الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

الجمهور المصرى واع وأنا أثق فى ذائقته وشعاري فى الأزمة الأخيرة "فلتحيا الحياة"

  • 27-10-2020 | 21:26

طباعة

عندما تسمع موسيقاه تعرفه فورا، فهو ليس مبدعا فقط، إنه متصوف زاهد عابد، مبدع روحى كما يقول عن نفسه، تجده بين جمهوره في الحفلات كالدرويش بين مريديه فى حلقات الذكر، حيويته النابضة الراقصة ترسم لوحة "عاشق" للمعانِي الروحية، خطواته تنبئ  بشباب وحيوية تنبض من بين عروقه.


رفض التوصيفات والألقاب المحددة، هو الأقرب للدرويش الزاهد، والمبدع المخلص لفنه..إنه الفنان الكبير انتصار عبد الفتاح، الأب الروحي لفرقة سماع التي  شبت عن الطوق وصار لها مهرجان سنوي عالمى، يأتي إليه الناس من شتى أجناس الأرض، يعزفون وينشدون ويغنون فى تجلٍ وكأنهم يتعبدون إلى الله، "عراب" الموسيقى الروحية كما يصفه محبوه تحدث إلى "الهلال" فى حوار عن الله والتصوف والموسيقى الروحية والعالمية فكان هذا الحوار:


- من أين جاءت لك فكرة فرقة سماع وكيف تحولت إلى مهرجان دولي كبير؟


- فرقة سماع كانت حلما وتحقق، والمهرجان وورشة "منشد الغورى" أيضا كانا من ضمن أحلامى، حتى جاء الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق، وعيننى مديرا عاما على مركز إبداع قبة الغورى، وقال لى وقتها: "أنا عاوزك تغير فلسفة المكان"، ومن هنا بدأت.


قبة الغورى لم تكن بالمكان الغريب على، كل ركن بالمكان له بداخلى إحساس وذكرى، استلهمت من الكُتاب وقاعة الخانقاه وهى المكان الذى كان ينقطع فيه المتصوف للعبادة فى العصور الفاطمية والمملوكية  فكرتى  وبدأت أخطط لعمل فرقة تكون وسيلة للحوار الثقافي بين الشعوب، وتكون امتدادا للفكر الصوفي المتجذر فى الأصول المصرية منذ الحضارة الفرعونية.


خطوة بخطوة بدأ المشروع حتى وصل إلى ما هو عليه، أسست فى البداية ورشة منشد الغورى، طوفت كافة أقاليم الجمهورية، ورصدت أصواتا مميزة، جاءت بكل المواهب التى قابلتها إلى القاهرة، وأسست فرقة سماع للإنشاد عام 2007، بعدها بدأت الخطوة الثانية وهى فرقة تجمع الفكر الروحى فى التراثين الإسلامى والقبطى، وعرضت على قداسة البابا شنودة الفكرة، تحمس لها وكان سعيدا جدا وقال لى "على البركة"، وبدأت فى ورشة لشباب المرنمين فى الكنيسة بالتعاون مع الشماس أنطون عياد، ثم جاءت المرحلة الأهم والحلم الأكبر فى داخلى وهو مهرجان يستطيع أن يصل بالموسيقى الروحية المصرية إلى العالم كله، وبالفعل تحقق وأصبح واحدا من أكبر المهرجانات فى الموسيقى الروحية ليس فقط في مصر ولكن فى العالم كله.


ومن مهرجان سماع إلى ملتقى الأديان، فكان حلما أسعى الوصول منه للأرض المقدسة وطريق الأنبياء من خلاله، و"عينى كانت على دير سانت كاترين ومجمع الأديان فى مصر القديمة، ليكون تجمعا بين أناس من جميع بقاع الأرض فى حالة تجل موسيقى ورسالة روحية سامية.


- قلت إن "الفكر الصوفى" متجذر فى الأصول المصرية.. كيف هذا؟


- جوهر الصوفية ومفهومها الكونى، موجود فى الإنسان المصرى منذ الحضارة القديمة، الفراعنة كان لديهم هذا الفكر والجوهر، فتجد الحكيم هرمس يقول :" أصلي في باحة مفتوحة للسماء، مستقبلاً الشرق في الفجر والغرب في الغسق، حتى ينفتح الكون أمامي، ويستقبل الكون كلّه أصوات تسابيحي، فأنا أهمّ بالترنّم بمدائح الواحد الكل".


- البعض يصفك بأنك الأب الروحي للموسيقى الروحية.. فهل تعتبر نفسك مبدعا أم متصوفا.. وهل تأثرت بأئمة الفكر الصوفى؟


لا أستطيع أن أفصل الحالتين عن بعضهما، لأننى كفنان أستشعر الكون، واترك نفسى مع هذا الإحساس والشعور، فالإبداع بالنسبة إلى هو حالة كونية وهو أيضا حالة صوفية، وبالتأكيد تأثرت بأئمة التصوف مثل جلال الدين الرومى وابن عربى، ولدى فى منزلى مكتبة ضخمة تضم كل أعلام الصوفية، نهلت منها واستلهمت منها أفكارا ووضعت عليها فلسفتى ورؤيتى وقدمت منها أعمالى.


- كيف تقيم تجربة مهرجان سماع بعد هذه السنوات وما خطتك له مستقبلا؟


المهرجان نجح نجاحا باهرا، على المستويين الجماهيري والدولى، ويكفى أن العديد من دول العالم الآن أصبحت تحرص على المشاركة فى المهرجان، كما أن فرقتى سماع ورسالة سلام استطاعا أن يطوفا العالم وأن ينشدا داخل أكبر الكنائس فى أوروبا، وأصبح لهما فلسفتهما الخاصة، والمنشدون من كافة دول العالم يأتون للمشاركة فى المهرجان.


لكن رغم كل هذا النجاح يتبقى لى حلم، فأحلامى بلا حدود ولا يوجد سقف لطموحاتى، وأتمنى خلال الفترة المقبلة أن أنقل مهرجانى سماع والطبول خارج مصر، ولا يكون تنظيمهما مقتصرا على القاهرة فقط.


-هل جاءت لك عروض لتنظيم المهرجان فى الخارج وما الذى يعطل ذلك؟


هناك بعض الدول لا أحب أن أذكرها عرضت استضافة المهرجان ولكننى لم أقرر بعد، الموضوع ليس سهلا بطبيعة الحال ويحتاج لدراسة، أنا أقدم الشخصية المصرية المتفردة والقاهرة التاريخية، فكيف أصدر التراث الثقافى المصرى للخارج بشكل عالمي يليق به؟، كما أننى أحتاج أن أعرف ثقافة البلد التى تستضيف المهرجان.


-        الموسيقى هي لغة التعبير العالمية، ما الذي حققه مهرجان سماع للتقارب بين الفن المصري والعالمي؟

الفن حالة إنسانية، وهو مفهوم للتواصل الإنساني بين الشعوب، خاصة هذه الأيام فى ظل ما يعاني منه العالم بعد تفشى فيروس "كوفيد 19" أصبح دوره أكثر أهمية وأصبحنا أكثر احتياجا له، والمهرجان كحالة فنية حقق تقاربا كبيرا بين الشعوب، السيد عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق عندما حضر المهرجان من قبل انفعل وقال بحماس: "إحنا بقالنا 50 سنة بنعمل مباحثات وجولات وانتوا فى 45 دقيقة جمعتوا العالم كله على تسامح ومحبة وسلام".


- بصفتك رائدا لهذا الفن في مصر، كيف ترى الاهتمام بالموسيقى الروحية في دول العالم الأخرى وأنواعها المختلفة؟


العالم كله مهتم بالفن الصوفى كلا حسب خلفيته الدينية والثقافية والجغرافية والتاريخية، الجميع يعبر عن روحانيته بطريقته الخاصة، فى أوروبا هناك اهتمام بالموسيقى الروحية داخل الكنائس وهناك ملامح واضحة لذلك فى فرنسا وسويسرا، ودول شمال أفريقيا أيضا مهتمة بالموسيقى الروحية، وهناك مدارس خاصة لهذه الموسيقى، خاصة المغرب التى تنظم مهرجانا كبيرا لهذا الفن فى مدينة (فاس)، وكذلك الحال فى الأردن وسوريا.


-كيف ترى دور الموسيقى الروحية في محاربة الإرهاب والفكر المتطرف؟


الفن وسيلة مهمة جدا لمحاربة الفكر المتطرف، والموسيقى الروحية لها دور مهم جدا ولكن يجب أن يكون ذلك عن وعى وفهم، وفرق مثل سماع ورسالة سلام يقومان بتجديد الخطاب الدينى الذى نحتاج إليه اليوم، ففى إحدى الحفلات رأيت سيدتين كانتا ضمن الحضور٬ فبينما أطلقت إحداهن "زغرودة" فرح مبتهجة٬ بكت الأخرى بدموع حارة" وهي تلك الحالة التي تثريها وتثيرها الموسيقى الروحية، فهى تدخل داخل القلوب وتتعمق فى المشاعر، وهذا يعد تجديدا للخطاب والمفهوم الدينى، والذى ينعكس أيضا في السلوك البشرى.


- بصفتك رائدا من رواد الفن الروحى فى مصر.. كيف ترى تأثر الجمهور المصرى بالموسيقى الروحية؟

الجمهور المصرى واع ويحب المنتج الثقافى الراقى، وعندما يجد فنا جيدا فهو يسانده ويقف بجواره، أنا أثق فى ذائقة الجمهور المصرى. بالتأكيد هناك اهتمام بالموسيقى الروحية نابع من تأثر قطاع كبير من المصريين بالفكر الروحانى والصوفى، لكنه فى النهاية يدعم الفن الجيد سواء كان المقدم موسيقى روحية أو أغانى رومانسية أو حماسية المهم أنه فن راقِ وصادق، والرائع أن هذا الجمهور مختلف ومتنوع من كل الفئات، ربما يكون الشباب الأكثر تفاعلا لكن ذلك كونهم أكثر انفتاحا الآن على الفنون، فتجد الشباب الذي يذهب إلى المسرح، هم من يأتون لحضور مهرجان سماع والطبول ملتقى الأديان، وهم أنفسهم من يحضرون حفلات الأوبرا المختلفة.


-هل تعتقد أن الموسيقى الروحية وصلت بشكل جيد إلى العاملين في فنون الأداء، وهل وجدت لها تجارب في الأقاليم من خلال مؤسسات وزارة الثقافة، أم أنها لا تزال مقتصرة على انتصار عبد الفتاح ومشروعه؟


الفكر الروحى كما قلت متجذر فى الشعب المصرى، الذى خلق من الموسيقى الروحية أشكالا متعددة، هناك مثلا الصوفية الشعبية التى تقدم فى الموالد وحلقات الذكر أو حتى داخل الكنائس وفى الترانيم، وأيضا هناك الفرق الشعبية التى أصبحت تقدم الموسيقى الروحية والإنشاد الدينى، ووزارة الثقافة أيضا تهتم بهذا الفن ولديها فرقها الخاصة مثل فرقة الإنشاد الدينى فى دار الأوبرا المصرية، بجانب فرقة سماع للإنشاد، ومشروعى الذى بدأته عام 2007 كان من خلال الوزارة.


- كيف ترى تأثير فرقة سماع في فرق الإنشاد الأخرى وما رأيك فيما يقدمونه من أعمال؟


فرقة سماع وورشة منشد الغورى غذتا الموسيقى الروحية فى مصر، وكانتا نواة لخروج منشدين وفرق إنشاد كثيرة، عندما بدأت لم يكن هناك انتشار لهذا الفن كبير فى مصر، لكن الآن أصبح هناك فرق كثيرة ومنشدون كثر، بعضهم جيد، لكن أيضا هناك البعض أخذ الأمر بشكل سطحي وتجارى بحثا عن النجومية، فالمنشد الحقيقى يجب أن يتضاءل أما نفسه لأنه لا يوجد كبير فى هذا النوع من الفن، وللأسف قد تجد منشدا صوته رائع، ولكن كل همه الشهرة والنجومية، والإنشاد فى الأصل ضد النجومية.


- ذكرت من قبل أن من ضمن أحلامك هو مشروع لتجميع الفرق التي تعبر عن الثقافة المصرية في مشروع شخصية مصر الثقافية، ما هى فكرتك من المشروع وإلى أي مدى وصل الآن؟


التراث المصرى غنى وثرى للغاية وبالفنون والآداب المختلفة، وكل إقليم مصري له مذاقه وفنه وأدبه المتفرد، فالثقافة المصرية ليست أحادية الجانب، ولا يجب النظر لها كذلك، وأنا حاولت أن أجمع كل هذا الثراء، وتجولت فى كل الأقاليم بحثا عن كل هذا التراث الشعبى المصرى المتفرد، وحاولت تجميعه من خلال فرقة الطبول النوبية والآلات الشعبية، كذلك اهتممت بفنون القاهرة التاريخية مثل الأراجوز وصندوق الدنيا والنقرازان، وصممت مسرح العربة الشعبية وهى عربة مستوحاة من عربات الباعة الجائلين مثل عربات الكشري والفول وعربة بائع الطراطير والبمب فى الموالد، وهى تشبه عربات الكشرى إلى حد كبير، لكنها مسرح متنقل يجمع بداخله كافة أشكال الفنون التراثية الشعبية فى مصر.


والمشروع قائم، وأصبح له شق آخر خاص بالقاهرة التاريخية، حيث قدمت بحثا كبيرا عن فنون القاهرة التاريخية، للمهندس إبراهيم محلب، ضمن مشروع إحياء فنون القاهرة التاريخية.


-هل يمكن دمج الموسيقى الروحية في مصر في المسرح وخلق موجة جديدة من المسرح؟


الأمر متوقف على موضوع النص المقدم وفلسفته، وما هى الرؤية أو الموضوع الذي يقدم على خشبة المسرح، مثل جوهر الآذان أو معنى من معانى الصوفية الروحية، حتى لا يكون ذلك مجرد إقحام للموسيقى الروحية، وبشكل عام هناك العديد من العروض التي قدمت مثل "قواعد العشق الأربعون" وغيره من العروض التى استطاعت أن تجمع بين المسرح والموسيقى الروحية، وأنا قدمت تجارب فى هذا المفهوم مثل "طبول فاوست" و"أطياف المولوية" و"طقوس السمو" وتحدث العرض عن المفهوم الكونى، وتلامسه مع التراث الإسلامي والقبطي والحضارة الفرعونية.


-هل تفكر في برامج للتدريب وورش تأهيل لتحفيز جيل جديد؟


الورش موجودة بالفعل من خلال ورشة منشد الغورى، أو مدرسة سماع فى قبة الغورى، والمدرسة تخرج فيها أجيال كثيرة ومنهم من كان طفلا وأصبح الآن منشدا شابا ومعروفا، ولدينا أيضا أطفال موجودون فى هذه الورش، والعنصر النسائي أيضا موجود، ولا نزال نعمل حتى الآن، لكننا متوقفون بطبيعة الحال حاليا بسبب أزمة "كورونا".


-   من المؤكد أن البشرية ستنتصر على جائحة كورونا، كيف تلعب الموسيقى الروحية دورًا في التعافي النفسي بعد انقضاء الأزمة؟


الفن والثقافة وليس الموسيقى الروحية فقط، سيكون لهم دور مهم عندما ننتهى من الأزمة الحالية، وسيكون هناك إعادة تشكيل لكل العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وفي النهاية يجب أن نتفاءل وأن نرفع شعار "فلتحيا الحياة" ونراهن عليه.

    الاكثر قراءة