الثلاثاء 5 نوفمبر 2024

فن

من وحي كورونا

  • 27-10-2020 | 20:46

كنا نستدل من قبل على أن العالم قرية واحدة بما أحدثته ثورة وسائل المواصلات والاتصالات من نتائج ولكننا اليوم مضطرون إلى الاستدلال على ذلك بشيء آخر مختلف هوالوباء؛ وباء كورونا على وجه التحديد أو"جائحة كرونا" كما تحبذ الصحافة وقنوات التليفزيون تسميته، ويمكننا الاستدلال به على أن العالم ليس مجرد قرية واحدة فقط بل على أن مصير سكان هذه القرية مصير واحد.

التأريخ للأوبئة:


للأوبئة وصراع الناس معها تاريخ طويل، وقد عني المؤرخون العرب بوضع الكتب والمصنفات التي يؤرخون فيها للأوبئة سواء ما عاصروه منها أوما لم يعاصروه، وتزخر تلك الكتب والمصنفات بالكثير من الحكايات التي تصور جوانب شتى من أثر الأوبئة في حياة الناس ومعلومات كثيرة عن كيفية مواجهة الناس لها، ولا تنحصر الحكايات والمعلومات في تلك الكتب فقط بل نجدها أحيانا في أمهات كتب الأدب وموسوعاته ودواوين الشعراء وكتب النوازل الفقهية وغيرها ومن أشهر الكتب القديمة التي تؤرخ للأوبئة في المنطقة العربية: كتاب "تاريخ الطواعين" لابن أبي الدنيا المتوفى سنة 281هـ، وكتابه على الأرجح هو أول مصنف عربي في موضوعه، و"الرسالة الوبائية" للرازي المتوفى سنة 313 هـ، ورسالة "في تحقيق أمر الوباء" لأبي سهل المسيحي المتوفى سنة 401 هـ؛ وكتاب "دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية" لابن سينا المتوفى سنة 428 هـ؛ وكتاب "دفع مضار الأبدان بأرض مصر" لعلي بن رضوان المتوفى سنة 460 هـ؛ وكتاب "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" لعبد اللطيف البغدادي المتوفى سنة 629هـ؛ وكتاب "إذا نزل الوباء بأرض قوم" لأبي عبد الله بن عمران الفاسي المتوفى سنة 655هـ؛ وكتاب "النبا عن الوبا" لابن الوردي المتوفى سنة 749هـ؛ وكتاب "الطاعون" لأبي جعفر بن صفوان المالقي المتوفى سنة 763 هـ؛ وكتاب "إصلاح النية في المسألة الطاعونية" لأبي عبد الله بن مشتمل البلياني المتوفى سنة 764 هـ؛ وكتاب "تحصيل قصد القاصد في تفصيل المرض الوافد" لابن خاتمة الأندلسي المتوفى سنة 770 هـ؛ وكتاب "جزء في الطاعون" لتاج الدين السبكي المتوفى سنة 771 هـ؛ وكتاب "حل الحبا لارتفاع الوبا" لولي الدين الملوي المتوفى سن 774هـ؛ وكتاب "الطب المسنون في دفع الطاعون" لشهاب الدين بن أبي حجلة المتوفى سنة 776هـ؛ وكتاب "مقنعة السائل عن المرض الهائل" للسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ؛ وكتاب "ذكر الوباء والطاعون" لأبي مظفر السرمري المتوفى سنة 776هـ؛ وكتاب "الطاعون وأحكامه" لشمس الدين المنبجي الحنبلي المتوفى سنة 785 هـ؛ وكتاب "المسألة الحكمية في  الأمراض الوبائية" لابن هيدور التازي المتوفي سنة 810 هـ؛ وكتاب "ما رواه الواعون في أخبار الطاعون" لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ؛ وكتاب "بذل الماعون في فضائل الطاعون" لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ؛ وكتاب "نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار" لأبي الثناء محمود بن سعيد مقديش الصفاقسي المتوفى سنة 1228هـ؛ وكتاب "إتحاف أهل الزمان" لأحمد بن أبي ضياف المتوفى سنة 1291هـ، وما ذكرناه من كتب ومصنفات هو في الواقع غيض من فيض فالكتب والمصنفات التي تتناول التاريخ للأوبئة أكثر من أن تحصى وبعضها ما بين مخطوط ومفقود، وخلاف هؤلاء المؤرخين الذين قصر أغلبهم الحديث في مؤلفاتهم على الأوبئة هناك المؤرخون الذين تناولوا الأوبئة في سياق التاريخ الأعم ومن هؤلاء المؤرخين الكبار أصحاب الموسوعات التاريخية ابن جريرالطبري والمسعودي والحافظ بن كثير وتقي الدين المقريزي وابن إياس الحنفي وابن تغري بردي وجلال الدين السيوطي وشهاب الدين النويري وابن خلدون والجبرتي وغيرهم، هذا فضلا عن الرحالة كابن بطوطة وعبد اللطيف البغدادي.

ويعد طاعون عمواس أول وباء يقع في الدولة الإسلامية الناشئة، ظهر الطاعون ببلاد الشام في السنة الثامنة عشرة من الهجرة إبان خلافة عمر بن الخطاب وحصد أرواح ما يزيد عن ثلاثين ألف من البشر فيهم جماعة من صحابة رسول الله (ص) كأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وعيينة بن سهل وآخرين.

ومات بالطاعون بعد ذلك أبوالأسود الدؤلي (16 ق هـ - 69 هـ)، والشاعر الطبيب أحمد بن شعيب الجزنائي    (327 - 427 هـ)، وزين الدين عمر بن الوردي        (691 - 749 هـ)، ومات بالطاعون أيضا تاج الدين السبكي (727 - 771 هـ) وصلاح الدين الصفدي صاحب الوافي بالوفيات (696 - 764 هـ)، وابن حجة التلمساني (725 - 777 هـ)، وفقد الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 - 852 هـ) بنتين من بناته في طاعون سنة 819 هـ، وفقد بنته الثالثة وهي كبراهن في طاعون سنة 833 هـ، ومرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس (1145 – 1205 هـ)، وابن هيدور (عام 816 هـ)، ومن الذين ماتوا ضحية الطاعون الذي ضرب مدينة تازة بالمغرب العربي فطومة أو بطوطة أم الرحالة الشهير ابن بطوطة عام 749 هـ، أي قبل عودته من رحلته الأولى وقد تحدث عن ذلك في كتابه "تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وفي الطاعون الذي ضرب تونس عام 1200 هـ، مات جميع شعراء مدينة "صفاقس" عن بكرة أبيهم كما حدثنا المؤرخ محمود بن سعيد مقديش في كتابه الذي أشرنا إليه من قبل.

وقد كانت الأوبئة في العصور الماضية تترى، وربما لم يكن يفصل وباء منها عن الآخر سوى سنوات قلائل، ولقد أحصى الباحث أحمد العدوي في كتابه "الطاعون في العصر الأموي .. صفحات من تاريخ الخلافة الأموية" ما يقرب من عشرين طاعونا أي عشرين وباء فقد كان الغالب في تلك العصور على الأوبئة اسم الطاعون ومن أشهر الأوبئة التي اجتاحت أرض العرب خلال تلك المرحلة التاريخية الوباء الذي ظهر سنة 69 هـ (إبان خلافة عبد الله بن الزبير) وكان وباء شديدا سمي بالجارف لشدته، وقد مات في هذا الوباء أبو الأسود الدؤلي كما سبق أن ذكرنا، ومات قبله بسنتين أو ثلاثة قبيصة بن حريص الأنصاري وعدد كبير من أولاد أنس بن مالك وأولاد عبد الرحمن بن أبي بكرة، وانتشر هذا الطاعون فوصل إلى البصرة بالعراق وإلى مصر فمات فيه خلق كثير بحسب رواية ابن قيم الجوزية والحافظ بن كثير نقلا عن الواقدي، وفي سنة 70هـ، وقع الطاعون بمصر إبان ولاية عبد العزيز بن مروان وفق ما جاء في "معجم البلدان" لياقوت الحموي، ووقع أيضا سنة 80 بالبصرة بحسب ما جاء في كتاب "العبر في خبرمن غبر" لشمس الدين الذهبي، وهلك فيهما خلق كثير، وفي عام 86 هـ وقع في البصرة والكوفة وواسط ووصل إلى الشام طاعون أطلق عليه الكُتاب والمؤرخون كابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" وابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون" وشمس الدين الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام" وابن قتيبه في كتابه "المعارف" اسم "طاعون الفتيات" أو"طاعون العذارى"، ويكاد معظم المؤرخون يتفقون على تعليل الاسم بأن أكثر من مات في ذلك الطاعون كانوا من الفتيات والعذارى.

 وتمثلا لفصل الختامي لأوبئة عصر الخلافة الأموية طاعون عام 131هـ؛ وكان مسرح الوباء الرئيسي مدينة البصرة التي حصدت فيما يبدو نصيبا وافرا من الأوبئة في ذلك الزمان، بدأ ظهوره في رجب واستمر لشهري كاملين (شعبان ورمضان)، وأقلع كما قيل في شوال، وكان يحصى كل يوم في سكة المربد بالبصرة ألف جنازة وربما يكون في الرقم مبالغة ولكن له دلالة واضحة على كثرة الضحايا، وأشهر من ماتوا في هذا الطاعون أبوبكر أيوب بن أبي تميمة كيسان الذي قال عنه الإمام حسن البصري إنه سيد أهل البصرة، وتتابعت الطواعين في سنوات 134، 146، 221، 249، 301، 346، 452، 455، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر.

وفي المغرب العربي والأندلس كان للناس أيضا تاريخ طويل مع الأوبئة من مثل طاعون سنة 571هـ، الذي انتشر في مناطق كثيرة من المغرب والأندلس ويعد هذا الطاعون أشد ما ظهر من أوبئة في عصر دولة الموحدين ومن شدته أنه كان يحصد من أرواح الناس ما بين 100 إلى 190 كل يوم، وفي هذا الوباء توفي أربعة من إخوة الخليفة يوسف بن يعقوب، وطاعون سنة 1212هـ، الذي انتقل مع التجار من الإسكندرية إلى تونس فالجزائر فالمغرب وقد لقبه معاصروه بـ "الطاعون الكبير" فقد مات جراء ذلك الوباء أكثر من ربع السكان.

الوباء في عيون الشعراء :

-----------------------

ظل الشعر ديوان العرب لقرون طويلة من الزمن، فهو يتيح لمن يطالعه معرفة أمور شتى عن حياة العرب قد لا تتيحها له أية مصادر أخرى، وبخصوص الموضوع الذي نتناوله في هذه السطور فإن أقدم إشارة إلى ظهور وباء الطاعون بأرض العرب قد وردت في قصيدة من عيون الشعر الجاهلي لشاعر مخضرم (أي عاش في الجاهلية والإسلام) وتوفي عام 27هـ، هو أبو ذؤيب الهذلي، ويقول في مطلعها كالآتي :

أمن المنون وريبه تتوجع .. والدهر ليس بمعتب من يجزع ؟

والقصيدة طويلة يتفجع فيها أبو ذؤيب على خمسة من أبنائه صرعهم وباء الطاعون ومنها الأبيات القليلة الآتية :

أودى بني فأعقبوني غصة .. 

 بعد الرقاد وعبرة ما تقلع

سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم .. 

فتخرموا ولكل جنب مصرع

فغبرت بعدهم بعيش ناصب .. 

وإخال أني لاحق مستتبع

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم .. 

وإذا المنية أقبلت لا تدفع 

وإذا المنية أنشبت أظفارها ..

 ألفيت كل تميمة لا تنفع

فالعين بعدهم كأن حداقها .. 

سملت بشوك فهي عور تدمع

ومن الشعراء الذين وصفوا في أشعارهم ما عاصروه من أوبئة "صلاح الدين الصفدي" الذي تضمن كتابه  "التذكرة" كثيرا من أشعاره عن طاعون سنة 749هـ حين اجتاح الشام وفلسطين ومصر ووصل حتى أوروبا وسمي بـ "الوباء العظيم" لاجتياحه مناطق كثيرة من العالم آنذاك فقال :

قد قلت للطاعون وهو بغزة ..

 قد جال من قطيا إلى بيروت 

أخليت أرض الشام من سكانها .. 

وحكمت يا طاعون بالطاغوت

ووصف أحد أعراض الإصابة بالطاعون المعروفة وهي التي تقع في رأس المصاب خلف الأذن فقال متعجبا، وجلق في البيت الأول هوالاسم القديم لدمشق :

تعجبت من طاعون جلق إذا غدا ..

 وما فاتت الآذان وقعة طعنة

فكم  مؤمن  تلقاه أذعن طائعا .. 

على أنه قد مات من خلف أذنه

وقد مات الصفدي في الطاعون الذي ضرب مصر إبان شهر رمضان عام 764هـ، وقد أودى هذا الطاعون بحياة الآلاف من أهلها وبخاصة طائفة اليهود بحسب ما جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير :

وقال "ابن نباتة المصري" المتوفى سنة 768هـ في طاعون سنة ،749 الذي تفشى في بلاد الشام وفلسطين وكان حينها مقيما بدمشق :

سر بنا عن دمشق يا طالب الغي فما في المقام للمرء رغبة 

رخصت  أنفس  الخلائق بالطاعون  فيها فكل  نفس  بحبة

وحين اشتدت حدة الوباء وأصبح يفتك بسكان دمشق صباحا ومساء قال "عمر بن الوردي" يصف بعض ما عاينه من أعراض الوباء التي تظهرعلى المصابين به :

يا رحمتا لدمشق من طاعونها .. 

فالكل مغتبق به أومصطبح

كم هالك نفث الدما من حلقه .. 

أو ما  تراه  بغير سكين ذبح

وكان آخر ما قاله ابن الوردي من شعر قبل أن يصرعه الوباء بيومين هذان البيتان يتحدى فيهما الطاعون :

ولست أخاف طاعونا كغيري ..

 فما  هو  غير  إحدى  السنيين 

فإن مت استرحت من الأعادي .. 

وإن عشت اشتفت عيني وأذني


حكاية من وباء الكوليرا بمصر عام 1902 :

 

ظهر وباء الكوليرا بمصر في بداية القرن العشرين وبالتحديد عام 1902، فبعد موسم الحج لذلك العام تفشى الوباء في قرية موشا بمديرية أسيوط وفتك فتكا ذريعا بأهلها، وقد حكى قصة ذلك الوباء طبيب النساء والولادة نجيب ميخائيل محفوظ (وهو بالمناسبة الذي ولد على يديه عام 1911م نجيب محفوظ أديب مصر الكبير الحاصل على جائزة نوبل في الرواية ولهذا السبب سمي على اسمه) في مذكراته التي تحمل عنوان "حياة طبيب" (أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة طبعة جديدة منها عام 2007) وكان حين ظهر الوباء قد تخرج حديثا في مدرسة الطب العليا فأرسل مع مجموعة من زملائه إلى القرية المنكوبة لمكافحة الوباء وخلاصة الحكاية كما رواها نجيب محفوظ أن عمدة القرية عاد من رحلة الحج ومعه كمية من ماء زمزم في عدة "صفايح" وكان الماء موبوءا بجرثومة الكوليرا وأهدى بعض أقاربه وأهالي القرية بعضا من الماء فسكبوه في آبارهم وكانت كثيرة تبركا به ونتج عن ذلك تفشي الوباء في أهل القرية فحوصرت القرية ومنع الدخول إليها أوالخروج منها ولكن الوباء انتقل عندما هرب أحد الأهالي من الحجر الصحي إلى القرى المجاورة ومن مديرية أسيوط إلى المديريات الأخرى حتى عم معظم أنحاء مصر وما أدى إلى تفاقم حدة الوباء كما حكى الطبيب نجيب محفوظ أن أهالي القرية لم يكونوا يستجيبون لتعليمات الأطباء وأوامر السلطات خوفا من أن يقوم رجال الشرطة بردم آبارهم فكانوا يضعون على فتحاتها ألواحا من الخشب يبسطون فوقها حصيرا ويفرشون فوق الحصير التراب بحيث يصعب اكتشافها وعند التفتيش عليها يدعون أنهم قد ردموها بأنفسهم بينما هم لم يتوقفوا عن استعمالها في الخفاء، وبلغ عدد القرى التي وصلها الوباء أكثر من 2000 قرية، كما بلغ عدد الوفيات أكثر 34 ألفا بحسب ما جاء في محاضرة مطبوعة ومنشورة للدكتور سيف النصر أبوستيت تعود إلى عام 1948، وفي هذا الوباء توفي الشقيق الأوسط للدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، وكان طالبا بمدرسة الطب، وقد حكى طه حسين في الجزء الأول من كتابه الأشهر "الأيام" مأساة أسرته بفقدان أخيه وكيف كان في طفولته يقضي الليالي الطوال يبكي أخاه وينظم الأشعار في رثائه.

وقد حدث وباء الكوليرا الذي نتحدث عنه في أثناء غيبة الخديو عباس حلمي الثاني فقد كان آنذاك في زيارة للأستانة عاصمة الدولة العثمانية وعندما عاد إلى مصر كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة يهنئه فيها بسلامة العودة مطلعها كالآتي :

الدهر جاءك باسط الأعذار .. فأقبل فأمر الدهر للأقدار

وفي القصيدة التي تبلغ أكثر من ثلاثين بيتا يصف أمير الشعراء بعضا مما حدث بمصر في مدة غياب الخديو ويأتى على ذكر "موشا" القرية التي كانت بؤرة الوباء فيقول :

لهفي على مهج غوال غالها .. 

خافي الدبيب محجب الأظفار

خمسون ألفا في المدائن صادهم .. 

شرك الردى في ليلة ونهار

ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة .. 

مرموقة في العصر أو لفخار

فالموت تحت ظلال موشا رائع ..  

كالموت في ظل القنا الخطار

أهلا بلطف الله بعد قضائه .. 

سكن القضاء به فليس يجارى

حكاية من وباء الكوليرا عام 1947 :

--------------------------------------------

ظهر وباء الكوليرا مرة ثانية بمصر عام 1947، وخلاصة قصته أن جنديين بريطانيين كانا يخدمان في الهند وقدما إلى مصر مصابين بجرثومة الوباء وكان مقر عملهما في معسكرات جيش الاحتلال في منطقة "التل الكبير" التابعة للإسماعيلية على تخوم محافظة الشرقية وانتقلت العدوى منهما إلى اثنين من الفلاحين  بقرية "القرين" ومنها إلى بلبيس وبعض ضواحي القاهرة المجاورة وقد تمكنت الدولة عبر مجموعة من الإجراءات السريعة الصارمة في حصار الوباء فلم يحدث فيه ما حدث من قبل في وباء سنة 1902، وبالرغم من أن عدد السكان تضاعف عما كان عليه في بداية القرن فلم يزد عدد وفيات هذا الوباء على 10 آلاف وفاة إلا قليلا، وفي غضون شهور انحسرت موجة الوباء تم تعافي المجتمع منه.

 وقد يندهش بعض القراء من قولنا إن ثمة علاقة وثيقة أصبحت تربط وباء الكوليرا بتاريخ الشعر العربي الحديث فقد انفعلت الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة بأحداث وباء الكوليرا في مصر عام 1947، ذلك الوباء الذي كانت يوميا تقرأ أخباره المرعبة في الصحف وتسمع أنباءه المخيفة في الراديو فكتبت من وحي انفعالها قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" التي أصبح يؤرخ بها في كثير من الكتابات النقدية لبداية شكل جديد من الشعر تعتمد فيه القصيدة في نظامها الموسيقي على وحدة السطر الشعري لا على وحدة البيت، وقد سماه بعضهم بالشعر الحر وسماه آخرون بـ "شعر التفعيلة" وسماه العقاد انكارا له واعتراضا عليه بـ "الشعر السايب"؛ بعد ذلك استقر مصطلح "شعر التفعيلة" وصار عنوانا لذلك الشكل من الكتابة الشعرية، وقد نشرت نازك الملائكة القصيدة في ديوانها الثاني "شظايا ورماد" وتصور نازك الملائكة في قصيدتها بعض مظاهر تفشي الوباء بين الناس ومشاعرها وأحاسيسها تجاه ما يعانيه أشقاؤها المصريون فتقول منها :

يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت

طلع الفجر

أصغ إلى وقع خطى الماشين

في صمت الفجر أصخر؛ انظر ركب الباكين 

عشرة أموات .. عشرونا

لا تحص؛ أصخ للباكينا

اسمع صوت الطفل المسكين 

موتى موتى ضاع العدد

موتى موتى لم يبق عد

وتواصل نازك في قصيدتها تصوير أثار تفشي الوباء على الحياة المرحة الوضاءة في وادي النيل، وكيف كان الوباء فتاكا وكأن له ثأرا لدى مصر والمصريين فتقول:

استيقظ داء الكوليرا

حقدا يتدفق موتورا

هبط الوادي المرح الوضاء

يصرخ مضطربا مجنونا 

لا يسمع صوت الباكينا

في كل مكان خلف مخلبه أصداء

في كوخ الفلاحة في البيت

لا شيء سوى صرخات الموت 

الموت الموت الموت


    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة