لم يكن يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ يوماً عادياً
في تاريخ الأمة العربية عامة وفي تاريخ مصر خاصة... ولكني اليوم سأتحدث بعقل وقلب من
شهد الحدث وهو يعيش في سيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي وكيف انتفضت قلوبنا فرحاً واشرأبت
رؤوسنا تيها ونحن على أعتاب الشباب وانطلقت الزغاريد من الأمهات اللاتي اقتطعت من أرحامهن
فلذات أكبادهن إما استشهاداً أو اعتقالا أو غربة فاختلطت الدموع بالصيحات.... الله
أكبر ... الله أكبر ... أخيراً سنتخلص من الكابوس أخيراً سنعود إلى وطننا نعم سنعود
من الأسر فقد طال الانتظار فقد حكى لنا كبارنا أنه في حرب ١٩٥٦ لم يدم الاحتلال الإسرائيلي
لسيناء إلا أربعين يوماً وخرجوا يجرون أذيال الخيبة...
أما هذه المرة فقد طال بنا الانتظار وبرغم
المقاومة الشعبية التي امتدت إلى سنوات بعد الاحتلال إلا أن السنوات طالت وامتدت...
ففي عصر هذا اليوم الرمضاني الذي كان السوق في مدينة العريش يكتظ بالبائعين والصائمين
يلتقطون منه ما تيسر ولأن منزلنا يقع في وسط المدينة وتجارة إخوتي في السوق الرئيسي
فقد سجلت ذاكرتي المشهد حيث التصقت آذان البائعين وزبائنهم بالمذياع ولأن الصوت كان
قريباً من قلوبهم فهو صوت ابن سيناء الراحل حلمي البلك الذي أذاع البيان الأول إلى
أن جاء البيان الخامس بصوته أيضاً في حوالى الساعة الخامسة مساء وهو بيان النصر فلم
تكن الفرحة فقط أن حرب استرداد الأرض قد بدأت ولكن ها هو بيان النصر فقد عبرت قواتنا
قناة السويس ودمرت واقتحمت النقاط الحصينة بطول القناة... يا له من حلم طال انتظاره
يتحقق ليزيل عن رقابنا نير الاحتلال وها قد لاحت رايات النصر وقاربت خيوط الفجر تمحق
ليلاً طال... الفرحة لا يمكن أن تداريها وبرغم دوريات الاحتلال التي كانت تجوب الشوارع
فقد انطلقت الأغاني الوطنية من أجهزة الراديو في كل المحلات وعلى غير العادة لم تغلق
المحلات ساعة المغرب ليعودوا إلى منازلهم لتناول الإفطار فقد أفطر السوق كله بالباعة
الجائلين ومن يفترشون الأرض يبتاعون نتاج مزارعهم الصغيرة في إفطار جماعي على غير موعد
وكما يقول أولاد البلد «على ما قسم «وفي مشهد يستحق أن ترسمه لوحات بيكاسو أو تنقشه
أصابع دافنشي ترى الراكب قد ترجل والسائر قد توقف وتسمر الجميع وكأن الكون قد توقف
عند موجات الأثير من راديو القاهرة.... والغريب في
الأمر أن الناس لم تكن تخشى الغد كما تعودنا
في الحروب وخاصة أن النيران ليست بعيدة فهي على أرض سيناء فلم يتكالبوا على تخزين الطعام
والشراب بالعكس فقد زادت اللحمة الوطنية والتكاتف والتآلف وكأن النصر قد ألقى بظلاله
على النفوس ومرت الساعات والأيام تتراقص من نشوة الانتصار إلى أن بدا الجسر الجوي الأمريكي
والإنزال على شاطئ العريش والحشد الإسرائيلي وانطلقنا بعقول الصبية نحاول عرقلة مرور
السيارات و المدرعات على طريق العريش القنطرة بأن نضع ألواحاً خشبية مليئة بالمسامير
أو بعض جذوع النخيل ومجموعة أخرى كانت تزرع خوازيق حديدية على خطوط الإمداد وقد شجعنا
على ذلك حالة الذعر التي كنا نشاهدها على جنود الاحتلال فقد كان منهم من يعطل مركبته
ليجلس بجوارها حتى لا يذهب إلى الخطوط الأمامية وعلى صعيد آخر كان هناك مجموعات تحاول
تقديم العون للأسر من المواد الغذائية في صورة أكياس من الدقيق نقوم بتوصيلها على الدراجات
لأنحاء المدينة ولم نكن نعلم أن أكياس الدقيق التي نحملها على الدراجات لتوصيلها إلى
منازل معينة بعضها كان بداخله أجهزة لاسلكي... فقد كان هناك مجموعتان على اتصال مباشر
بجهاز الاستطلاع والمخابرات الحربية لنقل كل ما يدور من قبل الحرب وإثنائها وحتى لا
يستطيع العدو الإسرائيلي اكتشاف أماكن الأجهزة من خلال الترددات حيث كانت هناك دوريات
راجلة تجوب شوارع العريش فكان لابد من تغيير أماكن أجهزة اللاسلكي .... هذا كله لم
نعرفه إلا لاحقاً بعد توقف الحرب والقبض على
أبطال الخليتين ثم القبض على مجموعة منا وهذا يحتاج إلى سرد آخر في وقت لاحق إن شاء
الله.... سلاماً على روح الشهداء وتحية واجبة لأبطال النصر وفهود العبور العظيم في
يوم توقَّف التاريخ له فخراً وإجراءات.