إن مصطلح "تجديد الخطاب الديني" يشبه الكثير من الشعارات البراقة التى تنطلق فى الفضاء الإعلامى والسياسى مثل حوار الديانات أو "التسامح الديني".. وغيرها من الشعارات الفضفاضة، التي لا تعني شيئاً محدداً لماذا؟ لأن الديني هو المقدس والمقدس يتسم عادة بالجمود والإطلاقية والرهبة والتجاوز أو العلو، والثبات، ومقاومة التغيير والماضوية، والتحريم.. إلخ، ولذلك عادة ما يحاط المقدس بهالة من الخوف والترهيب بما يضفي عليه طابعاً مجاوزاً لما هو إنساني أو دنيوي أو نسبي. ومن هنا نسأل كيف يمكن تجديد ما هو مقدس أو كيف يمكن أن يكون هناك حوار بين المقدسات أو المطلقات؟
إن التجديد الديني كما أفهمه لا يحدث إلا فى إطار من التجديد البنيوي للواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي، فالتغيير الديني هو بمثابة المتغير التابع لهذه المتغيرات، لا يمكن أن يحدث تغيير فى بنية الخطاب الديني بمعزل عن التغييرات التحتية المرتبطة بالبنى الاقتصادية والسياسية، أما ما يتم تداوله الآن بوصفه تجديداً للخطاب الديني فهو أمر سياسي ينصب بالأساس على تدخل الجهات الرقابية والتنفيذية فى شكل المادة الدينية المقدمة لوسائل الإعلام أو للتلاميذ والطلاب فى المدارس أو فوق المنابر، لكنه لا يتعدى ذلك إلى تغيير بنية الخطاب الديني. تغيير بنية الخطاب الديني مسألة لا تتم بقرار سياسي، وإنما من خلال تغيير فى الرؤية التي من خلالها يتم التعامل مع التراث الديني كأن نقرأ هذا التراث من خلال منهج تاريخي أو تأويلى أو تفكيكى، وهذا أمر يحتاج إلى مناخ من الحرية السياسية والفكرية بما يضمن للمثقف أو المفكر الفرصة للتعبير عن رأيه بحرية ودون خوف، ولا يمكن أيضاً أن يتم تجديد الخطاب الديني أو تغييره دون التسامح إزاء نقد المسلمات والأفكار والشخصيات والمؤسسات.
أخلص من هذا إلى أن "التجديد الديني" هو شعار ديماجوجى لا يعنى شيئاً سوى وضع بعض المساحيق على الوجه المتجهم للخطاب الديني بحيث يبدو مقبولاً ومستساغاً لكنه لا يمس الجذور والأسس التي يقوم عليها الخطاب الديني الأصولى الذى يكاد يكون هو الخطاب الأكثر حضوراً فى المشهد المعاصر.
ومع تواجد خطابات متعددة, فهناك الخطاب الديني الرسمي ويمثله الأزهر، وخطاب الإسلام السياسي، وتمثله جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والجماعات الجهادية، وهناك الخطاب الديني الصوفي وتمثله الفرق الصوفية أو الطرق الصوفية، وهناك الخطاب الدينى الشعبى. والأخير هو خطاب غير متجانس وشديد التناقض لأنه يمثل المرآة التي تنعكس عليها كل الخطابات الأخرى، فالتدين الشعبى نجد فيه سماحة التدين الصوفي ونجد فيه تزمت الخطاب الأصولي الرسمى أو الأزهري، ونجد فيه عنف وصخب وتشنج الخطاب السلفي والجهادي، ولذلك يتسم التدين الشعبى ببراءته الشديدة أحياناً، وغوغائيته فى معظم الأحيان، أما الخطاب الديني الاستنارى، أو الذي ينطلق من منطلقات التاريخ والتأويل فلا يمثل تياراً محددا.
.
على أية حال فإن الخطر الأكبر - من وجهة نظرى - لا يتمثل فقط فى الجماعات الأصولية (الإخوانية، والسلفية، والجهادية)، ولكن الخطر الأكبر يكمن فى تلك الجماهير الصامتة التي تتبنى قيم الإسلام الوهابي، والتى كلما ارتفعت الأسعار وازداد عليها الخناق الاقتصادي كلما بحثت عن الحلول السحرية وعن المخلص، وهذا مكمن الخطورة، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن القوى والأحزاب السياسية الفاعلة غير موجودة فى الشارع، إذ اكتفت معظم الأحزاب السياسية بمقارها المريحة المكيفة، وبالنضال على الشاشات التلفازية، وعبر الفضائيات والسوشيال ميديا مما يخلق فراغاً سياسياً فى الشارع لا يجد أمامه من يملؤه سوى هذا الفكر الأصولى. والأصولية ليست جنوناً عابراً، أو ظاهرة معاصرة، وقد تواصل هذا التيار الأصولى ولم ينقطع فى العصر الحديث من خلال حركة محمد بن عبدالوهاب (١٧٠٣ - ١٧٩١) واستمر مع تعاليم أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب، ومازالت هذه الأفكار والتعاليم تتواصل مع كافة الجماعات السلفية والجهادية المعاصرة وعلى رأسها داعش.
حيث يتأسس هذا الشعور بالامتلاء والثقة والطمأنينة على جانب إبستمولوجى (معرفي) يتمثل فى أن المؤمن الأصولى لديه عقيدة راسخة بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، والتى تصبح كل الحقائق إلى جانبها نسبية وباطلة. وامتلاك الحقيقة المطلقة هو امتلاك كلام الله المقدس وهو القرآن والسنة المتممة والشارحة له. لأن كلام النبي هو كلام مقدس أيضاً لأن الله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا بطاعة النبى الذى لا ينطق عن الهوى. المشكلة هي أن التيار الأصولى منح لنفسه الحق فى اغتصاب سلطة المقدس، أعنى أنه اعتبر نفسه هو التيار المعبر عن الإسلام الصحيح، مما يسوغ لهذه الجماعات ممارسة العنف المقدس ضد بعضها البعض.
فأنا لست من المقتنعين بفكرة تجديد الخطاب الديني الأفضل أن نقول تغييرا، ولكن لابد من أن نسأل ما شكل التغيير أو التجديد - إن أردت - السادات قام بتغيير الخطاب الديني تجاه التطرف والغلو والإرهاب، فليس كل تجديد هو لصالح حرية الإنسان ولصالح التقدم وقيم الحداثة، هناك تجديد يعتبر ردة للخلف، أنصار الوهابية يعتبرون محمد بن عبدالوهاب مجدداً، والإخوان يعتبرون حسن البنا وسيد قطب من المجددين. وهذا يدعوني إلى القول بأن مقولة التجديد مقولة مائعة ومطاطة، ويجب أن نحدد المفاهيم لأن جزءاً كبيراً من مأساتنا هو فوضى المفاهيم والمصطلحات مما يجعلنا نعيش داخل عالم يموج بالكلمات والمصطلحات، التي تصبح بديلاً سحرياً للواقع الفعلي. ولا ضير فى أن تنطلق الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني من رأس السلطة، ولكن شريطة ألا تترك هذه المهمة لرجال الدين وحدهم لأن هذه مهمة المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية وليست مهمة مؤسسة الأزهر التى تحتاج هي نفسها للتجديد والتطوير.
الخطاب الديني السائد فى الشارع وفى الفضائيات غير الدينية وفى المدارس والجامعات المدنية (الحكومية والخاصة) هو خطاب غوغائى يتسم بالتناقض الشديد، فتارة نجد هذا الخطاب أكثر تسامحاً وتارة نجده يتسم بالعنف والحدة.
أما الخطاب الديني السائد فى الأزهر وفى المعاهد الدينية وفي الجامعات التابعة للأزهر، وكذلك لدى الجماعات والتنظيمات السلفية فهو خطاب منضبط وفقاً لتقاليد وتعاليم الفكر الأصولي، ومن ثم، فهو يقاوم بشدة كل محاولة للتجديد أو لنقد الخطاب السائد ولنا فى "إسلام البحيرى" و"فاطمة ناعوت" و"محمد عبدالله نصر" نماذج صارخة لإسكات وتصميت كل من يحاول نقد الخطاب الديني السائد، والشيء المحير أن النظام القائم ظل صامتاً ومكتوف الأيدي أمام بطش وإرهاب تلك الجماعات الضاغطة التي تصر على إبقاء الخطاب الدينى فى حالة من الجمود والتحجر والتصلب!.
تجديد الخطاب الديني هو أمر نخبوي تماماً ولا جدوى من الزج بالعامة فى مثل هذه الأمور، التي تتطلب وعياً ثقافياً ونقدياً خاصاً لن يستطيع العوام استيعابه وفهمه، فالتأويل الديني مسألة نخبوية ولا يمكن للعامة من المسلمين ممارسة هذه المنهجية من التفكير.