن يخفى عنى حجم خسائر الضربة، وظل يرواغ ثلاث ساعات، حتى بعد ضربة الطيران الإسرائيلى كان اعتقادى واعتقاد كثيرين غيرى فى القيادة أن القوات فى سيناء تستطيع أن تحارب معركة دفاعية كبيرة من مواقع ثابتة، وفيها كانت تستطيع تعطيل التقدم الإسرائيلى وتعطينا وقتا لعمل سياسى واسع، لكن قرار الإنسحاب زاد فى انكشاف القوات المصرية، لأن الإسرائيليين لاحقوها وهى تتحرك تحت سماء مكشوفة لهم فيها السيطرة الكاملة على الجو ووضعوها نفسيا بالدرجة الأولى فى موقف شديد الصعوبة.

سنة 1956 تركنا فى سيناء كتائب وطلبنا منها أن تتمسك بمواقعها ثمانى وأربعين ساعة حتى نغطى انسحاب مجموعة الجيش الرئيسية وراء قناة السويس، وذلك تحقق، رغم أن الجيش الإسرائيلى كله بفرقه المدرعة وطيرانه كان يوجه كل قوته على هذه الكتائب الستة.

عندما عرفت صباح 6 يونيو بقرار الإنسحاب ذهبت إلى القيادة على عكس ما كنت أنتويه، يحكى لك سعد متولى " اللواء سعد متولى قائد القوات التى قاومت فى سيناء سنة 1956 حتى المدى الذى طلب منها وقد أصبح فيما بعد قائدا للحرس الجمهورى".

فى الأصل لم أكن أريد أن أظل طويلا فى القيادة حتى لا أضغط على أعصاب المسئولين فيها.

 أردت أن أترك لهم حرية التصرف خصوصا أننى كنت أذهب يجئ كل إخواننا" أعضاء مجلس قيادة الثورة الباقين"  إلى هناك، ونصبح بوجودنا زحاما حول القرار العسكرى.

 بعد قرار عبد الحكيم بالإنسحاب كان لابد أن أذهب إلى القيادة، حاولت أن أعيد بعض القوات خصوصا الفرقة المدرعة الرابعة، كان الوقت قد تأخر، أمر الإنسحاب مبكرا فى المعركة دعا الوحدات إلى أن تتصرف كل منها وفق مطالب سلامتها، وذلك صنع فوضى استعصت على أى محاولة للسيطرة والقيادة.

لم أكن أريد أن أقاطع جمال عبد الناصر وهو يفيض ويستفيض، لكنى عند هذه النقطة من كلامه وجدت نفسى حتى بالرغم منى أتدخل بسؤال: كيف فوجئ عبد الحكيم وقد كانت الحقيقة أمام كل الناس، وحتى على صفحات الجرائد؟

كررت سؤالى مرة ثانية: كيف فوجئ عبد الحكيم؟

واصل جمال حديثه بادئا من حيث قاطعته بسؤالى: السبب الوحيد المعقول الذى أجده لتفسير موقف عبد الحكيم هو أنه اعتمد أكثر مما يجب على رسالة "يو ثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة.

كانت الرسالة قد وصلت إلى مصر فى 29 مايو 1967 وبه إشارة إلى اتفاق دولى على مهلة انتظار تلتزم بها كل الأطراف لفترة أسبوعين، أى أنها كانت سارية حتى 12 أو 13 يونيو.

وجه عبد الناصر كلامه لى: أنت قرأت هذه الرسالة، وكتبت ردا بموافقتنا عليها أرسلناه ليوثانت.

وأضاف: عبد الحكيم أعطى لهذه الرسالة اهتماما كبيرا، خصوصا عندما قابله السفير السوفيتى يوم الجمعة 2 يونيو، وسلمه نص رسالة بهذا المعنى بعث بها الرئيس الأمريكى " ليندون جونسون" إلى كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى.

كان عبد الناصر متدفقا: تتذكر يوم الجمعة الماضى " زى النهاردة" أنك كنت هنا، عندما تحدثت مع أنتونى ناتنج، وسمعت قولى له أننى أتوقع الحرب فى أيام، وربما ساعات، بعدها كما تذكر كنت ذاهبا إلى اجتماع فى القيادة وأثناءه قلت لعبد الحكيم أمام الجميع إننى أتوقع اندلاع القتال فى يومين أوثلاثة على أقصى تقدير، أظننى حددت يوم الاثنين بالذات.

بدأ يروى لى تفاصيل أكثر.

قال: عبد الحكيم خرج معى يوصلنى إلى باب القيادة.

 أخذنى على جنب وسألنى: إذا كنت اطلعت على رسالة يوثانت.

 قلت له: إننى اطلعت عليها.

 قال لى: إن السفير السوفيتى جاءه قبل ظهر اليوم الجمعة 2 يونيو وأبلغه بنص رسالة جونسون إلى كوسيجين، وهى متفقة بالكامل مع رسالة يوثانت، الذى قال أنه حصل على تعهد كل الأطراف بتجميد المواقف أسبوعين على الأقل، وجونسون يؤكد لكوسيجين نفس الشئ، وأنت كما سمعنا منك تقول برأى آخر، وقلت لعبد الحكيم: لا أثق كثيرا فيما يقدم لنا من تعهدات، ولا يضيرنا أن نكون مستعدين لكل الأوقات.

واصل عبد الناصر: اعتقادى أن عبد الحكيم صدق هذا كله، وهذا وحده ما يفسر أمامى حقيقة أنه قرر القيام بزيارة للقوات فى المواقع المتقدمة فى سيناء صباح الاثنين 5 يونيو، وفاجأته الضربة الجوية الإسرائيلية وهو فى طائرته فى سماء سيناء ومع معظم هيئة أركان حرب وقادة الأفرع الرئيسية، هذا هو التفسير الوحيد الذى أجده مبررا لتصرفه، هذا تصرف رجل لم يكن يتوقع الضربة فى ذلك اليوم.

انتبه عبد الناصر أكثر.

 قال: عبد الحكيم عاد إلى القاهرة كما تعرف، وعندما بدأ يتخذ قراراته كان قرار الانسحاب أولها، كان الشبح الذى يتصرف داخله هو ظل القائد المهزم، يتظاهر بالقوة لكنه فى داخله متردد يفتقد الثقة فى نفسه، حاولت والكل فى القيادة حاولوا حصر الموقف وتقليل الخسائر والمحافظة على كل ما يمكن المحافظة عليه من القوات، خصوصا الرجال – السلاح يعوض – الرجال لا يعوضون، وبرغم كل شئ فإن المصيبة كبيرة، وليس فى مقدورى أن ألقى المسئولية على غيرى، وهذا ما يجب أن نقوله للناس.

(3)

بدا وكأن عبد الناصر قد تذكر الهدف الذى جمعنا هذا الصباح، وكانت الساعة قد وصلت إلى الثامنة وعشر دقائق.

سألنى: ماذا كتبت؟... لابد أنك وجدت صعوبة كبيرة فى كتابته؟

قلت: إن معى الآن مشروعا لا ينقصه إلا اسم من تراه قادرا على تحمل مسئولية الرئاسة بعدك؟

واستطردت: قلت لى أمس أنك مع عبد الحكيم اتفقتما على أن يكون شمس بدران هو الرئيس الجديد، ولابد أن أعترف لك أن ذلك اتفاق لم أستطع فهمه، إننى حتى لم أستطع فى المشروع الذى أعددته أن أكتب اسم شمس بدران فى موقعه من نص الخطاب...  لماذا شمس بدران؟

  ثم أضفت: أى رصيد لشمس بدران عند الناس وفى مثل هذه الظروف؟

رد جمال عبد الناصر: شمس مناسب من أجل الجيش، الجيش بعد ما جرى فى سيناء مجروح ووحداته عائدة من الجبهة غاضبة، ولها الحق، والشعب هو الآخر سوف يصل إلى أقصى درجات الغضب عندما يعرف الحقيقة، والخشية أن يحدث احتكاك يعبر فيه الناس عن غضبهم، ويتصرف الجيش بجرحه، وتحدث مواجهة، مصيبة تزيد مصيبة.

قلت: إننى بصراحة لم أستوعب ما يقول.

 وأضفت: شمس بدران واحد من المسئولين عما جرى بوصفه وزيرا للحربية، ثم هو من جماعة لا رصيد لها عند الناس، وإذا أصبح رئيسا للجمهورية فخشيتى أن غضب الناس سوف يزيد، وسوف يكون الصدام الذى تتحسب له بين الجيش وبين الناس حقيقة مؤكدة وليس مجرد احتمال متوقع.

قال ردا على: إننى اتفقت بالأمس مع عبد الحكيم على اختيار شمس للأسباب التى قلتها لك.

كان يراودنى وقتها إحساس مبهم بأنى فى هذه اللحظة أعبر عما هو أكثر من صديق وأكثر من صحفى، وقد استغربت من نفسى هذا الشعور المبهم، وظللت أستغربه طول حياتى.

وجدتنى أقول لجمال عبد الناصر: على عينى ورأسى أنت وعبد الحكيم فكرتما أمس داخل غرفة مغلقة وتحت ضغوط مخيفة تحيط بهذه الغرفة المغلقة، الأمور أكبرمن ذلك بكثير، هذا هو الآن مصير بلد بجيشه وشعبه.

ومضيت أقول: أنت قررت الاستقالة وهذا قرار سليم، وذلك قرار لا بديل له، والحل بعده وهومنطق الأشياء، أن تعود الأمور بالكامل للناس، فيكون هناك رئيس مؤقت يلم أجزاء الموقف وشظاياه، ثم يقرر الناس بعد ذلك مايريدون فى استفتاء عام على أساس جديد ودستور جديد.

قال جمال عبد الناصر: هل تتصور أن تداعى الحوادث سوف يترك لأحد فرصة لذلك، لاستفتاء ودستور؟ ما تريد أن تقوله فى الواقع أن شرعية الثورة انتهت ولابد من بداية جديدة.

قلت: الحقيقة أن ذلك ما أردت قوله، تذكرت وأنا أكتب مشروع الخطاب مقولة " ديجول" أن" أى نظام يعجز عن حماية التراب الوطنى لبلده يفقد شرعيته".

قال: هذا صحيح لا نختلف عليه.

قاطع جمال عبد الناصر نفسه سائلا: كيف تظن وقع الحقيقة على الناس عندما يعرفون، عندما يسمعون ما سوف أقوله؟

أشار إلى ملف وضعته أمامنا على المائدة يحتوى على مشروع خطاب التنحى.

 قلت له: إذا لم أكن مخطئا فإن الناس لديهم الآن فكرة عن الحقيقة، الناس يدركون بالمشاعر أكثر مما يعرفونه بالمعلومات، خصوصا أوقات الأزمات.

قال جمال عبد الناصر: الصدمة سوف تكون قاسية، وهنا أهمية استيعاب الموقف بعد أن أمشى أنا.

أحسست أن صوته اختلج بالتأثر، لقد نطق بلفظ" أمشى" عدة مرات من قبل، لكنه وهو يعيد اللفظ أمامى فى معرض مواجهة الناس بالحقيقة وتمثل صدمة المسئولية يزيد تأثره.

وقلت: بالضبط...وهنا عدم اقتناعى باختيار شمس بدران.

وأحسست أنه يريد أن يسمع عن بديل مقنع.

قلت: لماذا لا يكون بعدك زكريا محيى الدين؟

وقال مستغربا: زكريا محيى الدين... اشمعنى؟

قلت: خطر لى أنه الأقدم بين الأعضاء الباقين من مجلس الثورة، وهذا نوع من استمرار الشرعية... هو أيضا رجل عاقل.

قال: صحيح... لكنك لم تأخذ فى حسابك موقف الجيش ولا موقف الاتحاد الإشتراكى.

قلت: الجيش يريد رجلا يعطيه إحساسا بالإطمئنان بعد كل ما جرى.

قال: والإتحاد الإشتراكى؟ 

قلت: تعرف رأيى فيه... وما زلت مقتنعا به.

قال وكأنه يتحدث مع نفسه: زكريا بالفعل رجل عاقل وموزون.

أضاف وصوته يبدو قادما من بعيد: زكريا أيضا يمكن أن يكون مقبولا عالميا، خصوصا فى الغرب، هو يعرفهم من زمن طويل، وقد تعامل مع كثيرين هناك عن قرب بعد الثورة، ومع الأمريكان بالذات، وخصوصا عندما كان فى المخابرات، زكريا يختلف عن غيره من القادرين على الاتصال مع الأمريكان إذا اقتضت الضرورات، هو سوف يباشرها من موقف وطنى، ذلك الإتصال فيما أظن سوف يكون لازما، لكن هناك مشكلة السوفيت.

قلت: إن السوفيت سوف يفهمون معنى مجئ زكريا محيى الدين أكثر مما يفهمون معنى مجئ شمس بدران.

قال: لاحظ أن موقف السوفيت سوف يكون مهما لأى رئيس جديد، فى هذه الأزمة حيرنى موقف السوفيت، إنهم هم الذين بدأوا بتحذيرنا من الحشود الإسرائيلية ضد سوريا، لكنهم توقفوا فى منتصف الأزمة ليتحولوا إلى وسطاء، أستطيع أن أتصور بعض أسبابهم، نحن لم نتعامل معهم كما تتعامل إسرائيل مع الأمريكان، نحن لم نكن نستطيع حتى إذا أردنا، إسرائيل فاعل رئيسى فى خطط السياسة الأمريكية، نحن لسنا كذلك بالنسبة للسوفيت، نحن نريد أن نكون مستقلين، تركبنا الحساسية إذا قال لنا السوفيت " بم".

قلت: فى كل الأحوال فإن شمس بدران لا يمكن أن يكون رجل هذه الظروف.

قال: اترك لى الفرصة أفكر، لابد أن تأخذ فى حسابك أنه لن يكون لدينا مصدر لتعويض الخسائر فى السلاح غير السوفيت، لو أراد زكريا أو غيره أن يتفاوض مع الأمريكان أو ليكسب وقتا فسوف يكون فى حاجة إلى سلاح، لا يستطيع أحد أن يتصرف على أى نحو بادئا من الموقف العسكرى كما هو الآن، ذلك موقف لابد من تصحيحه.

أضاف: اترك الآن اسم الرئيس المقترح، ودعنا نقرأ مشروع الخطاب الذى أعددته، وحين نصل فيه إلى الموضع المناسب نعود إلى المناقشة بمنطق سياق الخطاب.

(4)

أحسست أن ذلك مطمئن، على الأقل لم يصمم على شمس بدران، وإن أمامنا وقت قبل الوصول إلى يقين.

طلب إلى جمال عبد الناصر أن أقرأ نص المشروع الذى كتبته، وكنت أتحسب لذلك عارفا من البداية أن ذلك سيحدث لداع عملى يسبق غيره، فهو لا يستطيع قراءة خطى، يراه صغيرا منمنا، ويراه كذلك ربما بحكم السرعة متآكلا، لا تكتمل حروف كلماته.

لم أكد أقرأ ثلاثة سطور أو أربعة حتى استوقفنى عند الجملة التى ورد فيها تعبير" النكسة" لأول مرة، ونصها: " أننا لا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة".

سألنى جمال عبد الناصر: لماذا اخترت تعبير " نكسة"... أنا مستريح مع الكلمة لكننى أريدك أن تكون واثقا من سلامة اختيارها.

قلت: إننى توقفت كثيرا قبل أن أستقر عليها، كان أمامى أن اختار بينها وبين ثلاثة أوصاف أخرى طرحت نفسها على أثناء كتابة مشروع الخطاب.

 كلمة " صدمة" وقد وجدتها أقل من اللازم.

 وكلمة " هزيمة" وقد وجدتها أسوأ من اللازم.

 ثم كلمة " نكسة" وقد أحسست مثلك أننى مستريح لها.

استطردت قائلا:  أننا لو استعملنا كلمة هزيمة فذلك سوف يكون خطرا لعدة أسباب.

كلمة هزيمة معناها أنه أو من يجئ بعده قرر الاستسلام كما فعلت ألمانيا وإيطاليا واليابان فى الحرب العالمية الثانية.

كلمة هزيمة أيضا تؤثر على معنويات قوات ما تزال تشكيلاتها – أو بعض تشكيلاتها – تقاتل فى سيناء وعلى ضفتى قناة السويس، ولا أعرف كيف يتأتى أن نقول لهم إنها " الهزيمة" ثم نطلب منهم أن يقفوا ويعطوا أرواحهم فداء وهم يعلمون أنه الوقت الضائع.

وإذا كنا لا نريد الاستسلام فقد ترى أن تترك تقدير الموقف: نكسة أو هزيمة أو كارثة للرجل الذى سوف يأتى بعدك، لابد أن تعطيه مجالا يتحرك فيه.

قاطعنى جمال عبد الناصر قائلا: الاستسلام غير مطروح، خسائرنا لا تستدعى الاستسلام، تستدعى جهودا سياسية جديدة مكثفة يقوم بها رجل آخر ليكسب وقتا يقاتل فيه بجد أو يبحث فيه عن حل بالسياسة يستعد للمواجهة فى يوم آخر.

واصل كلامه: أظن أنه لابد من مواصلة جهود مع الأمريكان، أى جهد أقوم به أنا لن يصل إلى نتيجة، وصلت معهم إلى طريق مسدود، ثم إنى أرى رأى العين مشاركتهم الكاملة لإسرائيل على الٌلعب بوسائل المناورة السياسية، مع أن الأمر تعدى ذلك، هذه الخديعة عن فترة تجميد لأسبوعين، رسالة جونسون التى عرض على فيها أن يبعث بنائبه همفرى ليبحث معى الأمور فى القاهرة، ترجيبه بردى عليه مقترحا إرسال زكريا محيى الدين إلى واشنطن ليشرح له مواقفنا كلها، هذه الإمدادات من السلاح تحملها الطائرات من هناك ومن هنا إلى جوارنا من قاعدة هويلس فى ليبيا.

طلب أن أكمل قراءة الخطاب.

لم يعترض على شئ فيه، أظنه فى بعض الفقرات شرد منى إلى أفكار ربما استدعتها حول تعبير النكسة، وحول اسم شمس بدران، حتى وصلنا إلى جملة يقول نصها " إننى على استعداد لتحمل نصيبى من المسئولية"، استوقفنى، لم يعجبه تعبير نصيبى، ورأيه أنه يتحمل المسئولية كلها، لم أناقشه لأن المسئولية كل مسئولية فى إدارة أى صراع مسئولية سياسية، ولم نختلف.

عندما وصلت فى القراءة إلى الفقرة الخاصة بقراره أن يتنحى" عن أى منصب رسمى وعن أى دور سياسى" توقفت ونظرت إليه، كنت أريد فرصة للتوقف لأننى أحسست أن نبرات صوتى، وقد حاولت أن أضعها كلها فى خدمة ما أقرأ على وشك أن تتحشرج تأثرا.

كان اعتقادى من أول لحظة أن ذلك لا يصح أن يحدث، الرجل يحتاج الآن إلى أصدقاء يشجعونه على قراره الصعب، وأن يضعف أصدقاؤه أمامه فقد يؤثر ذلك عليه، تذكرت أنه لسوء الحظ ليس معنا الآن أصدقاء كثيرون يستطيعون المساعدة على التماسك.

كان هناك هو وأنا وليس معنا إلا الله.

من حسن الحظ أنه كان قد انتقل إلى نقطة أخرى مترتبة على تحمله وحده للمسئولية.

 قال إنه لا يعرف ماذا سيفعل به الناس؟

 قال إنه سوف يرضى بأى شئ ولن يلتمس لنفسه عذرا، ولن يقدم دفاعا وسوف يقبل كل شئ، قابلا ممتثلا حتى للمحاكمة والشنق فى "ميدان العتبة" ولم أعرف لماذا ميدان العتبة بالذات.

انتقل جمال عبد الناصر إلى الرجل الذى سوف يخلفه.

 قال: لك حق أن مسئولية المستقبل تقتضى رجلا آخر غير شمس، زكريا اختيار معقول، وعندما كنت أنت تواصل القراءة كنت أفكر، وجدته على رأيك أنسب حل، هو عضو مؤسس فى مجلس قيادة  الثورة، وهو أقدم الأعضاء الباقين إلى الآن، وطنى، عقله منظم، يستطيع أن يلم الناس، يستطيع أن يحوز ثقة الجيش، سمعته طيبة بين القوات.

(5)

اقترح جمال عبد الناصر أن أذهب بنص المشروع – عبر الشارع – إلى سكرتارية المعلومات، قال لى: اعط النص لسامى شرف حتى يكتبوه على الماكينة، وقل له أن يستعملوا بنطا أكبر من العادة هذه المرة لأنى متعب، كل شئ فى متعب بما فى ذلك عيناى.

طلب أن أترك المساحة التى تركتها لاسم من يخلفه بياضا حتى يفكر أكثر فى الأمر.

قضيت فى مكتب سامى نصف ساعة ريثما قرأ النص بدوره، وقد انفعل بشدة وصرخ قائلا: لا يمكن.

قلت له: إن ذلك ليس وقته، وإن هذا هو الممكن الوحيد وأى شئ غيره لا يليق بالبلد ولا يليق بالرجل.

نادى سامى على عبد الرحمن سالم من موظفى الرئاسة ومختص بالآلة الكاتبة وكان خبيرا فى فك رموز خطى، وانتظرت أن يقرأ نص الخطاب حتى أتأكد أنه تعرف على كل كلمة، وفوجئت بسامى يهجم على عبد الرحمن وينهال عليه ضربا عندما تهيأ للجلوس أمام آلة كاتبة جئ بها من مكتبه إلى مكتب سامى زيادة فى السرية.

كان سامى يضرب عبد الرحمن ويسبه، ويقول له: كيف تستطيع أن تكتب مثل هذا الكلام.

ثم عاد سامى يصرخ: حرام والله حرام.

فى هذه اللحظة دق جرس التليفون الداخلى بين مكتب الرئيس وبين سكرتارية المعلومات، رفعت السماعة بنفسى، كان جمال عبد الناصر يستعجل عودتى إلى مكتبه، سمع ضجيج ما يجرى حولى.

قال لى: قل لسامى لا أريد الآن فلتان أعصاب.

نقلت الرسالة إلى سامى وتحركت نحو الباب أخرج عائدا عبر الشارع إلى مكتب الرئيس، فوجئت بعبد الرحمن يجهش بالبكاء قائلا إن أصابع يده لن تطاوعه أن يدق ما كتبت على الآلة الكاتبة.

لم أكن على استعداد لما هو أكثر، استدرت إلى سامى وقلت له: سامى... الرجل فى محنة وليس أمامه حل آخر، إما أن نسهل عليه القرار ونساعده على اجتياز المحنة، وإما أن نضغط عليه حتى ينهار، وذلك شئ لا يليق بتاريخه ولا بالمكانة التى رفعته إليها الأمة.

عدت إلى جمال عبد الناصر، كان ما حدث فى مكتب سامى ما زال يضايقه.

 وجدته يقول لى: تحتاج الأمة إلى من يضمد جراحها حتى تتمالك نفسه بعد صدمة ما جرى، لا يفهمون إننى لابد أن أتحمل مسئوليتى، وبعدها فإن وجودى عبء على الأمة حتى فى محاولة تضميد الجراح، حقيقة لا أستطيع أن أتعامل مثلا مع الأمريكان، وهناك ضرورة لاستمرار التعامل معهم، قلبى ملئ بالمرارة منهم، وهذا شعور خطر فى السياسة، لا نستطيع فى السياسة أن نحب ونكره، المبادئ والمصالح وحدها يجب أن تحكم وليس الحب والكراهية.

واستطرد جمال عبد الناصر: جونسون يكرهنى وقد استطاع اصطيادى، وهذا شغله، لا بأس، يستطيع أن يصيدنى، لكن يظل وقوعى فى الفخ مسئوليتى، أما الأمة فتستطيع أن تجد مخرجا من الفخ، وزكريا يقدر، جونسون لايدرك أنه داخل بأمريكا فى عداء مع العرب، لا يعرف له نهاية، ومع ذلك فهذا شغله.

كنت أنظر إليه والقرار بأن يخلفه زكريا محيى الدين يصدر عنه فى زحام الكلام، وكانت نظرتى إليه بما معناه سؤالى عما إذا كانت تلك كلمته النهائية.

قال: نعم.

وأضاف: وأزداد اقتناعا كل دقيقة.

لم أر جمال عبد الناصر يدخن بل هذا الإصرار على سحب أكبر كمية من الدخان إلى صدره، على أننى لاحظت أن السيجارة فى يده ثابتة، وقد تراجعت نظرة حزن ملأت عينيه عندما دخلت، فى عينيه الآن نظرة حزن، خطر لى أنه فى حاجة الآن إلى كل أعصابه.

سألنى: متى نقول لعبد الحكيم؟... أقدر أنه سوف يجن جنونه عندما يسمع أننى اخترت زكريا محيى الدين، سوف يظن أننى خدعته، وأنت تعرف أننى لم أخدعه.

كان رأيى أن يترك عبد الحكيم ليسمع قراره مع إذاعة الخطاب، أى إخطار له قبل هذا الوقت قد يدفعه إلى عمل طائش.

قال بصوت بدا قاطعا: لا يستطيع أن يفعل شيئا، الأمور تجاوزته، تجاوزتنا جميعا.

عاد جمال عبد الناصر يسألنى: لابد أن أقول لزكريا مبكرا حتى يستعد، أعرف أنه سوف يستهول ما ألقيه عليه، لكنه منضبط ولا يستطيع أن يهرب من واجب.

سألنى، أو لعله سأل نفسه: متى أقول له؟

كان ردى: بعد أن يسمعها فى الخطاب، لو عرف قبلها قد يحاول الضغط لتغيير قرارك.

وافقنى ثم سألنى: ماذا أنوى أن أفعل؟

قلت: أنا الذى يجب أن أسألك ما الذى تنوى عمله؟

قال: خطر لى أنه لمرحلة سوف أستأذن من يجئ بعدى أن يسمح لى باستعمال بيت المعمورة، هو بعيد ومنعزل هناك على شاطئ البحر، حتى تتضح الأمور.

واستطرد: أنت كنت تقول لى دائما إنك تتمنى أن تعيش فى الإسكندرية عندما تصل إلى المعاش، سوف أسبقك أنا الآن إلى الإسكندرية.

توقف لحظة واستكمل كلامه قائلا: حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.

سألنى: وأنت؟

ثم واصل السؤال: هل يكون كثيرا عليك لو طلبت منك أن تواصل مع زكريا محيى الدين ما كنت تقوم به معى؟

قلت بإبتسامة أظنها كانت متكلفة: أنت الآن تتدخل فى عمل رجل آخر.

قال: إننى سوف أقابله غدا لجلسة طويلة أسلمه فيها ما عندى، وأقترح عليه تشكيل حكومة طوارئ حتى يجرى حساباته للموقف، لكنه سوف يحتاج إلى من يطلعه على خلفيات ودخائل الصورة ولو لفترة.

قلت: إننى فى هذه اللحظة لا أستطيع أن أفكر فى شئ، كل ما أستطيع التفكير فيه هو كيف يعبر البلد ساعات عصيبة حتى الغد، أبعد من ذلك لا أرى.

قال لى كلمات مؤثرة عن الصداقة الحميمة بيننا، لكنه أراد أن أعرف مشاعره قبل أن نفترق غير عارفين إذا كان مقدرا لنا أن نتقابل مرة أخرى أو أن هذه هى المقابلة الأخيرة.

زادت فى كلماته نبرة الحزم القاطع، قال: قبل أن أذهب إلى القبة وقبل إذاعة الخطاب سوف أصدر ثلاثة قرارات.

أن يكون فوزى " الفريق محمد فوزى رئيس أركان حرب القوات المسلحة" مسئولا عن الجيش حتى يؤدى الرئيس الجديد قسمه الدستورى أمام مجلس الأمة.

ويكون شعراوى جمعة مسئولا عن الأمن الداخلى حتى يتسلم الرئيس الجديد مسئوليته.

واستطرد: سوف أترك لك أنت مسئولية ثالثة، سوف يحدث فلتان أو محاولة فلتان بعد إذاعة الخطاب، وسوف أقول لفوزى وشعراوى وسامى أن يعودوا إليك فى شأن أى موضوع سياسى أو إعلامى، وسوف تتعرض لضغوط كبيرة، لكنى أرجوك من أجل البلد ومن أجلى أن تقف وتتمسك.

ثم عاد يقول لى: حاول أن تتصل بزكريا بعد إلقاء الخطاب، واشرح له ما يساعده على فهم الضرورات، وإذا وجدت رد فعله رافضا فأقنعه بتأخير إعلانه حتى ألقاه صباح غد.

لم يكن هناك ما أقوله، وعادت العبارات عاطفية حزينة، لكن كلينا كان يتصرف عن فهم لمسئوليات اللحظة، بما فى ذلك خطورتها ورهبتها، ورأيته آخر مرة يتجه إلى السلم الداخلى لبيته، يصعد درجاته لكى يعد نفسه لخطابه الأخير إلى الأمة، كذلك كان تقديره وشعوره.

(6)

حينما عدت إلى سيارتى وجدتنى أتوجه تلقائيا إلى بيتى، مع أن نيتى كانت أن أشاهد خطابه على التليفزيون فى الأهرام، وفى منتصف الطريق كان رأيى قد استقر على أننى فى حاجة لأن أكون وحدى أثناء متابعتى لخطابه، وفى الساعة السابعة إلا خمس دقائق كنت جالسا أمام جهاز تليفزيون، وكانت الإذاعة على وشك أن تنتقل إلى قصر القبة والمواد المذاعة كلها فى التمهيد للخطاب، مارشات حماسية كنت أول من يعلم أنها متناقضة تماما مع الرسالة التى يحملها الخطاب.

ظهرت صورته على الشاشة وراح يقرأ، وكنت أكثر من غيرى أشعر بمدى الجهد الذى يبذله لكى يظل مسيطرا على الموقف، وكادت سيطرته أن تفلت منه للحظة عندما وصل إلى الفقرة التى يعلن فيها تنحيه، ثم فرغ من الخطاب واختفت صورته من الشاشة.

ولأول مرة بدأت تصوراتى تذهب إلى ما لا يحتمل أن يحدث بعد انفجار النبأ، ولم تمض غير دقائق حتى جاءت الإجابة عما كنت أتساءل فيه، فإذا أنا أسمع أصواتا فى الشارع لا أتبين مصدرها، ثم اقترب من نافذة تطل على كوبرى الجلاء فأجد ألوفا من الناس يجرون عليه ولا يعرفون إلى أين، ولكنهم ذاهبون بأقصى سرعة وصراخهم متصاعد ينادى بما لم أستطع تمييزه من مكانى، ورحت أدير جهاز الراديو على بعض محطات الإذاعة أحاول التقاط ما عساه أن يكون للنبأ من صدى فى العالم الخارجى، وكانت بعض المحطات تقطع إرسالها وتذيع البيان.

اتصلت بالأهرام أسأل عن برقيات وكالات الأنباء وما حملته أو جاءت به مما أعلنه جمال عبد الناصر، قبل دقائق فى قصر القبة، وأحسست بالمفاجأة الضخمة التى وقعت على كل الرؤوس من هؤلاء الذين تحدثت إليهم فى الأهرام، ثم قيل لى إن جماهير كبيرة من الناس تتدفق على مبنى الأهرام، وأن هتافهم الملح هو كلمة واحدة " ناصر".

فى بيتى راحت التداعيات تقتحم على عزلة ساعات تمنيت أن أجلس فيها إلى نفسى، لكن طرق الوقائع بدا وكأنه يدق فوق رأسى.

زكريا محيى الدين يطلبنى على تليفون رئاسة الجمهورية يسألنى مرتاعا: ما هذا الذى فعلتموه بى؟

قلت: أجئ لأشرح لك.

قال: الناس تشتمنى فى الشوارع، يهتفون ضدى ويشتمونى، وأنا ذاهب إلى جمال عبد الناصر فى منشية البكرى، الحق بى هناك إذا استطعت لأن الناس بحر متدفق فى الشوارع.

وقال لى أيضا إن سامى شرف أبلغه بأن الرئيس ترك فى يدى مسئولية ما يمكن أن يقال أو يذاع، وهو يطلب منى على الفور إذاعة بيان بأنه اعتذر عما كلف به، وأنه مستعد لمواصلة دوره فى الخدمة العامة تحت قيادة جمال عبد الناصر، وهو ما يطالب به الناس جميعا.

قلت له إننى أتفهم منطقه وأقدر حرج موقفه، ولكن قرار جمال عبد الناصر كان واضحا، ولا أظن أن بإمكان أحد أن يفعل شيئا قبل الصباح.

خرج عن هدوئه الطبيعى: بهذا الشكل لن يطلع صباح.

شعراوى جمعة يطلبنى على نفس التليفون، يريدنى أن أتصل بالرئيس فى غرمة نومه، لأنه لم يستطع الوصول إليه، فهو لم يعد قادرا على ضمان الأمن فى البلد، ويخشى أن تحترق القاهرة، وقال أنه ليس بمقدروه ولا مقدور غيره أن يمسك بزمام الأمن فى البلد، لأن كل المعلومات التى وصلت إليه فى نصف الساعة التى مضت منذ ألقى الرئيس خطابه تقول بأن طوفانا من البشر يتدفق إلى الشوارع مناديا باسم " عبد الناصر" ومطالبا ببقائه.

سألنى عما يمكن عمله، وكان رأيى أن عليه أن يبقى فى مكتبه وأن يحاول قدر ما يستطيع، فهى ساعات اختبار لنا جميعا، ولم يكن على استعداد لأن يسمع شيئا، وإنما قال لى بسرعة إنه فى طريقه إلى  بيت الرئيس ليستطلع رأيه فيما يجرى.

عاد الأهرام يتصل بى لإبلاغى أن ما يحدث فى القاهرة متكرر فى كل عاصمة عربية وأن وكالات الأنباء تنقل صورا رهيبة عن بحور من البشر تتدفق إلى الشوارع مطالبة ببقاء جمال عبد الناصر، كما أن صوت الرصاص بدأ يلعلع فى بيروت.

عبد الحكيم عامر وكنت قد سمعت من شعراوى جمعة أنه طلب من محمد فائق وزير الإعلام إذاعة بيان يعلن فيه هو الآخر تنحيه، وعندما أبلغه فائق أن الرئيس أمر ألا تذاع كلمة قبل الرجوع إلى هيكل، احتد عليه عبد الحكيم، ثم قرر أن يتصل بى.

أدهشنى أن جاءنى صوته هادئا، بدأ من البداية وأبلغنى برأيه فى صدور بيان يعلن للناس تنحيه، رجوته أن يترك المسألة، علق بقوله: ولكن هذا قرارى ولا شأن لأحد به... ولا حتى للرئيس.

قلت: إننى أفهم ذلك، لكن هناك عوامل كثيرة لابد أن تؤخذ فى الاعتبار.

قال: اعتبار من؟

قلت: اعتبارات البلد والناس.

قال: واعتباراتى أنا... اعتبارات دورى وتاريخى.

رجوته أن يعطى فرصة حتى تستقر الأمور.

قاطعنى ولهجته تحتد لأول مرة: تستقر مع زكريا؟

 ثم قال: قل لجمال إنه لا يستطيع أن يفرض زكريا على الجيش؟

 ثم استطرد: إذن فقد كان زكريا فى باله وهو يتفق معى على شمس؟

قلت: إننى أشهد أنه كان صادقا فيما اتفق عليه معك، لكن الضرورات تغيرت.

رد بعصبية: " شى الله من يا ضرورات".

عاد إلى طلبه إذاعة بيان عن تنحيه، وتلقيت منه صيغة يقترحها لبيانه رغبة فى تهدئته.

اتصل بى السيد أنور السادات رئيس مجلس الأمة الذى حاصره أعضاء المجلس فى مظاهرة امتزج فيها الأسى بالغضب، طالبين منه أن يفعل شيئا لتدارك الأوضاع الخطيرة فى كل مكان، وقد حاول عدد منهم أن يذهبوا إلى بيت الرئيس أيضا ولم يتمكنوا من الوصول إليه، وعاد أنور السادات إلى المجلس مصرا على ضرورة أن يصدر بيان يقول للناس على الأقل بأن الرئيس سوف يعاود التفكير فى الأمر.

 وقلت له: إنه ليس فى استطاعتى كتابة هذا البيان أو طلب إذاعته.

كانت تلك بالضبط الصيحة العامة من المحيط إلى الخليج وورائهما طبقا لما تنقله وكالات الأنباء على خط طويل ممتد من أقاصى آسيا حتى المغرب الأقصى.

كان الليل على وشك أن ينتصف، ودق جرس التليفون وكان جمال عبد الناصر هو المتكلم، وكان سؤاله بصوت مثقل: ما الذى حدث؟

رويت له صورة مصر والعالم العربى كما كانت بادية لى لحظتها، وكان سؤاله المتكرر: ليه؟

وراح يرددها مستغربا.

بدأت الحقيقة تصل إليه ومغزاها أن الناس لا يعرفون أحدا غيره، وأن عليه حتى بمسئوليته عما جرى أن يجد للأزمة مخرجا، وأن يكون المخرج مشرفا.

سألنى عن رأيى، قلت له: إن الرأى فى هذه الساعة له.

وكان تقديره أنه لا يستطيع أن يعود عن قراره، فإن هناك ظروفا موضوعية لابد من مراعاتها قبل هذه المشاعر التى ربما خلقتها المفاجأة.

كان رأيى أنه فى كل الأحوال لابد أن تصدر عنه كلمة تهدئ خواطر الناس دون أن تقيده بشئ.

وكان من بين ما قاله إنه على استعداد أن يذهب إلى مجلس الأمة، وأن يقدم إلى الأمة تقريرا بما حدث، ويكون ذلك محققا لهدفين:

هدف إقناعها بقراره.

 وهدف وضع الحقيقة أمامها كما كان يتمنى أثناء حديثنا أمس.

 رجوته أن يعطينى عشر دقائق أعد فيها بيانا يذاع على الناس يرفع عنهم ضغط المفاجأة وفى نفس الوقت يستبقى كل الخيارات مفتوحة حتى الصباح، ووافق.

بعد دقائق اتصلت به تليفونيا، مقترحا نص بيان منه يقول: إن المشاعر التى أبدتها جماهير الشعب منذ أذعت عليها هذا المساء بيانى عن تطورات الموقف قد هزتنى من الأعماق، وسوف أذهب غدا بمشئية الله وإذنه إلى مجلس الأمة أناقش معه وأمام جماهير شعبنا قرارى الذى أعلنته فى البيان، وإذا كان لى أن أطلب شيئا فى هذه اللحظات من جماهير شعبنا الصابر المناضل فهو أن أناشدهم الانتظار حتى الصباح، إن كل واحد منكم الآن يجب أن يكون فى موقعه، فهناك مهام كثيرة تتصل بواجبات أكبر وأقدس من أى شئ آخر، ولها الأولوية على ما عداها من الاعتبارات، إننى أناشدكم جميعا من أجل الوطن ومن أجلى أن يكون كل منكم الآن حيث ينبغى له أن يكون.

أقر نص البيان دون تعديل، وطلب إلى إملاءه على السيد محمد فائق وزير الإرشاد القومى لكى يذاع بسرعة على الناس وفعلت.

اتصل بى جمال عبد الناصر فى الساعة الثانية عشرة والنصف يقول إنه يشعر بتعب لم يشعر به من قبل، وأنه يحس بحاجة شديدة إلى أن يغمض عينيه وينام، وأنه بالفعل سوف يبلع قرصا منوما ويحاول، ولم تنجح محاولته فيما يبدو لأنه عاد للاتصال بى فى الساعة الخامسة والربع قائلا إن القرص المنوم أضر به كثيرا مما نفعه، فقد أصابه بعوارض النوم وفى نفس الوقت فإن فكره كله يقظان.

سألنى متى أستطيع أن أذهب للقائه؟

قلت: على الفور إن أردت.

(7)

نزلت بالفعل من بيتى، وكانت كل الطرق فى تلك الساعة من الصباح مسدودة وبخاصة فى ميدان التحرير، وتمكنت من الوصول إلى الأهرام بصعوبة بالغة، واتصلت به أقول إننى سوف أتأخر رغم إرادتى لأن الطرق كلها مغلقة، ولم يكن قادرا حتى هذه اللحظة أن يستفيق من دهشته.

كان تعليقه بصوت تشيع فيه حيرة كاملة: إن هذا الشعب غريب، تصورت أنه سينصب لى مشنقة فى ميدان التحرير، فإذا تصرفه على عكس ذلك تماما.

قال لى إنه قد يكون من الأفضل أن أظل فى مكتبى حيث يستطيع الاتصال بى فى أى وقت يشاء بدلا من أن أتوه وسط الزحام، فلا أصل إلى بيته ولا أبقى حيث يستطيع أن يتصل بى، ثم أضاف إنه سوف ينزل الآن إلى المكتب حيث تنتظره رسائل وأوراق تراكمت فى الساعات الأخيرة.

بعد أن قرأ الرسائل التى وصلته اتصل بى فى الساعة الثامنة وخمس دقائق، وكان أول ما قاله إنه ولأول مرة فى حياته يشعر بالعجز عن اتخاذ قرار، وهو يستعد الآن للذهاب إلى مجلس الأمة وليس فى ذهنه شئ محدد عما يمكن أن يقوله هناك.

طلب منى أن أفكر فى نصف ساعة فى إطار ما يمكن أن يقوله للمجلس، وكان تقديره أن إعداد خطاب مكتوب فى هذا الوقت القصير عملية شبه مستحيلة، لكنه يريد على الأقل إطارا يحدد خطوط ما يقول وإلا وجد الموقف يشده إلى بعيد، وقلت له إنه فى تحدى أى إطار لابد من اتفاق على مضمون، وفيما قلته فإننى لا أجد قرارا محددا يمكن أن يلتف حوله إطار.

كان رده بالنص: والله ما أنا عارف.

وكان يواجه محنة نفسية أمسكت بكل أعصابه.

لم يستطع أن يصل إلى المجلس، اتصلت به ومرة أخرى اقترحت عليه أن يعطينى ربع ساعة أجرى فيها صياغة شئ قريب مما كنا نتحاور فيه، وعدت إلى الاتصال به أقترح عليه النص التالى لمشروع رسالة موجهة منه إلى رئيس مجلس الأمة.

" السيد رئيس مجلس الأمة... لقد كنت أتمنى لو ساعدتنى الأمة على تنفيذ القرار الذى اتخذته بأن أتنحى، ويعلم الله أننى لم أصدر فى اتخاذ هذا القرار عن أى سبب غير تقديرى للمسئولية وتجاوبا مع ضميرى، وما أتصور أنه واجبى، وإنى لأعطى هذا الوطن راضيا وفخورا كل ما لدى حتى الحياة إلى آخر نفس فيها".  

إن أحدا لا يستطيع ولا يقدر أن يتصور مشاعرى فى هذه الظروف إزاء الموقف المذهل الذى اتخذته جماهير شعبنا وشعوب الأمة العربية العظيمة كلها بإصرارها على رفض قرارى بالتنحى منذ أعلنته وحتى الآن، ولا أعرف كيف أفى بهذا الحق، ولا كيف أعبر عن عرفانى تجاهه.

إن الكلمات تضيع منى وسط زحام من المشاعر يملك على كل جوارحى، وأقول لكم بأمانة، وأرجوكم تبليغ مجلس الأمة الموقر أننى مقتنع بالأسباب التى بنيت عليها قرارى، وفى نفس الوقت فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لى أمر لا يرد، ولذلك فقد استقر رأيى على أن أبقى فى مكانى وفى الموضع الذى يريد الشعب منى أن أبقى فيه حتى تنتهى الفترة التى نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان، على أن الأمر كله بعد هذه الفترة يجب الرجوع فيه إلى الشعب فى استفتاء عام.

وإنى لأشعر أن النكسة لابد أن تضيف إلى تجربتنا عمقا جديدا، ولابد أن تدفعنا إلى نظرة شاملة فاحصة وأمينة على عملنا، على كثير من جوانب عملنا، وأول ما ينبغى أن نؤكده بفهم واعتزاز، وهو واضح من الآن أمام عيوننا، أن الشعب وحده هو القائد وهو المعلم وهو الخالد إلى الأبد.

والآن أيها الأخوة المواطنون فى كل مكان، أيديكم معى ولنبدأ مهمتنا العادلة وليمنحنا الله جميعا تأييده وهداه".

دار بيننا على التليفون حوار حول بعض العبارات المقترحة فى مشروع الرسالة، وكان أكثر توقفه أمام النص القائل ببقائه حتى إزالة آثار العدوان، فهذه فترة قد تطول، وأفصح عن خاطر ورد على باله وهو أن يتمكن من ترتيب بعض الأمور بسرعة، ثم يكون خطابه فى عيد الثورة القادم يوليو 1967 أى بعد شهر تقريبا هو المناسبة التى يختارها للوداع.

كان رأيى ان المهام التى يتحتم عليه أن يقوم بها طالما أن الظروف فرضت عليه أن يعدل عن قراره بالتنحى الفورى، سوف تقتضى ما هو أطول من فسحة شهر، ومن الإنصاف للمسئولية التى لم يعد أمامه مفر من العودة لحملها أن يعطى لنفسه فرصة مفتوحة، وارتضى وجهة نظرى ثم طلب إلى أن أقوم بإملاء الرسالة على السيد أنور السادات رئيس مجلس الأمة لكى يقوم بإبلاغها إلى المجلس.

كان رد الفعل فى المجلس حماسيا، ومن سوء الحظ أن بعضا من الذين كتبوا رد فعل المجلس بأثر رجعى وبعد الحدث بسنوات، أخطأوا فى تقدير سبب حماسة المجلس، فقد صوروها كما لو أن المجلس قام بمظاهرة فرح بالهزيمة، وكان ذلك التصوير ظالما، لأن حماسة المجلس كانت موجهة فى واقع الأمر إلى استجابة جمال عبد الناصر لطلبه ولطلب جموع الشعب والأمة، وعودته لقيادة معركة المواجهة على أساس جديد، والحقيقة أن أى مشهد من المشاهد المتصلة فى سير الحوادث لا يتضح معناه إذا حذفت منه صورة واحدة لأن سياقه المنطقى فى هذه الحالة يضيع.

(8)

حين رأيته صباح يوم 11 يونيو كان منهمكا فى إجراء تغييرات وجدها ضرورية فى قيادة القوات المسلحة.

كان جمال الذى رأيته صباح 11 يونيو أسدا جريحا، لكنه أسد متحفز، تنبهت كل ملكاته وخصائصه وعضلاته، وبدت جميعها أكبر من جراحه، وبدا ماشيا على طريق واضح أمامه، إعادة بناء القوات المسلحة – حرب الاستنزاف -  خطة جرانيت (1) غرضها العبور برؤوس كبارى من غرب القناة إلى شرقها.

لم يكن 9 يونيو نهاية التاريخ لأن جماهير الأمة قررت أن تحمل المسئولية وتقف وتقاتل على الجسور عبورا متجاوزا بالسلاح إلى أوضاع جديدة.

    الاكثر قراءة