السبت 1 يونيو 2024

أزمة كورونا.. وحتمية دراسة التخييل

فن27-10-2020 | 21:19

تثبت هذه الأزمة العالمية التي تكسر أفق التوقع أمام كل البشر الآن أن التخييل(imagination) هو الملكة الإنسانية الأعظم أو الأهم التي تعظّم إلى أقصى حد من مقدرة الإنسان وتعزز تفوقه. مع الأسف الشديد ربما لا نهتم كثيرا بالتخييل إلا في إطار الأدب والفنون والحقيقة أنه أمر حتمي في كل المجالات ولكنه يبقى ارتجاليا وغير محسوب أو مدروس بدقة في المجالات الأخرى خارج الفن والأدب. ولذلك لو طرح أحدهم مثلا فكرة أن يتم العمل على دراسة التخييل في مجال الطب أو في الهندسة والبناء ووضع مناهج لتحليل نواتج التخييل ومستخرجاته ربما تكون الفكرة غريبة. في تقديرنا أنه لا توجد مهنة على الإطلاق ليست بحاجة ملحة إلى القدرة التخييلية، وبالتالي فإن السؤال المهم لماذا لا يتم دراسة التخيل أو التخييل إلا في إطار الأدب والفنون؟ 


في علم إدارة الأزمات والكوارث مثلا بدأ التنبه لأهمية التخييل ربما لأن جزءا كبيرا من مصطلحات هذا العلم ومفرداته هي ابنة التخطيط والتعامل مع المستقبل وبالتالي فإن الأمر برمته يكون مبنيا على تصورات متخيلة وسيناريوهات متوقعة. العلوم العسكرية هي الأخرى ومن قديم الأزل هي واحدة من أهم المجالات التي تنبي بشكل أساسي على القدرة التخييلية وتحليل المعلومات. التخييل ليس مجرد التوقع بل هو قدرة شاملة على تصور المستقبل والتمكن من بناء سيناريوهات كاملة وتشكيل افتراضات منطقية وطرح احتمالات عديدة وتصور بنية عالم كامل له أبعاد عديدة. 


لماذا مثلا لم ندرس الطاقات التخييلية لطلابنا عبر وسائل قياس عديدة يمكن الاستقرار عليها سواء من علماء نفس أو تربويين أو مختصين في الفلسفة وتنمية مهارات التفكير؟ ألا نتصور مثلا أن هذا الاشتغال على القدرات التخييلية للطلاب يجعلنا قادرين على تخريج طلاب يصبحون أطباء ومهندسين وفيزيائيين وكيميائيين أكثر قدرة على التعامل مع سيناريوهات هم وحدهم القادرون على توقعها؟ في ظني أن عالم ما بعد كورونا يجب أن  يبدأ من هذه الأزمة وتحديدا من تلك اللحظة التي لم يكن أحد يتوقع فيها ما سيحدث قبله بأيام أو بأسابيع أو أشهر، فقد كان العالم قبلها بقليل يمضي وفق وتيرته المعتادة دون أية احتمالات لهذه التصورات عند غالبية البشر. وإن كان ثمة طبعا مخيلات بشرية استثنائية توقعت الحرب الشرسة بين الفيروسات والبشر. 


الحقيقة أن يفي شكل من الفنتازيا أجدني مدفوعا الآن بسبب هذه الأزمة العالمية الضخمة إلى فكرة طريفة عن ضرورة استقرار العلماء في كل العالم على وجود آلية أو وسيلة قياس للتخييل لدى الفرد وبخاصة من يحتاجون في مهنهم إلى طاقات إبداعية، الأمر حيئنذ يتجاوز المهن الأدبية والفنية فلن نقيس بها المقدرة التخييلية عند الروائيين والشعراء وكتاب السيناريو فقط، بل كذلك لدى رؤساء مجالس الإدارة والوزراء وغيرهم الكثير، فمن يتعامل مع المستقبل بدرجة أكبر مثلا يكون هو الأكثر قدرة تخييلية، وأتصور أن العالم يجب أن يضع وحدة قياس للخيال محايدة وعلمية إلى أقصى درجة عبر الاستقرار مثلا على معادلة لقياس الخيال، فتكون في مجال الرواية مثلا - على سبيل الافتراض الهزلي الساخر ليس كليا – هذه المعادلة لقياس القدرة التخييلية هي كالآتي (حاصل ضرب القفزة التصويرية مع الابتكار التكويني مع الاكتمال المادي مع التطوير الدرامي مضروبة كلها في سرعة تدفق الخيال مقسومة على الناتج الكلي لإنتاج شعرية النص التجريبي) - طبعا هذه مصطلحات ارتجالية عبثية- وبالتالي لو أخذنا كل حرف مثلا من هذه الوحدات ربما نحصل على اسم وحدة القياس أو يمكن أن نسميها تسهيلا قدرة تخييل يعني نقول مثلا فلان روائي قدرة (120 تخييل)، وفلان قدرة 90 تخييل، وفلان قدرة 20 تخييل وفلان آخر يدوب 5 تخييل، وهكذا.


وفي تقديري الشخصي إننا لو فعلنا هذا باتفاق علمي من هيئة عليا أو لجنة عليا للتقييم والفحص والجودة على مستوى العالم ربما نكتشف أن لدينا روائيين أقل من أقل سيارة موديل العشرينيات وبعضهم أقل من موتسيكل. 

أمر طيب!!ماذا لو طبقنا هذا على السياسيين والمثقفين والأطباء والباحثين وغيرهم أظن أنها ستكون فضيحة أو ستكون النتيجة صادمة أحيانا فنجد أن كثيرا من المسئولين الذين تتم مهاجمتهم قدرتهم التخييلية أكبر بكثير من معارضيهم وسنكتشف أن الفقر التخييلي سمة عامة لدى القاعدة الشعبية مع الأسف الشديد. يعني مثلا الطلاب الذين مازالوا يهربون من الدولة ويذهبون إلى السنتر التعليمي للدروس الخصوصية هم وآباؤهم كم ستكون طاقتهم.


 الحقيقة أن بعض هؤلاء مباشرة في التصنيف ستكون هناك فضيحة حين نكتشف أن عددا كبيرا من الذين يسمون أنفسهم مثقفين وشعراء وروائيين لا يملكون الحد الأدنى للمقدرة التخييلية وفي بعض الأحيان يملك بعضهم مخيلة صفرية.


في ظني كذلك أن المسألة يجب أن تقترن ببعد آخر وهو زيادة الإيمان بالمادية واحترامها، وألا تكون هذه الطاقات التخييلية تنزع بشكل كلي إلى التجريد لأنه حينئذ سيكون تخييلا مستعليا على الواقع منفصلا بدرجة كبيرة عن الحياة بأبعادها المادية ولن يكون مرتبطا بالمادة، أي الغذاء والطرق والبناء والتعمير والبيئة والطبيعة وغيرها من عناصر الوجود المادية، لا أدعى بالطبع هنا لأن نغرق في المادية لأن طبيعة مجتمعاتنا لن تقبل هذا فهي على النقيض من ذلك تدعو إلى روحية جوفاء وفي أوج تزمتها الديني وستواجه أية دعوة للمادية الخالصة بحرب فكرية شرسة. من الطريف جدا مثلا أن نعرف حقيقتين في منتهى الأهمية من وجهة نظرنا وهما أن الحضارة الفرعونية كانت من الأمم صاحبة المخيلات الفائقة وتقريبا هذه هي سمة الحضارات العظيمة، والأكثر طرافة أنها كانت تحقق التوازن بين المادية والروحية وكانت نواتج الخيال موزعة بين بناء الهرم بشكله المادي وتكوينه وبين الزراعة والتحنيط وعلوم الطب والهندسة وكلها مادية وكذلك موزعة بين تصور عالم ما بعد الموت والحياة الأخرى بعد البعث وكيفيات الحساب والنعيم بعد الموت وكلها مرتبطة بجوانب روحية. وربما لهذه الأسباب كان الملك في مصر القديمة يجمع بين السلطة الدينية والسياسية، فهو إله أو ابن الإله وكذلك هو الملك صاحب الحكم والسياسة وجمعهما هو من الأشياء التي قد تعني غياب التعارض أو التنازع الذي قد يحدث في بعض الأحيان، والأمر كذلك بالنسبة للكهنة الذين كانوا حماة وحراسا للقيم الدينية وكذلك علماء الطبيعة فبعضهم أطباء أو مهندسين، بل كانت المعابد مدرسة ودار عبادة كذلك، بما يعني أن رجال الدين في الحضارة الفرعونية لم يكونوا غارقين في التجريد والأوهام والخرافات، بل جمعوا بين الجانبين، المادي والروحي وحدث توازن دفع الحضارة المصرية إلى هذه الصورة القوية في عصور كانت البشرية تغلب عليها فيها البدائية.


المعلومة الثانية وهي مرتبطة بالعسكريين أو الدارسين للعلوم العسكرية فقد قلت إنها علوم تحتم وجود التخييل وإعمال السيناريوهات المستقبلية بما يجعلها واحدة، ولذلك فالعسكريون لا يخوضون حروبهم وينتصرون فيها وهم مسلحون بالإيمان فقط، بل هم بالأساس يدرسون أسباب كل شيء ويحترمون المادية إلى أقصى درجة سواء كانت متحققة في الوقت الراهن أو متخيلة أو متوقع حدوثها، بل الأكثر دائما أنهم يحسبون حساب المتوقع.