الخميس 16 مايو 2024

محمد سليم شوشة يكتب: عَيْنُ الغِرْبَالِ.. معزوفة سرْدية في حب الوطن

فن27-10-2020 | 18:49

رواية "عَيْنُ الغِرْبَالِ"، للفنان التشكيلي والأديب المصري مجاهد العزب، الصادرة عن دار المحروسة 2019، هي في تقديري واحدة من أهم الروايات المصرية التي قرأتها مؤخرًا، وأهميتها تأتي من جمالياتها ومن قيمتها الأدبية والثقافية. إنها رواية من ذلك النوع الذي يمكن اعتباره نَصًّا في غاية الأهمية بالنسبة للبُعد الوطني والقومي، فهي من تلك النصوص الأدبية التي تُسهم في تشكيل الوعي الوطني والضمير المصري، وتُغذّي مشاعر الانتماء. إنها في المجمل خطابٌ سرديٌّ متميز ولافت، ونتصور أنها جديرة باهتمام كبير على المستويين الرسمي والفردي، وجديرة بعناية المؤسسة الثقافية المصرية، وجديرة كذلك باهتمام النقاد والقراء. 


كما أشرت في البداية، لا تتشكَّل أهمية هذه الرواية – فحسب - من رسالة خطابها، وقيمته الكبيرة في إنماء الشعور الوطني، واستيلاد العزيمة والأمل من مقاربة لحظات وجع النكسة العسكرية وإعادة تأملها وقراءتها، ولكن هذه القيمة الأدبية تنتج وتتشكَّل كذلك من جماليات هذا الخطاب السرديّ الفاتن وتقنياته السردية، ومن تركيبة العالم الحكائي - أو المسرود عنه - وعناصره التي تتسم بالتشابك العفويّ، النابع من علاقات المكان وعلاقات الحب والرغبة، بالإضافة إلى رابطة الشراكة الوطنية في العمل والرغبة في الانتصار. 


هذه الرواية المشهدية تتحرك في خط كورونولوجي، أي زمنيّ طبيعيّ متصاعد، وتملك قدرات كبيرة على التشويق، رغم التزامها بهذا الخط الزمني الطبيعي، ولا تضطر إلى استخدام الحيل السردية الخاصة بالتبديلات الزمنية، بين الاستباق أو الاسترجاعات أو البداية من النهاية أو المنتصف.


 فثمة إحساس خاص بحركة الزمن في تلك الحقبة، ابتداء من نكسة يونيو 67 وحتى انتصار أكتوبر 73، وهو الإحساس الخاص المتحقق لدى مُنشئ خطاب الرواية، وشعوره بقدر التوتر والقلق الذي عاشته مصر في هذه الفترة، وكيف أنها كانت تتسم  بالضبابيّة التي اسْتَمَدَّ منها خطابُ الرواية تشويقَه. فالمُضِيُّ في المجهول هو أقصى ما تطمح إليه أي رواية تحتاج إلى التشويق، أمّا هنا، فثمة تشويق طبيعي استشعره مجاهد العزب عبر حساسية خاصة بتلك الحقبة الزمنية، وأضاف إليه تشويقًا آخر مُغايرًا، نتج عن طبيعة النموذج الإنساني الذي ارتكزت عليه الرواية، وهو شخصية محمد صالح الغربال، الذي لم تكن حياته الشخصية بأقل ضبابيّةً وغموضًا وانفتاحًا على المجهول مما عاشته مصر باحثةً عن ثقوب تمر عبرها من النكسة إلى الانتصار. فالطفل اليتيم الضائع المحروم، أو الضعيف التائه بين عصابة صيادي الكلاب في الحارات وبين مراقبة النمل الأسود وكُلَّاباته ومستعمراته، هذا الطفل – على هذه الحال من الضعف - يتحول مصيره إلى النقيض تمامًا، ويشق طريقه إلى مستقبل غامض لا يبدو واضحًا في الأفق السردي، ولا يتجاوز أن يكون تَطَلُّعَاتٍ وآمالًا، ومجرد رغبة نفسية وطموحات. هنا شكل من السرد الرمزيّ الجديد، حيث إسقاط العام والقضية الوطنية على الخاص، ونوع من تمثيل الهَمِّ العام، وتجسيده في نموذج حكائيّ فرديّ، يجعل الحكاية حكايتين أو ربما عديدًا الحكايات. القسوة التي عاشها محمد صالح الغربال هي القسوة التي عاناها الوطن بكامله وقت النكسة، ويصبح نموذجًا - ذا رمزيَّةٍ – يدل على الوطن. 


الرمزية وطبقات الدلالة غير المباشرة، التي شكَّلتها وأنتجتها رواية عين الغربال، لها مستويات عدة وتكنيكات مختلفة ومتنوعة، فالعدو يبدو بصورة أخرى غير مباشرة، ويتجسَّد في مستعمرات النمل الأسود التي يهوى مراقبتها وينشغل بها الطفل اليتيم من البداية. هذا العدو يتجسَّد في كوابيس الشخصية وأوجاعها، والحركة النفسية أو الداخلية للشخصية. وتتمثل الرمزية كذلك في شخصية مقاتل اليمن الذي يصبح نموذجًا فوقيًّا، يتجاوز فكرة كونه مجرد شخصية عسكرية باقية من حرب اليمن، ليكون نموذجًا دلاليًّا رمزيًّا لامتداد العقيدة العسكرية المصرية المخلصة، وعمقها التاريخي، جيلًا يسلم جيلًا تاليًا، وسابقًا ينتقي اللاحقَ بدقة، وقد يكون نموذجًا دالًّا على الأب أو الزعيم جمال عبد الناصر، أو العين العُليا الحارسة أو المراقبة، التي لا تتوقف عن المتابعة والحماية والتنقيب عن أبناء البلد المخلصين، لترعاهم وتجهزهم تحت أي ظرف. 


نموذج شخصية مقاتل اليمن هو تجسيد لروح العسكرية المصرية، والبديل الذي يملأ فراغ اليُتْم والوحدة التي عاشها البطل، وربما لا تكون هناك مبالغة إذا قلنا إنه رَمْزٌ لمصر كلها حين تريد انتقاء أحد أبنائها وتُرَبِّيه على عينها. 


المقهى كذلك يمثل علامة رمزية دالَّة، وليس مجرد مكان عابر أو عادي في رواية عين الغربال، فهو تلخيص وتجسيد لحال الاستلاب والاحتلال والضياع، هو عبر الأحداث والتوظيف السردي رمز لخسارة الأرض واستعادتها مرة أخرى. 


ويُعَدُّ نموذجًا اختزاليًّا دالًّا على التحرير واستعادة الحق المسلوب. وفي قراءتنا، ربما تكون الأسرة الكبيرة اليتيمة، التي ارتبط والتحم بها البطل محمد صالح الغربال، تمثل هي الأخرى رمزًا لأبناء الوطن المتنوعين، والمختلفين بين الصواب والخطأ، مثل أبناء مصر جميعًا الذين عاشوا الحال نفسها، من غياب الأب واجتياز الصعاب القاسية والاختبارات العديدة، حتى تشعبت بهم السبل والأهداف. 


وثمة إشارات في نهاية الرواية إلى بداية مرحلة توغل وتغلغل التيار الرجعي المتشدد، عبر شخصية محمود زوج الأخت، المهندس الذي ارتبط بالراقصة - أرملة الأب التي ارتدت النقاب - وسفرهما إلى الخليج مع الأخ الأصغر للمعلم صالح.


فيما يمثل إشارة إلى التحوُّلات المجتمعية التي عاشتها مصر بعد انتصار أكتوبر، ونشوء طبقة جديدة من المُقَوِّضين للحس الوطني، والمتناوشين مع التيار الرئيسي المحافظ على الروح الوطنية المصرية.


قصة الحب العُذري بين البطل وروحيّة تمثّل رافدًا جماليًّا مُهِمًّا، لأن جمال القصة إنما ينبع من براءة النموذج الإنساني وصدقه - الذي يمثّله هذان المحبان - وثقة من حولهما، وقدر ما لديهما من العفة والمروءة، التي هي أخلاقيات تلك الحقبة، والمناسبة لهذه الشخصيات الأقرب لروح الفروسية التي تحلى بها الإنسان المصري المقاتل في تلك الفترة. وتطرح رواية عين الغربال صورة المرأة في الإطار ذاته من الفروسية، وبخاصة شخصية روحية المقاتلة التي ضحت من أجل إخوتها. 


في هذه الرواية توظيفٌ مثاليٌّ للوصف، وتحقيق ملامح العالم المسرود عنه من الناحية المادية، ووصف للخطوط والأضواء والظلال والأماكن وأبعادها، سواء كانت أماكن خاصة بالحارة والبيوت والمقهى، أو أماكن عسكرية وجبالًا، أو داخل الكلية وغيرها، وكذلك كثير من الأماكن التي تجمع بين الريفي والحضري. وفيها أيضًا وصف للطقس والفصول وتعاقبها، بما يمثل تأريخًا غير مباشر، كما يظهر التأريخ غير المباشر كذلك عبر الأحداث والوقائع التاريخية، مثل موقعة شدوان أو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض أو حادثة الفنية العسكرية، أو غيرها من الأحداث المعروفة، فيما يمثل شكلًا قريبًا من التأريخ الشعبيّ، الذي يستند في كثير من الأحيان إلى الوقائع المعروفة بدلًا من تحديد أسماء الأيام والشهور والسنين، وهو أقرب للعقل الجمعي المصري الذي درج على هذا الطرح للزمن من خلال الوقائع، فيقول مثلًا إنه تزوج في عام النصر، أو تزوج أبوه مثلًا في عام النكسة، أو أنجب ابنه في العام الذي عرض فيه فيلم الأرض في السينما لأول مرة. ولكن ذلك لا يتم بنَصٍّ مباشر أو تحديد قوليّ، وإنما عبر التجاور والتتابع والتزامن. فيحدث حَدَثٌ ما، وبعده بيوم - مثلًا - تحدث واقعة بحر البقر، أو ضرب عمال المصانع العُزَّل بالطيران الإسرائيلي، رَدًّا على بعض الضربات القاسية التي أنزلتها القوات المصرية بالعدو في حرب الاستنزاف، فيما يُجَسِّدُ حالةً من الشعور بتراكم الغل والانفعال لدى العدو، حيث تُبرز الرواية قدر اضطرابه وبداية قلقه من الرد المصري والتجهيزات الواضحة استعدادًا للحرب.


لقد شكل خطاب الرواية سياقًا متكاملًا، تلاحم فيه الإنسان البسيط مع القيادة، وتجلت فيه صورة الجميع بتنوعاتهم، ما بين القلق والثقة، أو بين الغني والفقير، أو بين المسئول والإنسان البسيط الذي لا دور له. 


في الرواية كذلك نوع من توظيف المعارف والمعلومات العسكرية وبعض المصطلحات الخاصة بها، مثل تقدير موقف، أو عمليات، أو خطط وتكتيكات وجمع معلومات، أو تدريبات، وغيرها، مما يشكل ذهنية عسكرية للبطل، تجعل صورته مُتَّسِقَةً مع نفسها، ومُصَدَّقَةً لدى المتلقي الذي يصبح في غاية الاقتناع بالشخصية، وبتكوينها الذي تَحَصَّلَ وتَحَقَّقَ على أكثر من مستوى. فبناء الشخصية - في تقديرنا - لا بُدَّ أن يتجاوز البنية الشكلية إلى ما يبدو أقرب لبنية روحية متكاملة، يتجلى فيها الطبع والسلوك وطريقة التفكير، وأخلاقيات الشخصية أو مبادئها، كُلُّ ذلك بجانب الوصف المادي. وربما تكون هذه الصفات المعنوية هي الأهم أو الأكثر تميُّزًا، فملامح محمد صالح الغربال البدنية أو الخارجية قد تكون غير محددة بوضوح، إلَّا فيما يخص مستوى الطول، الأمر الذي يوضح أن ثمة تعويلًا كبيرًا على السمات الداخلية في رسم الشخصية، وربما كان السبب أن هذا النموذج الشعبي البطولي مطلوبٌ منه أن يكون قابلًا للتماهي مع كثير من الأبطال المصريين، فهو - أوّلًا وأخيرًا - مجرد نموذج مثل الكثيرين ممن حاربوا وأصيبوا وضَحَّوْا وظلوا على عهدهم حارسين لكافة الأخطار والحروب، دون أن يكون محصورًا في نموذج مادي أو ملامح بعينها، مثل ملامح الوجه أو الأنف أو العينين، أو غيرها من السمات التي قد تجعل الشخصية محاصرة، ولا تبني الشخصية بشكل حقيقي بقدر ما تجعلها محاصرة بهذا التأطير المادي.


بعض الشخصيات فقط هي التي اتخدت شكلًا ماديًّا صارمًا، مثل شخصية المخبر السري، أو بعض العمال والبلطجية أو الشخصيات الشعبية، وكذلك الشخصيات النسائية بشكل خاص، في نوع من التأكيد على جمالها الذي هو في الغالب جمال مصري يتسم بالبساطة. وبعض الشخصيات يغيب اسمها تمامًا، في دلالة على أن الرصد والرؤية لهذه الشخصيات إنما يأتي من الداخل، ومن وجهة نظر الشخصية الرئيسة أو صاحبة الصوت، وينقل العالم من وجهة نظره، فيتحدث عن هذه الشخصيات بلقبها: مثل عامل المقهى القذر، أو المخبر السري الدنيء، أو مقاتل اليمن الذي لا يظهر اسمه إلّا قرب نهاية الأحداث، وهو الشخصية الأكثر غرابةً فيما يخص حضوره وغيابه ودوره الغامض ودرايته بالأحداث، بما يجعله أقرب إلى شخصية أسطورية أو غرائبية ترتبط بيد القدر أو النماذج فوق البشرية، ولا يتضح بأبعاده الطبيعية إلّا قرب نهاية الرواية مع حرب أكتوبر، حيث يتجلى بوصفه قائدًا وضابطًا عاملًا. وتظهر زوجته الودودة، وتصبح هناك علاقة أسرية بين الأسرتين، ويُفارق - بدرجةٍ ما - الصورة الغرائبية له حين كان يظهر كأنما يهبط من السماء. وهذا التحول في رؤية هذه الشخصية ليس متناقضًا، بل يبدو أقرب لنتيجة طبيعية لتنامي وعي الشخصية الساردة أو صاحبة الرؤية، فوعيه وهو طالب بالثانوية العامة والمراحل العمرية المتقدمة، طبيعيٌّ أن يكون أقل من وعيه بعد ذلك، حين أصبح ضابطًا في الجيش المصري ويشارك في الحرب. وقد أجاد خطاب الرواية إلى حد بعيد في تمثيل مراحل تنامي الوعي والإدراك واتساع الرؤية لدى الشخصية صاحبة الصوت، بحسب تقدم الشخصية في الزمن، وتقدمها في العمر، وتنامي معارفها، وهو ما يُسهم في خلق حال من الغرابة والدهشة المكثفة في أول الرواية؛ تبعًا لكثرة الأسئلة ومواضع الغرابة، وغياب الإدراك الكامل لكافة العناصر والشخصيات الأخرى المحيطة به، ثم يبدأ في امتلاك رؤية أكثر وضوحًا ونضجًا مع الوقت.


في تقديرنا أن هذه الرواية واحدة من الروايات المصرية الأكثر ثراءً من الناحيتين الجمالية والدلالية، وجديرة بقراءات عديدة وتأملات نقدية وبحوث ودراسات أكاديمية، لكشف ما بها من الثراء، وخصوصية الصوت السردي، الذي يدل على أن وراءه موهبة سردية فذة.   


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020